اختار الله بني اسرائيل ليُنقذوا أنفسهم من استعباد فرعون وليكونوا مظهرا للنّبوّة والدّين في أوّل أطوارهما وأضيق أدوارهما، فما استطاعوا أن ينهضوا حتّى بأنفسهم وإنّما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق وما نهضوا بأنفسهم إلاّ بعد موسى بزمن مع اتّصال حبل النّبوّة فيهم ومُغاداة الوحي الإلهي ومُراوحته لهم .
أمّا العرب فقد اختارهم الله لوظيفة عالميّة عامّة لما فيهم من شرف مُتأصّل واستعداد كامل وصفات مُهيّأة، فاستطاعوا أن ينهضوا بالعالم كلّه وأن يُظهروا دين الله على الدّين كلّه ...
قال الشيخ عبد الحميد بن باديس :
" وقد تقولون إنّ بني إسرائيل اختارهم الله وفضّلهم على العالمين , والجواب الذي يشهد له الواقع أنّه اختارهم ليُنقذوا أنفسهم من استعباد فرعون وليكونوا مظهرا للنّبوّة والدّين في أوّل أطوارهما وأضيق أدوارهما وهذا هو الواقع فإنّ الأمّة العربيّة استطاعت أن تنهض بالعالم كلّه وأن تُظهر دين الله على الدّين كلّه , وأمّا بنو إسرائيل فإنّهم ما استطاعوا أن ينهضوا حتّى بأنفسهم وإنّما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق وما نهضوا بأنفسهم إلاّ بعد موسى بزمن مع اتّصال حبل النّبوّة فيهم ومُغاداة الوحي الإلهي ومُراوحته لهم .
فالأمّتان العربيّة والإسرائيليّة مُتمايزتان بالأثر ومُتمايزتان بحديث القرآن عنهما وإذا تلمّسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنّهم غير مُستعدّين للقيام بنهضة عالميّة عامّة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوّة في أبلغ بيان , في قوله تعالى : (<< ونُريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ــ ــ ونُمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجُنودهما منهم ما كانوا يحذرون >>) , فالسّرّ المُتجلّي من هذه الآية هو أنّ الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يُعلّم هذا العالم الإنساني من سُنن الله في كونه ما لم يكن يُعلم وهو إخراج الضّدّ من الضّدّ وإخراج الحيّ من الميّت وإنقاذ الأمّة الضّعيفة التي لا تملك شيئا من وسائل القوّة الرّوحيّة ولا من وسائل القوّة المادّيّة ــ من استعباد الأقوياء المُتألّهين فهو مثلٌ عمليّ ضربه الله لخلاص أضعف الضّعفاء من مخالب أقوى الأقوياء وجعل المُستضعفين أئمّة وارثين وسادة غالبين والتّمكين لهم في الأرض وإراءة الأقوياء المُستعلين في الأرض عاقبة باطلهم لكيلا ييأس المُستضعفون في الأرض من روح الله وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكينا لهذا المعنى في نُفوسهم : (<< عسى ربّكم أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون >>) .
وإلى هذا المثل العملي تُشير الآية : (<< ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون >>)
وأمّا العرب فإنّهم اختِيروا لوظيفة عالميّة عامّة لما فيهم شرف مُتأصّل واستعداد كامل وصفات مُهيّأة , ولهذا كان منبع الرّسالة بمكّة وشأنها عند العرب هو شأنها فهم مُجمعون على تقديسها ولأنّها في وسط الجزيرة وصميمها ووسط الجزيرة بعيد كلّ البعد عن المُؤثّرات الخارجيّة في الطّباع والألسنة تلك المؤثّرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم , وكلّ أطراف الجزيرة لم تخلُ من لوثة في الطّباع وعُجمة في الألسنة جاءت من الاختلاط بالأجنبيّ ولا أضرّ على مُقوّمات الأمم من العروق الدّساسة , فاليمن دخلتها الدّخائل الأجنبيّة من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم , والشّام ومَشارفه كانت مُشرفة على الاستعجام والعراق والجزيرة لم يسلما من التّأثر بالطّباع الفارسيّة , فكانت هذه الأطراف تنطوي على عُروبة مُزعزعة المقوّمات ولم يُحافظ على الطّبع العربي الصّميم إلاّ صميم الجزيرة ومنه مكّة التي ظهر فيها الإسلام وهذا الوسط وإن كان عريقا في الصّفات التي تسَمّى العصر لأجلها جاهليّا , ولكنّه كان بعيدا عن الذل الذي يقتل العزّة والشّرف من النّفوس والجاهل يُمكن أن تُعلّمه والجافي يُمكن أن تُهذبه , ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزّة وإباء وشهامة تُلحقه بالرّجال .
هذا توجيه مُوجز مُقرّب لاختيار الله تعالى العرب للنّهوض بالرّسالة العامّة , وشيء آخر يرتبط بهذا وهو أنّ الله كما اختار العرب للنّهوض بالعالم كذلك اختار لسانهم ليكون لسان هذه الرّسالة وتُرجمان هذه النّهضة ولا عجب في هذا فاللّسان الذي اتّسع للوحي الإلهي لا يضيق أبدا بهذه النّهضة العالميّة مهما اتّسعت آفاقها وزخرت عُلومها , وهذا جانب لا أتحدّث عنه فقد كفانا مُؤنته أخونا الأستاذ محمّد البشير الإبراهيمي "