منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - العاشقةُ الخرساء
عرض مشاركة واحدة
قديم 2019-10-19, 07:08   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
علي قسورة الإبراهيمي
مشرف الخيمة والمنتديات الأدبيّة
 
الصورة الرمزية علي قسورة الإبراهيمي
 

 

 
إحصائية العضو









افتراضي



.../ ...
وها هو حسينٌ لا يدري ماذا يفعل.
إن عاد من العمل في المساء؛ فلا يجد إلاّ سكون المكان، مع ذلك الصمت الأبدي.
وكم يريد أن ينسى ما أصابه من لوعة الافتراق، والقلب قد أتعبه الاحتراق، والنفس أصابها الاختناق، بعد أن نأت به الأيامُ، إذ سامرت دمعه الرَّقراق. ولكنه يُخفي كل ذلك عن فاطمة..
فقد أصبح لها الوكيل المعين، والأخ الودود.
فلم تمرّ أيام على إقامتِهما في تلك البلدة، وأدخلها في مركزٍ لتتعلمَ الخياطةَ لعل ذلك يخرجها مما هي عليه.
وأمتثلت لأمره على مضضٍ.
وأصبحت كل يومٍ تُرى وهي ذاهبة صباحًا، وعائدة مساءً.
وتمرّ الأيام وهي إلى المركز في غدوٍ ورواح.
ورغم عاهتها ومصائبها وعدم الاحتكاك مع بنات جنسها. وذلك لاختلاف المشرب والمذهب، وتباعد العرق والدين. إلاّ أن فاطمة تقدمت في ذلك.. بل صارت يُشار لها بالبنان في فن الخياطة والطرز والتفصيل.
مما حدى بمديرة المركز أن تشيرَ عليها أن تتعلّم مبادئ القراءة والكتابة بلغة القوم، وسوف ترى أي مستقبل تحياه.
فقبلت فاطمة، ولكن أخفت ذلك عن حسين لشيء في نفسها.
وهكذا أصبحا لا يلتقيان إلاّ عندما يحين المساء.
ومع ذلك الصمت الرهيب، مع دجى ظلامٍ يبقى جاثمًا، ولا يبدده سوى ضوء سراجٍ خافت.
وحتى عند تناول الطعام لم يلمحها حسين أن تناولت معه، أو قاسمته وجبة عشاءٍ.
دأبها أنها تقدّم له ما قامت بطهيهِ ثم تعود إلى مكانها في طرفٍ من الغرفة تنظر إليه في صمتها المعهود.
وكأنّ قلبها صار صخرًا مبثوثا بين أحجاره، عساه يعلُّ ويغلُّ.
في هذا المساء تعب حسين من هذا..
إنه العذاب مع العيش الضنك.. وخارت قِواه فصرخ في وجهها:
ـــ ارحميني.. ارحميني! فلم أعد أحتمل.. فأنا كذلك فقدتُ كل شيءٍ.
لماذا تزيدينني بفواجع ومواجع فيكِ، وقد فقدتُ من الأهلِ والأخلاّءِ مثلكِ أو يزيد؟.
ثم زمجر وثار كالمجنون .. وهو يقول:
ـــ ألا يكفُّ هذا الدهر، عن هذا الأسى الذي لا يتوقّف؟ أما آن لهذه الأشجان أن تنتهي؟ .. تعبتُ ! تعبتُ وقد سلّمتُ أمري، واستسلمتُ للمصائب طوعًا وخضوعًا وخنوعا..
ليت المنيّةَ رمت بنا في ذلك الوادي السحيق، وأخذتنا كما أخذت الآخرون ..لَكُنَّا قد ارتحنا من هذا العيش الخانق للشهيق والزفير.
لماذا لا يتوقّف يومًا، أو ساعةً، أو حتّى هنيهةً هذا الأذى والإيجاع؟
أَ مِن العدل أن نُرمى هكذا في بقعةٍ من الأرض لا نعرف شيئًا عنها من خريطة الكون؟!
أ نُقذَف هكذا كشهبٍ انفصلت عن كواكبها نزقًا أو غضبًا لشعورها بفراغ ممل لدورانها، وتاهت بين الأفلاك عن مدارها، وخرجت بدون وعي منها عن خط سيرها؟ أهكذا نحن يا بنت العم؟.
صدقيني يافاطمة.
قد تندثر الأرضُ، والجبال تلقي حِممًا متزاحمةً مترامية، أو تصبح كالعهن المنفوش، وقد تتبخّر البحارُ والمحيطات ويصير ماؤها كُتَلاً من الركام وقتامًا من السحاب، أو تصير براكينَ هائجةً مائجةً لا تُبقي ولا تذر، وتُطوى السماواتُ كطي السجل للكتب أهون عليَّ من أن أراكِ هكذا.. آه يا فاطمة .. فأنا وأنتِ من بقي من الأهل والأحباب. فقد خسرتُ كل شيءٍ، و لستُ على استعداد أن أخسركِ يا أختاهُ الصغيرة .
ثم سكت ممتلئًا غضبًا مشوبًا بالحزن.
فما كان من فاطمة أن قامت وذهبت لتقبّل يده كعادتِها قبل أن تذهبَ إلى النوم في طرف من أطراف الغرفة.
وبقي حسين ساهرًا يفكّر في الأمر .
لعلّه يجد هدى.
أحبّتي وخِلاّني..
لا تضجروا إن المقام سوف يطول.

... يتبع










آخر تعديل علي قسورة الإبراهيمي 2019-10-19 في 07:09.
رد مع اقتباس