منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - لكل من يبحث عن مرجع سأساعده
عرض مشاركة واحدة
قديم 2018-03-08, 18:19   رقم المشاركة : 3053
معلومات العضو
hano.jimi
عضو محترف
 
الصورة الرمزية hano.jimi
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة همسة أحلام مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
ارجو مراجع عن المدرسة الاسلامية
المدرسة الاسلامية

تأليف: الامام محمد باقر الصدر



كلمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم



قبل ثلاث سنوات قمنا بمحاولة متواضعة: لدراسة أعمق الأسس التي تقوم عليها الماركسية والإسلام، وكان كتاب فلسفتنا تعبيراً عن هذه المحاولة، ونقطة انطلاق لتفكير متسلسل يحاول أن يدرس الإسلام من القاعدة الى القمة.

وهكذا صدر «فلسفتنا»، وتلاه بعد سنتين تقريباً «اقتصادنا»، ولا يزال الشقيقان الفكريان بانتظار أشقاء آخرين، لتكتمل المجموعة الفكرية التي نأمل تقديمها الى المسلمين.

وقد لاحظنا منذ البدء ـ بالرغم من الإقبال المنقطع النظير الذي قوبلت به هذه المجموعة، حتى نفد كتاب فلسفتنا خلال عدة أسابيع تقريباً ـ أقول لاحظنا مدى التفاوت بين الفكر الإسلامي في مستواه العالي، وواقع الفكر الذي نعيشه في بلادنا بوجه عام، حتى صعب على كثير مواكبة ذلك المستوى العالي إلاّ بشيء كثير من الجهد. فكان لا بد من حلقات

{6}

متوسطة يتدرج خلالها القارئ الى المستوى الأعلى، ويستعين بها على تفهم ذلك المستوى. وهنا نشأت فكرة: «المدرسة الإسلامية» أي محاولة إعطاء الفكر الإسلامي في مستوى مدرسي، ضمن حلقات متسلسلة تسير في اتجاه موازي للسلسلة الرئيسية: «فلسفتنا، واقتصادنا»، وتشترك معها في حمل الرسالة الفكرية للإسلام وتتفق وإياها في الطريقة والأهداف الرئيسية، وإن اختلفت في الدرجة والمستوى.

وحددنا خلال التفكير في إصدار «المدرسة الإسلامية» خصائص الفكر المدرسي، التي يتكون منها الطابع العام والمزاج الفكري للمدرسة الإسلامية التي نحاول إصدارها.

وتتلخص هذه الخصائص فيما يلي:

1 ـ ان الغرض المباشر من «المدرسة الإسلامية» الاقناع أكثر من الإبداع، ولهذا فهي قد تستمد موادها الفكرية من «فلسفتنا» و«اقتصادنا» وأشقائهما الفكريين، وتعرضها في مستواها المدرسي الخاص، ولا تلتزم في أفكارها أن تكون معروضة لأول مرة.

2 ـ لا تتقيد «المدرسة الإسلامية» بالصيغة البرهانية للفكرة دائماً، فالطابع البرهاني فيها أقل بروزاً منه في أفكار «فلسفتنا» وأشقائها، وفقاً لدرجة السهولة والتبسيط المتوخاة في الحلقات المدرسية.

{7}

3 ـ تعالج «المدرسة الإسلامية» نطاقاً فكرياً أوسع من المجال الفكري الذي تباشره «فلسفتنا» وأشقاؤها، لأنها لا تقتصر على الجوانب الرئيسية في الهيكل الإسلامي العام، وإنما تتناول أيضاً النواحي الجانبية من التفكير الإسلامي، وتعالج شتى الموضوعات الفلسفية أو الاجتماعية أو التاريخية أو القرآنية التي تؤثر في تنمية الوعي الإسلامي وبناء وتكميل الشخصية الإسلامية، من الناحية الفكرية والروحية.

وقد قدر الله تعالى أن تلتقي فكرة «المدرسة الإسلامية» بفكرة أخرى عن تمهيد فلسفتنا، فتمتزج الفكرتان وتخرجان الى النور في هذا الكتاب.

وكانت الفكرة الأخرى من وحي الإلحاح المتزايد من قرائنا الأعزاء على إعادة طبع كتاب فلسفتنا، وكنت استميحهم فرصة لإنجاز الحلقة الثالثة: «اقتصادنا»، والقيام بمحاولة توسعة وتبسيط البحوث التي عالجناها في «فلسفتنا» قبل أن نستأنف طبعه للمرة الثانية، الأمر الذي يتطلب فراغاً لا أملكه الآن.

وعلى هذا الأساس أخذت رغبة القراء الأعزاء تتجه نحو تمهيد كتاب «فلسفتنا»، بالذات، لأن إعادة طبعه لا تكلف الجهد الذي يتطلبه استئناف طبع الكتاب كله. وكانت الطلبات التي ترد لا تدع مجالاً للشك في ضرورة استجابة الطلب.

{8}

وهنا التقت الفكرتان، فلماذا لا يكون تمهيد كتاب فلسفتنا هو الحلقة الأولى من سلسلة المدرسة الإسلامية؟.

وهكذا كان.

ولكنا لم نكتف بطبع التمهيد فحسب، بل ادخلنا عليه بعض التعديلات الضرورية، وأعطينا بعض مفاهيمه شرحاً أوسع، كمفهومه عن غريزة حب الذات، وأضفنا اليه فصلين مهمين: أحدهما: «الإنسان المعاصر وقدرته على حل المشكلة الاجتماعية»، وهو الفصل الاول في الكتاب، يتناول مدى امكانات الإنسانية لوضع النظام الاجتماعي الكفيل بسعادتها وكمالها. والآخر: موقف الإسلام من الحرية والضمان، وهو الفصل الأخير من الكتاب قمنا فيه بدراسة مقارنة لموقف الإسلام والرأسمالية من الحرية، وموقف الإسلام والماركسية من الضمان.

وبهذا تضاعف التمهيد واكتسب إسمه الجديد، «الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية»، بوصفه «الحلقة الأولى» من «المدرسة الإسلامية» والله ولي التوفيق.

محمد باقر الصدر



الإنسان المعَاصِر وَقُدرته عَلّى حَل المشكلة الاجتماعيّة

{11}

بسِم اللهِ الرحمَن الرحّيم

مشكلة الإنسانية اليوم:

إن مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم، وتمس واقعها بالصميم، هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخص في إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي:

ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟.

ومن الطبيعي أن تحتل هذه المشكلة مقامها الخطير، وأن تكون في تعقيدها وتنوع ألوان الاجتهاد في حلها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها. لأن النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية، ومؤثر في كيانها الاجتماعي بالصميم.

وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تاريخ البشرية، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقعة الحياة

{12}

الاجتماعية، وانبثقت الإنسانية الجماعية تتمثل في عدة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة. فان هذه العلاقات في حاجة ـ بطبيعة الحال ـ الى توجيه وتنظيم شامل، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه، يتوقف استقرار المجتمع وسعادته.

وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفكرية والسياسية.. الى خوض جهاد طويل وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع، وبشتى مذاهب العقل البشري، التي ترمي الى إقامة الصرح الإجتماعي وهندسته، ورسم خططه ووضع ركائزه. وكان جهاداً مرهقاً يضج بالمآسي والمظالم، ويزخر بالضحكات والدموع، وتقترن فيه السعادة بالشقاء. كل ذلك لما كان يتمثل في تلك الألوان الاجتماعية من مظاهر الشذوذ والانحراف، عن الوضع الاجتماعي الصحيح. ولولا ومضات شعت في لحظات من تاريخ هذا الكوكب، لكان المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرة، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.

ولا نريد أن نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي، لأننا لا نقصد بهذه الدراسة أن نؤرخ للإنسانية المعذبة، وأجوائها التي تقلبت فيها منذ الآماد

{13}

البعيدة، وإنما نريد أن نواكب الإنسانية في واقعها الحاضر وفي أشواطها التي انتهت اليها، لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي اليها الشوط، والساحل الطبيعي الذي لا بد للسفينة أن تشق طريقها اليه وترسو عنده، لتصل الى السلام والخير وتؤوب الى حياة مستقرة، يعمرها العدل والسعادة.. بعد جهد وعناء طويلين وبعد تطواف عريض في شتى النواحي ومختلف الاتجاهات.

والواقع إن إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعية أشد من إحساسه بها في أي وقت مضى من أدوار التاريخ القديم. فهو الآن أكثر وعياً لموقفه من المشكلة وأقوى تحسساً بتعقيداتها، لأن الإنسان الحديث أصبح يعي أن المشلكة من صنعه. وأن النظام الاجتماعي لا يفرض عليه من أعلى بالشكل الذي تفرض عليه القوانين الطبيعية، التي تتحكم في علاقات الإنسان بالطبيعة. على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحايين الى النظام الاجتماعي وكأنه قانون طبيعي، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرة. فكما لا يستطيع أن يطور من قانون جاذبية الأرض، كذلك لا يستطيع أن يغير العلاقات الاجتماعية القائمة. ومن الطبيعي أن الإنسان حين بدأ يؤمن بأن هذه العلاقات مظهر من مظاهر السلوك، التي يختارها الإنسان نفسه، ولا يفقد إرادته في

{14}

مجالها.. أصبحت المشكلة الاجتماعية تعكس فيه ـ في الإنسان الذي يعيشها فكرياً ـ مرارة ثورية بدلاً من مرارة الإستسلام.

والإنسان الحديث من ناحية أخرى أخذ يعاصر تطوراً هائلاً في سيطرة الإنسانية على الطبيعة لم يسبق له نظير. وهذه السيطرة المتنامية بشكل مرعب وبقفزات العمالقة، تزيد في المشكلة الاجتماعية تعقيداً وتضاعف من أخطارها، لانها تفتح بين يدي الإنسان مجالات جديدة وهائلة للاستغلال، وتضاعف من أهمية النظام الاجتماعي، الذي يتوقف عليه تحديد نصيب كل فرد من تلك المكاسب الهائلة، التي تقدمها الطبيعة اليوم بسخاء للإنسان.

وهو بعد هذا يملك من تجارب سلفه ـ على مر الزمن ـ خبرة أوسع وأكثر شمولاً وعمقاً من الخبرات الاجتماعية، التي كان الإنسان القديم يمتلكها ويدرس المشكلة الاجتماعية في ضوئها. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الخبرة الجديدة أثرها الكبير في تعقيد المشكلة، وتنوع الآراء في حلها والجواب عليها.



الإنسانية ومعالجتها للمشكلة:

نريد الآن ـ وقد عرفنا المشكلة، أو السؤال الأساسي الذي واجهته الإنسانية منذ مارست وجودها الاجتماعي الواعي، وتفننت في المحاولات التي قدمتها للجواب عليه عبر تاريخها المديد ـ نريد وقد عرفنا ذلك.. أن نلقي نظرة عى ما تملكه الإنسانية اليوم، وفي كل زمان، من الامكانات والشروط الضرورية لإعطاء الجواب الصحيح على ذلك السؤال الأساسي السالف الذكر: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية.

فهل في مقدور الإنسانية أن تقدم هذا الجواب؟.

وما هو القدر الذي يتوفر ـ في تركيبها الفكري والروحي ـ من الشروط اللازمة للنجاح في ذلك؟.

وما هي نوعية الضمانات التي تكفل للإنسانية نجاحها في الامتحان، وتوفيقها في الجواب الذي تعطيه على السؤال، وفي الطريقة التي تختارها لحل المشكلة الاجتماعية، والتوصل الى النظام الأصلح الكفيل بسعادة الإنسانية وتصعيدها الى أرفع المستويات؟.

وبتعبير أكثر وضوحاً: كيف تستطيع الإنسانية المعاصرة

{16}

أن تدرك مثلاً: ان النظام الدمقراطي الرأسمالي، او دكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية أو غيرهما.. هو النظام الأصلح وإذا أدركت هذا او ذاك، فما هي الضمانات التي تضمن لها أنها على حق وصواب في إدراكها؟

ولو ضمنت هذا أيضاً، فهل يكفي إدراك النظام الأصلح ومعرفة الإنسان به لتطبيقه وحل المشكلة الاجتماعية على أساسه، أو يتوقف تطبيق النظام على عوامل اخرى قد لا تتوفر بالرغم من معرفة صلاحه وجدارته؟.

وترتبط هذه النقاط التي أثرناها الآن الى حد كبير بالمفهوم العام عن المجتمع والكون، ولذلك تختلف طريقة معالجتها من قبل الباحثين، تبعاً لاختلاف مفاهيمهم العامة عن ذلك ولنبداً بالماركسية.



رأي الماركسية:

ترى الماركسية أن الإنسان يتكيف روحياً وفكرياً وفقاً لطريقة الانتاج، ونوعية القوى المنتجة. فهو بصورة مستقلة عنها لا يمكنه أن يفكر تفكيراً اجتماعياً، أو أن يعرف ما هو النظام الأصلح؟. وإنما القوى المنتجة هي التي تملي عليه هذه المعرفة، وتتيح له الجواب على السؤال الأساسي الذي طرحناه

{17}

في فاتحة الحديث، وهو بدوره يردد صداها بدقة وأمانة. فالطاحونة الهوائية مثلاً، تبعث في الإنسانية الشعور بأن النظام الاقطاعي هو النظام الأصلح، والطاحونة البخارية التي خلفتها تلقن الإنسان: أن النظام الرأسمالي هو الأجدر بالتطبيق ووسائل الانتاج الكهربائية والذرية اليوم، تعطي المجتمع مضموناً فكرياً جديداً يؤمن بأن الأصلح هو النظام الاشتراكي.

فقدرة الإنسانية على ادراك النظام الأصلح، هي تماماً قدرتها على ترجمة المدلول الاجتماعي للقوى المنتجة وترديد صداها.

واما الضمانات التي تكفل للإنسانية صوابها وصحة ادراكها ونجاحها في تصورها للنظام الأصلح.. فهي تتمثل في حركة التاريخ السائرة الى الامام دوماً. فما دام التاريخ في رأي الماركسية يتسلق الهرم، ويزحف بصورة تصاعدية دائماً، فلابد أن يكون الإدراك الاجتماعي الجديد للنظام الأصلح هو الادراك الصحيح. واما الادراك التقليدي القديم فهو خاطئ، ما دام قد تكوّن ادراك اجتماعي أحدث منه. فالذي يضمن للإنسان السوفياتي اليوم صحة رأيه الاجتماعي، هو ان هذا الرأي يمثل الجانب الجديد من الوعي الاجتماعي، ويعبر عن مرحلة جديدة من التاريخ، فيجب أن يكون صحيحاً دون غيره من الآراء القديمة.

صحيح ان بعض الأفكار الاجتماعية قد تبدو جديدة

{18}

ـ بالرغم من زيفها ـ كالفكر النازي في النصف الأول من هذا القرن، حيث بدا وكأنه تعبير عن تطور تاريخي جديد. ولكن سرعان ما تنكشف أمثال هذه الأفكار المقنعة، ويظهر خلال التجربة انها ليست إلا رجعاً للأفكار القديمة، وتعبيراً عن مراحل تاريخية بالية، وليست أفكاراً جديدة بمعنى الكلمة.

وهكذا تؤكد الماركسية: على ان جدة الفكر الاجتماعي (بمعنى انبثاقه عن ظروف تاريخية جديدة التكون) هي الكفيلة بصحته ما دام التاريخ في تجدد ارتقائي.

وهناك شيء آخر وهو: ادراك الإنسانية اليوم مثلاً للنظام الاشتراكي ـ بوصفه النظام الأصلح -، لا يكفي في رأي الماركسية لإمكان تطبيقه، مالم تخض الطبقة التي تنتفع بهذا النظام اكثر من سواها ـ وهي الطبقة العاملة في مثالنا ـ صراعاً طبقياً عنيفاً، ضد الطبقة التي من مصلحتها الاحتفاظ بالنظام السابق. وهذا الصراع الطبقي المسعور يتفاعل مع ادراك النظام الأصلح، فيشتد الصراع كلما نمى هذا الإدراك وازداد وضوحاً، وهو بدوره يعمّق الادراك وينميه كلما اشتد واستفحل.

***

{19}

ووجهة النظر الماركسية هذه تقوم على أساس مفاهيم المادية التاريخية، التي نقدناها في دراستنا الموسعة للماركسية الاقتصادية (1).

وما نضيفه الآن تعلية على ذلك هو: ان التاريخ نفسه يبرهن على ان الأفكار الاجتماعية بشأن تحديد نوعية النظام الأصلح.. ليست من خلق القوى المنتجة، بل للإنسان اصالته وابداعه في هذا المجال، بصورة مستقلة عن وسائل الانتاج وإلاّ فكيف تفسر لنا الماركسية ظهور فكرة التأميم، والاشتراكية وملكية الدولة في فترات زمنية متباعدة من التاريخ؟!. فلو كان الايمان بفكرة التأميم ـ بوصفه النظام الأصلح كما يؤمن الإنسان السوفياتي اليوم ـ نتيجة لنوعية القوى المنتجة السائدة اليوم فما معنى ظهور الفكرة نفسها في أزمنة سحيقة لم تكن تملك من هذه القوى المنتجة شيئاً.

أفلم يكن افلاطون يؤمن بالشيوعية ويتصور مدينته الفاضلة على أساس شيوعي؟!، فهل كان ادراكه هذا من معطيات الوسائل الحديثة في الانتاج التي لم يكن الاغريق يملك منها شيئاً؟!.

ماذا أقول؟!، بل ان الأفكار الاشتراكية بلغت قبل الفين

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع اقتصادنا ص 3 ـ 196.

{20}

من السنين، من النضج والعمق في ذهنية بعض كبار المفكرين السياسيين: درجة أتاحت لها مجالاً للتطبيق كما يطبقها الإنسان السوفياتي اليوم، مع بعض الفروق. فهذا (وو ـ دي) أعظم الأباطرة الذين حكموا الصين من أسرة (هان)، كان يؤمن في ضوء خبرته وتجاربه بالاشتراكية، باعتبارها النظام الأصلح. فقام بتطبيقها عام (140 ـ 187 ق م): فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكاً للأمة، وأمم صناعات استخراج الملح والحديد وعصر الخمر. وأراد أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين في جهاز التجارة: فأنشأ نظاماً خاصاً للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة، وسعى بذلك للسيطرة على التجارة، حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي. فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شؤون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد، وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الإرتفاع فوق ما يجب، كما تشتريها إذا انخفضت الأسعار. وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة، ليوجد بذلك عملاً لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم.

وكذلك اعتلى العرش في بداية التاريخ المسيحي (وانج مانج) فتحمس بايمان لفكرة الغاء الرق، والقضاء على العبودية ونظام الاقطاع، كما آمن الأوروبيون في بداية العصر الرأسمالي..

{21}

والغى الرق، وانتزع الأراضي من الطبقة الاقطاعية، وأمم الأرض الزراعية، وقسمها قسماً متساوية ووزعها على الزراع وحرم بيع الأراضي وشراءها ليمنع بذلك من عودة الأملاك الواسعة الى ما كانت عليه من قبل، وأمم المناجم وبعض الصناعات الكبرى.

فهل يمكن أن يكون (وو ـ دي) أو (وانج مانج).. قد استوحيا ادراكهما الاجتماعي ونهجهما السياسي هذا من قوى البخار، أو قوى الكهرباء أو الذرة، التي تعتبرها الماركسية اساساً للتفكير الاشتراكي.

وهكذا نستنتج: إنّ ادراك هذا النظام أو ذاك ـ بوصفه النظام الأصلح ـ ليس صنيعة لهذه الوسيلة من وسائل الإنتاج أو تلك.

كما ان الحركة التقدمية للتاريخ، التي تبرهن الماركسية عن طريقها على: ان جدة الفكر تضمن صحته.. ليست إلاّ اسطورة اخرى من أساطير التاريخ، فان حركات الانتكاس وذوبان الحضارة كثيرة جداً.



رأي المفكرين غير الماركسيين:

وأما المفكرون غير الماركسيين فهم يقررون عادة: أن قدرة الإنسان على ادراك النظام الأصلح.. تنمو عنده من خلال التجارب الإجتماعية التي يعيشها. فحينما يطبق الإنسان الإجتماعي نظاماً معيناً ويجسده في حياته.. يستطيع أن يلاحظ من خلال تجربته لذلك النظام: الأخطاء ونقاط الضعف المستترة فيها، والتي تتكشف له على مر الزمن، فتمكنه من تفكير اجتماعي أكثر بصيرة وخبرة.. وهكذا يكون بامكان الإنسان أن يفكر في النظام الاصلح، ويضع جوابه على السؤال الأساسي في ضوء تجاربه وخبرته. وكلما تكاملت وكثرت تجاربه أو الأنظمة التي جرّبها، ازداد معرفة وبصيرة، وصار اكثر قدرة على تحديد النظام الأصلح وتصور معالمه.

فسؤالنا الأساسي: ما هو النظام الأصلح؟.. ليس إلاّ كسؤال: ما هي أصلح طريقة لتدفئة السكن؟.. هذا السؤال الذي واجهه الإنسان منذ أحس بالبرد، وهو في كهفه أو مغارته، فأخذ يفكر في الجواب عليه، حتى اهتدى في ضوء ملاحظاته أو تجاربه العديدة الى طريقة إيجاد النار. وظل يثابر ويجاهد في سبيل الحصول على جواب أفضل عبر تجاربه

{23}

المديدة، حتى انتهى أخيراً الى اكتشاف الكهرباء واستخدامه في التدفئة.

وكذلك آلاف المشاكل التي كانت تعترض حياته، فأدرك طريقة حلها خلال التجربة، وازداد إدراكه دقة كلما كثرت التجربة: كمشكلة الحصول على أصلح دواء للسل، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، أو أسرع واسطة للنقل والسفر أو أفضل طريقة لحياكة الصوف... وما الى ذلك من مشاكل وحلول.

فكما استطاع الإنسان أن يحل هذه المشاكل، ويضع الجواب عن تلك الأسئلة من خلال تجاربه.. كذلك يستطيع أن يجيب على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟!، من خلال تجاربه الاجتماعية، التي تكشف له عن سيئات ومحاسن النظام المجرّب، وتبرز ردود الفعل له على الصعيد الاجتماعي.



الفرق بين التجربة الطبيعية والاجتماعية:

وهذا صحيح الى درجة ما: فان التجربة الاجتماعية تتيح للإنسان أن يقدم جوابه على سؤال: ما هو النظام الأصلح؟ كما أتاحت له تجارب الطبيعة أن يجيب على الأسئلة الأخرى العديدة، التي اكتنفت حياته منذ البداية.

{24}

ولكننا يجب أن نفرّق ـ إذا أردنا أن ندرس المسألة على مستوى أعمق ـ: بين التجارب الاجتماعية التي يكون الإنسان خلالها إدراكه للنظام الأصلح، وبين التجارب الطبيعية التي يكتسب الإنسان خلالها معرفته بأسرار الطبيعة وقوانينها وطريقة الاستفادة منها: كأنجح دواء، أو أسرع واسطة للسفر، أو أفضل طريقه للحياكة، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط، او انجع طريقة لفلق الذرة مثلاً.

فإن التجارب الاجتماعية ـ أي تجارب الإنسان الاجتماعي للأنظمة الاجتماعية المختلفة ـ لا تصل في عطائها الفكري الى درجة التجارب الطبيعية ـ: وهي تجارب الإنسان لظواهر الطبيعة ـ، لأنها تختلف عنها في عدة نقاط. وهذا الاختلاف يؤدي الي تفاوت قدرة الإنسان على الاستفادة من التجارب الطبيعية والاجتماعية. فبينما يستطيع الإنسان أن يدرك أسرار الظواهر الطبيعية، ويرتقي في ادراكه هذا الى ذروة الكمال على مر الزمن، بفضل التجارب الطبيعية والعلمية.. لا يسير في مجال ادراكه الاجتماعي للنظام الأصلح إلاّ سيراً بطيئاً ولا يتأتى له بشكل قاطع أن يبلغ الكمال في ادراكه الاجتماعي هذا، مهما توافرت تجاربه الاجتماعية وتكاثرت.

ويجب علينا ـ لمعرفة هذا ـ أن ندرس تلك الفروق

{25}

المهمة، بين طبيعة التجربة الاجتماعية والتجربة الطبيعية.. لنصل الى الحقيقة التي قررناها وهي: أن التجربة الطبيعية قد تكون قادرة على منح الإنسان عبر الزمن فكرة كاملة عن الطبيعة، يستخدمها في سبيل الاستفادة من ظواهر الطبيعة وقوانينها، وأما التجربة الاجتماعية: فهي لا تستطيع أن تضمن للإنسان ايجاد هذه الفكرة الكاملة، عن المسألة الاجتماعية.

وتتلخص أهم تلك الفروق فيما يلي:

أولا: أن التجربة الطبيعية يمكن أن يباشرها ويمارسها فرد واحد، فيستوعبها بالملاحظة والنظرة، ويدرس بصورة مباشرة كل ما ينكشف خلالها من حقائق وأخطاء، فينتهي من ذلك الى فكرة معينة ترتكز على تلك التجربة.

وأما التجربة الاجتماعية فهي عبارة عن تجسيد النظام المجرب في مجتمع وتطبيقه عليه، فتجربة النظام الاقطاعي أو الرأسمالي مثلاً تعني: ممارسة المجتمع لهذا النظام فترة من تاريخه وهي لاجل ذلك لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد ويستوعبها وإنما يقوم بالتجربة الاجتماعية المجتمع كله، وتستوعب مرحلة تاريخية من حياة المجتمع أوسع كثيراً من هذا الفرد أو ذاك. فالإنسان حين يريد أن يستفيد من تجربة اجتماعية، لا يستطيع

{26}

أن يعاصرها بكل أحداثها، كما كان يعاصر التجربة الطبيعية حين يقوم بها، إنما يعاصر جانباً من أحداثها، ويتحتم عليه أن يعتمد في الاطلاع على سائر ظواهر التجربة ومضاعفاتها.. على الحدس والاستنتاج والتاريخ.

ثانياً: ان التفكير الذي تبلوره التجربة الطبيعية، أكثر موضوعية ونزاهة، من التفكير الذي يستمده الإنسان من التجربة الاجتماعية.

وهذه النقطة من أهم النقاط الجوهرية، التي تمنع التجربة الاجتماعية من الارتفاع الى مستوى التجربة الطبيعية والعلمية فلا بد من جلائها بشكل كامل.

ففي التجربة الطبيعية، ترتبط مصلحة الإنسان ـ الذي يصنع تلك التجربة ـ باكتشاف الحقيقة، الحقيقة كاملة صريحة دون مواربه، وليس له ـ في الغالب ـ أدنى مصلحة بتزوير الحقيقة أو طمس معالمها، التي تتكشف خلال التجربة. فإذا أراد ـ مثلاً ـ أن يجرب درجة تأثر جراثيم السل بمادة كيماوية معينة، حين القائها في محيط تلك الجراثيم، فسوف لا يهمه إلاّ معرفة درجة تأثرها، مهما كانت عالية أو منخفضة، ولن ينفعه في علاج السل ومكافحته أن يزور الحقيقة، فيبالغ في درجة تأثرها أو يهوّن منها. وعلى هذا الأساس يتجه تفكير المجرب ـ في العادة ـ اتجاهاً موضوعياً نزيهاً.

{27}

وأما في التجربة الاجتماعية، فلا تتوقف مصلحة المجرّب دائماً على تجلية الحقيقة، واكتشاف النظام الاجتماعي الأصلح لمجموع الإنسانية، بل قد يكون من مصلحته الخاصة: ان يستر الحقيقة عن الأنظار. فالشخص الذي ترتكز مصالحه على نظام الرأسمالية والاحتكار، أو على النظام الربوي للمصارف مثلاً. سوف يكون من مصلحته جداً أن تجيء الحقيقة مؤكدة لنظام الرأسمالية والاحتكار والربا المصرفي، بوصفه النظام الأصلح حتى تستمر منافعه التي يدرها عليه ذلك النظام. فهو إذن ليس موضوعياً بطبيعته، ما دام الدافع الذاتي يحثه على اكتشاف الحقيقة باللون الذي يتفق مع مصالحه الخاصة.

وكذلك الشخص الآخر، الذي تتعارض مصلحته الخاصة مع الربا او الاحتكار، لا يهمه شيء كما يهمه ان تثبت الحقيقة بشكل يدين الأنظمة الربوية والاحتكارية. فهو حينما يريد أن يستنتج الجواب على المسألة الاجتماعية: (ما هو النظام الأصلح؟) من خلال دراسته الاجتماعية، يقترن دائماً بقوة داخلية تحبذ له وجهة نظر معينة، وليس شخصاً محايداً بمعنى الكلمة.

وهكذا نعرف: ان تفكير الإنسان في المسألة الاجتماعية لا يمكن ـ عادة ـ أن تضمن له الموضوعية والتجرد عن الذاتية بالدرجة التي يمكن ضمانها في تفكير الإنسان حين يعالج تجربة طبيعية، ومسألة من مسائل الكون.

{28}

ثالثاً: وهب ان الإنسان استطاع أن يتحرر فكرياً من دوافعه الذاتية، ويفكر تفكيراً موضوعياً، ويكشف الحقيقة وهي: ان هذا النظام أو ذاك هو النظام الأصلح لمجموع الإنسانية.. ولكن من الذي يضمن اهتمامه بمصلحة مجموع الإنسانية إذا لم تلتق بمصلحته الخاصة؟!، ومن الذي يكفل سعيه في سبيل تطبيق ذلك النظام الأصلح للإنسانية اذا تعارض مع مصالحه الخاصة؟!. فهل يكفي ـ مثلاً ـ ايمان الرأسماليين بأن النظام الاشتراكي أصلح سبباً لتطبيقهم للاشتراكية ورضاهم عنها، بالرغم من تناقضها مع مصالحهم؟!، أو هل يكفي ايمان الإنسان المعاصر (انسان الحضارة الغربية) ـ في ضوء تجاربه التي عاشها ـ بالخطر الكامن في نظام العلاقات بين الرجل والمرأة، القائم على أساس الخلاعة والأباحية.. هل يكفي ايمانه بما تشتمل عليه هذه العلاقات من خطر الميوعة والذوبان على مستقبل الإنسان وغده.. لاندفاعه الى تطوير تلك العلاقات بالشكل الذي يضمن للإنسانية مستقبلها ويحميها من الذوبان الجنسي والشهوي، ما دام لايشعر بخطر معاصر على واقعه الذي يعيشه، وما دامت تلك العلاقات توفر له كثيراً من ألوان المتعة واللذة؟؟!!

نحن اذن وفي هذا الضوء، نشعر بحاجة لا الى اكتشاف النظام الأصلح لمجموع الإنسانية فحسب، بل الى دافع يجعلنا

{29}

نعنى بمصالح الإنسانية ككل، ونسعى الى تحقيقها، وان اختلفت مع مصالح الجزء الذي نمثله من ذلك الكل.

رابعاً: ان النظام الذي ينشئه الإنسان الاجتماعي، ويؤمن بصلاحه وكفاءته، لا يمكن أن يكون جديراً بتربية هذا الإنسان، وتصعيده في المجال الإنساني الى آفاق أرحب.. لأن النظام الذي يصنعه الإنسان الاجتماعي، يعكس دائماً واقع الإنسان الذي صنعه، ودرجته الروحية والنفسية. فاذا كان المجتمع يتمتع بدرجة منخفضة من قوة الارادة وصلابتها مثلاً لم يكن ميسوراً له أن يربي ارادته وينميها، بايجاد نظام اجتماعي صارم، يغذي الارادة ويزيد من صلابتها.. لأنه ما دام لا يملك ارادة صلبة، فهو لا يملك القدرة على ايجاد هذا النظام ووضعه موضع التنفيذ وانما يضع النظام الذي يعكس ميوعة ارادته وذوبانها. وإلا فهل ننتظر من مجتمع لا يملك ارادته ازاء إغواء الخمورة ـ مثلاً ـ واغراءها، ولا يتمتع بقدرة الترفع عن شهوة رخيصة كهذه.. هل ننتظر من هذا المجتمع: ان يضع موضع التنفيذ نظاماً صارماً يحرّم أمثال تلك الشهوات الرخيصة، ويربي في الإنسان ارادته، ويرد اليه حريته ويحرره من عبودية الشهوة واغرائها؟!!. كلا طبعاً. فنحن لا نترقب الصلابة من المجتمع الذائب، وان أدرك اضرار هذا الذوبان ومضاعفاته. ولا نأمل من المجتمع الذي تستعبده شهوة الخمرة

{30}

ان يحرر نفسه بارادته، مهما احس بشرور الخمرة وآثارها.. لأن الاحساس انما يتعمق ويتركز لدى المجتمع إذا استرسل في ذوبانه وعبوديته للشهوة واشباعها، وهو كلما استرسل في ذلك اصبح أشد عجزاً عن معالجة الموقف، والقفز بانسانيته الى درجات أعلى.

وهذا هو السبب الذي جعل الحضارات البشرية التي صنعها الإنسان، تعجز عادة عن وضع نظام يقاوم في الإنسان عبوديته لشهوته، ويرتفع به إلى مستوى انساني أعلى. حتى لقد اخفقت الولايات المتحدة ـ وهي أعظم تعبير عن اضخم الحضارات التي صنعها الإنسان ـ في وضع قانون تحريم الخمرة موضع التنفيذ لأن من التناقض أن نترقب من المجتمع الذي استسلم لشهوة الخمرة وعبوديتها، أن يسن القوانين التي ترتفع به من الحضيض الذي اختاره لنفسه. بينما نجد ان النظام الاجتماعي الإسلامي الذي جاء به الوحي، قد استطاع بطريقته الخاصة في تربية الإنسانية ورفعها الي اعلى أن يحرم الخمرة وغيرها من الشهوات الشريرة، ويخلق في الإنسان الارادة الواعية الصلبة .

***

ولم يبق علينا ـ بعد أن أوضحنا جانباً من الفروق الجوهرية بين التجربة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بأسره والتجربة

{31}

الطبيعية التي يمارسها المجرب نفسه ـ إلا ان نثير السؤال الأخير في مجال المسألة التي ندرسها (مسألة مدى قدرة الإنسان في حقل التنظيم الاجتماعي، واختيار النظام الأصلح.)، وهذا هو السؤال: ما هي قيمة المعرفة العلمية في تنظيم حياة الجماعة وإرساء الحياة الاجتماعية، والنظام الاجتماعي على أساس علمي من التجارب الطبيعية، التي تملك من الدقة ما تتسم به التجارب في مجال الفيزياء والكيمياء، ونتخلص بذلك من نقاط الضعف التي درسناها في طبيعة التجربة الاجتماعية؟؟.

وبكلمة اخرى: هل في الامكان الاستغناء ـ لدى تنظيم الحياة الاجتماعية والتعرف على النظام الأصلح ـ عن دراسة تاريخ البشرية، والتجارب التي مارستها المجتمعات الإنسانية عبر الزمن، والتي لا نملك تجاهها سوى الملاحظة عن بعد، ومن وراء ستائر الزمن التي تفصلنا عنها.. هل في الامكان الاستغناء عن ذلك كله، باقامة حياتنا الاجتماعية في ضوء تجارب علمية نعيشها ونمارسها بأنفسنا على هذا أو ذاك من الأفراد، حتى نصل الى معرفة النظام الأصلح؟؟.

وقد يتجه بعض المتفائلين الى الجواب على هذا السؤال بالايجاب، نظراً الى ما يتمتع به انسان الغرب اليوم من امكانات علمية هائلة: أوَ ليس النظام الاجتماعي هو النظام الذي يكفل اشباع حاجات الإنسانية بأفضل طريقة ممكنة؟؟. أوليست

{32}

حاجات الإنسان اشياء واقعية قابلة للقياس العلمي والتجربة كسائر ظواهر الكون؟!. أوَ ليست اساليب اشباع هذه الحاجات تعني اعمالاً محدودة، يمكن للمنطق العلمي أن يقيسها ويخضعها للتجربة، ويدرس مدى تأثيرها في اشباع الحاجات وما ينجم عنها من آثار؟!. فلماذا لا يمكن ارساء النظام الاجتماعي على أساس من هذه التجارب؟!. لماذا لا يمكن ان نكتشف بالتجربة على شخص أو عدة اشخاص، مجموع العوامل الطبيعية والفسيولوجية والسيكولوجية، التي تلعب دوراً في تنشيط المواهب الفكرية وتنمية الذكاء، حتى إذا أردنا أن ننظم حياتنا الاجتماعية، بشكل يكفل تنمية المواهب العقلية والفكرية للافراد، حرصنا على أن تتوفر في النظام تلك العوامل لجميع الأفراد؟!!

وقد يذهب بعض الناشئة في التصور الى أكثر من هذا فيخيل له: أن هذا ليس ممكناً فحسب، بل هو ما قامت به أوروبا الحديثة في حضارتها الغربية، منذ رفضت الدين والأخلاق وجميع المقولات الفكرية والاجتماعية، التي مارستها الإنسانية في تجاربها الاجتماعية عبر التاريخ.. واتجهت في بناء حياتها على اساس العلم، فقفزت في مجراها التاريخي الحديث، وفتحت أبواب السماء، وملكت كنوز الأرض....

وقبل ان نجيب على السؤال الذي أثرناه: (السؤال عن مدى

{33}

امكان إرساء الحياة الاجتماعية على أساس التجارب العلمية) يجب ان نناقش هذا التصور الاخير للحضارة الغربية، وهذا الاتجاه السطحي الى الاعتقاد: بأن النظام الاجتماعي، الذي يمثل الوجه الأساسي لهذه الحضارة، نتيجة للعنصر العلمي فيها. فان الحقيقة هي: ان النظام الاجتماعي الذي آمنت به اوروبا والمبادئ الاجتماعية التي نادت بها وطبقتها، لم تكن نتيجة لدراسة علمية تجريبية، بل كانت نظرية أكثر منها تجريبية ومبادئ فلسفية مجردة أكثر منها آراء علمية مجربة، ونتيجة لفهم عقلي وايمان بقيم عقلية محدودة، أكثر من كونها نتيجة لفهم استنتاجي وبحث تجريبي في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجية والفسيولوجية والطبيعية، فان من يدرس النهضة الاوروبية الحديثة ـ كما يسميها التاريخ الاوروبي ـ بفهم يستطيع ان يدرك: ان اتجاهها العام في ميادين المادة، كان يختلف عن اتجاهها العام في الحقل الاجتماعي والمجال التنظيمي للحياة. فهي في ميادين المادة كانت علمية، إذ أقامت افكارها عن دنيا المادة على أساس الملاحظة والتجربة، فأفكارها عن تركيب الماء والهواء او عن قانون الجذب او فلق الذرة افكار علمية مستمدة من الملاحظة والتجربة. وأما في الميدان الاجتماعي: فقد تكوّن العقل الغربي الحديث على أساس المذاهب النظرية، لا الأفكار العلمية. فهو ينادي مثلاً: بحقوق

{34}

الإنسان العامة، التي اعلنها في ثورته الإجتماعية، ومن الواضح ان فكرة الحق نفسها ليست فكرة علمية، لأن حق الإنسان في الحرية مثلاً ليس شيئاً مادياً قابلاً للقياس والتجربة، فهو خارج عن نطاق البحث العلمي، وانما الحاجة هي الظاهرة المادية التي يمكن أن تدرس علمياً.

وإذا لاحظنا مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، الذي يعتبر ـ من الوجهة النظرية ـ أحد المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية الحديثة.. فاننا نجد أن هذا المبدأ لم يستنتج بشكل علمي من التجربة والملاحظة الدقيقة، لأن الناس في مقاييس العلم ليسوا متساوين، إلاّ في صفة الإنسانية العامة، ثمّ هم مختلفون بعد ذلك في مزاياهم الطبيعية والفسيولوجية والنفسية والعقلية، وانما يعبر مبدأ المساواة عن قيمة خلقية هي من مدلولات العقل لا من مدلولات التجربة.

وهكذا نستطيع بوضوح : ان نميز بين طابع النظام الإجتماعي في الحضارة الغربية الحديثة، وبين الطابع العلمي. وندرك أن الإتجاه العلمي في التفكير الذي برعت فيه أوروبا الحديثة.. لم يشمل حقل التنظيم الإجتماعي، وليس هو الأساس الذي استنبطت منه اوروبا انظمتها ومبادئها الإجتماعية، في مجالات السياسة والإقتصاد والإجتماع.
https://iraq.iraq.ir/islam/maktaba_fkreia/book05/1.htm









رد مع اقتباس