منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - نشـأة النقـد العربـي القديــم بين الممارسة والتأريخ.
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-09-30, 22:43   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

يعرف د.إحسان عباس النقد بقوله:" في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتقييم".(47)
من هذا التحديد للنقد يقرأ الدكتور إحسان عباس نشأة النقد، فينتهي إلى أن المراحل الأولى لم تعرف النقد الصحيح لأنها اعتمدت النظرة التركيبية والتعميمية، والتعبير عن الانطباع الكلي دون اللجوء إلى التعليل والتصوير لما يجول في النفس. فالنقد الصحيح لن يظهر إلا بظهور التفسير و التعليل و التنقيح، وهي خطوات لا بد منها، فلا تغني إحداهما عن الأخرى ولا تقوم إحداهما مقام غيرها. فهي متدرجة متسلسلة تتخذ موقفا ونهجا واضحا.وفي هذا يقول إحسان عباس: إن هذه " خطوات لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهي متدرجة على هذا النسق، كي يتخذ الموقف نهجا واضحا مؤصلا على قواعد جزئية أو عامة. مؤيدا بقوة الملكة بعد قوة التمييز، ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويا، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص والتأمل، وإن سمح بقسط من التذوق والتأثر، ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف الذي يهيئ المجال للفحص والتقليب و النظر."(48)
وبناء على ما تقدم يخرج د. إحسان عباس بغياب النقد فيما قبل القرن الثاني الهجري لأسباب منها:
1- غياب التأليف: إذ أن معظم تراث الأمة كان يتناول شفهيا:"ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويا، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص و التأمل، وإن سمح بقسط من التذوق و التأثر،ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف"(49)
2- غياب الإحساس بالتغيير والتطور: إذ في نظره أن هذا العنصر هو الذي يسترعي انتباه ملكة النقد، وتجر الذهن إلى حدوث مفارقة ما وإدراكها، وفي غيابه تهيمن سلطة النموذج على الثقافة. وهذا بالفعل ما حدث على العهد الجاهلي والأموي، إذ كان النموذج القديم مهيمنا، وبقيت الثقافة العربية رهينة له. فهو قبلة لكل جميل ورائع من الشعر مما أدى إلى حجب حقيقة التطور و التغير عن العيون، ولن يبدأ الإحساس بهذا العنصر إلا مع تغير الأذواق وتحول النماذج إلى نماذج جديدة وذلك مع تعدد ينابيع الثقافة، وتباين مستوياتها، والاصطدام بتيارات جديدة، وفي ذلك يقول:" والتأليف يخلق مجالا للنقد صالحا، ولكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقدا منظما، بل لابد هنالك من عوامل أخرى، وأهم هذه العوامل جميعا الإحساس بالتغير و التطور: في الذوق العام، أو طبيعة الفن الشعري أو في المقاييس الأخلاقية التي يستند إليها الشعر".(50)
وبذلك يبقى "الإحساس بالتطور والتغيير هو العامل الخفي في شحذ هممهم للنقد يستوي في ذلك ابن قتيبة وابن طباطبا و قدامة والأمدي والقاضي الجرجاني وابن رشيق وعبد القاهر وابن شهيد وحازم القرطاجني وابن الأثير، فإنك لا تجد واحدا من هؤلاء يحس أن الشعر في أزمة، وأنه يتقدم بآرائه لحلها".(51) والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن استخراجها من محتويات مؤلفاتهم.
وبذلك فالنقط المذكورة أساس في بلورة البداية الصحيحة للنقد، لكن النقد العلمي الدقيق في نظر د.إحسان عباس لن يتولد إلا بظهور حركة فكرية أو فلسفية وفي ذلك يقول:" وحين كان الإحساس بالتطور يتصل بأثر فكري – كلامي أو فلسفي- كان النقد ينال حظا غير قليل من العمق، لأن ذلك الأثر الفكري كان كفيلا بتنظيم الإحساس وتوجيهه في منهج متميز المعالم، فأما مجرد الإحساس وحده فإنه كان يجعل النقد عند أذكى النقاد التماعات ذهنية أو لمحات سريعة".(52) والنتيجة الحتمية التي يصل إليها إحسان عباس بعد هذا العرض تتمثل في أن توفر التأليف إلى جانب الإحساس بالتطور والتغير يؤدي إلى إعطاء ممارسة نقدية فعلية على يد الأصمعي (212 هـ) وفي ذلك يقول: "كان الأصمعي – فيما أعتقد – بداية النقد المنظم، لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية (53)و السبب في ذلك يرجع إلى تميزه عمن سبقه بالعديد من المميزات " فهو وإن شاركهم (العلماء) في كثير من النظرات الساذجة من مثل الالتفات نحو أغزل بيت وأهجى بيت وما أشبه ذلك من أحكام، قد هداه بصره النافذ إلى مواقف نقدية واضحة، ونكتفي هنا بثلاثة مواقف منها:
أ‌- الفصل بين الشعر و الأخلاق...
ب‌- الفحولة...
ج- العناية بالتشبيه.."(54)
هكذا نصل إلى أن ما قبل الأصمعي يشكل مرحلة نقدية غير منظمة، ولا يجب أن نعتد بها، ولا نقف عند حدودها، وأن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في أواخر القرن الأول الهجري مع الأصمعي، فهو في نظر د. إحسان عباس النواة الأولى لظهور النقد المنظم في تاريخ الأدب العربي.
فمع الأصمعي توفرت الشروط التي يعتبرها د.إحسان عباس أساسا لوجود النقد وهي : "التأليف و الإحساس بالتغير والتطور ، وفي غيابها لا يمكن بأي حال من الأحوال البحث عن نقد منظم.إنما نتحدث عن لوحات نقدية طابعها شفهي وميزتها الذوق الفطري الفج، وليس ذلك الذوق الناضج المجرب للعملية الإبداعية والقادر على تحليل ظواهرها وتفسيرها و الوقوف عند جزئياتها.
ما الذي حمل د.إحسان على هذا الموقف ؟ لماذا اعتبر الأصمعي بداية فعلية للنقد؟ ما الهاجس الذي أرق د. إحسان عباس وهو يعالج قضية نشأة النقد؟.
تقويم للطروحات السابقة:
بعد هذا العرض لقضية نشأة النقد العربي القديم انطلاقا من طروحات متعددة، تتفق أحيانا وتتباين أخرى، استطعنا أن نكون صورة مجملة عن موقف الباحثين المحدثين من البداية الأولى المفترضة للنقد العربي القديم.
فإذا كان طه أحمد إبراهيم يؤكد أن النقد العربي القديم نشأ نشأة عربية صرفة، متعايشا مع الشعر، فهو ابن الجزيرة العربية الممتدة في التاريخ إلى العهد الجاهلي، انطلاقا من مجموعة من الأقوال المأثورة ذات الطابع النقدي الساذج الفطري الأولي التي ورثت عن العهد الجاهلي، فإن د. محمد مندور يؤكد على هذه العروبة للنقد أيضا، ويؤكد كذلك على التعايش المتواجد و المفترض بينهما، ولكن يختلف عن طه أحمد إبراهيم في كونه يتناول المسألة في بعدها الموضوعي البعيد عن التعصب، والنظرة الإقليمية الضيقة، بل يعبر عن قومية معقلنة عكس ذ. طه أحمد إبراهيم الذي عبر عن نزعة قومية حامية هدفها إثبات التميز للذات العربية في مواجهتها للغرب.
هكذا، نجد د. محمد مندور قد غض الطرف عن المرحلة الممتدة من العهد الجاهلي إلى أواخر القرن الثالث باحثا عن النقد المنهجي، متجاوزا لتلك الأفكار النقدية الشفهية، علما بأن معظم تراث الأمة العربية كان ينقل شفهيا، وقد يصاب بطريقة أو بأخرى بنوع من التحريف والزيادة و النقصان. ولن يجد د. محمد مندور ضالته إلا في القرن الرابع الهجري.فكانت بذلك الطريقة التي سلكها لدراسة تراث النقد العربي، قد رسخت قيما قديمة " مقدسة" في مجال الأدب العربي أكثر مما سلطت أضواء على الاتجاهات والتيارات الكفيلة بإغناء محاولات التجديد الراهنة.(55)
شيء تجاوزه د. محمد غنيمي هلال حين نص أن النقد لن يظهر إلا بظهور التفكير الفلسفي. وما دام التفكير الفلسفي قد تأخر عند العرب حتى ظهور المباحث الكلامية مع المعتزلة، فكان طبيعيا أن يتأخر النقد في التراث الأدبي العربي. وقد قاس ذلك بالتراث اليوناني، وعليه يكون نصيب المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري التهميش. وهو يتفق إلى حد ما مع د. محمد مندور في كونه ينص أن النقد الممنهج لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري. وذلك لاتصاله بالفلسفة وعلم الكلام.
ومع د. إحسان عباس نصادف بداية للنقد العربي القديم. تمثلت في أن النقد الفعلي سيظهر في القرن الثاني مع الأصمعي، وبذلك تكون مرحلة ما قبل الأصمعي لم تعرف نقدا منظما وإنما عرفت لوحات نقدية، يطغى عليها التذوق والانطباع المباشر، وهو الآخر يتفق د. ومحمد مندور و د.محمد غنيمي هلال في أن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في القرن الثالث الهجري.
اتفق ذ. طه أحمد إبراهيم و د.محمد مندور على التلازم المفترض فيما بين الشعر والنقد فكأني بهما يقولان لنا مادام لدينا شعر فطبيعي أن يكون لدينا نقد أي أن النقد القديم نشأ منذ أن بدأ الإنسان يعقل ويدرك ، ويلاحظ ويميز ويستحسن ويستقبح. وهنا أشير إلى أن الاستقراء التاريخي لحركة النقد الأدبي يؤكد تبعية النقد للشعر في مراحله الأولى، خاصة حين كان النقاد شعراء، ومثالنا في ذلك النابغة، والفرزدق وجرير وغيهم كثير... لكن في مرحلة لاحقة، مع نضج الشروط الموضوعية التي تفترض وجود نقد أدبي يهدف إلى توجيه العمل الشعري وجهة معينة، انطلاقا من طبيعة الثقافة السائدة. سيقع الانفصال بين الشعر و النقد، وسيأتي الناقد اللغوي الشهير ابن سلام الجمحي ليؤكد على ضرورة وجود الناقد المتخصص..
فالدعوة إلى الناقد المتخصص هي الدليل القاطع على الانفصال الذي وقع بين الشعر و النقد. إذ لم يعد الناقد هو ذاك الشاعر، بل هو رجل عالم ملم بثقافة عصره قادر على تقويم العمل الأدبي، وفوق هذا وذاك يمتلك حسا نقديا يؤهله أن يجري نوعا من الحوار مع النصوص، ثم يعرف جيدها من رديئها نتيجة الدربة والمراس.
إن الأحكام التي يصدر عنها الناقد غير المتخصص، هي أحكام ذوقية محضة، يشترك فيها الناقد و غير الناقد.من ثم فهي أحكام يقتسمها جميع قراء الأدب، وليست هي وقفا على فئة دون أخرى، فلا يمكن أن نعدها بحال من الأحوال معلما من معالم تواجد النقد على العهد الجاهلي.
ومن المعالم التي يؤكد عليها الأستاذ طه أحمد إبراهيم وجود النقد في العصر الجاهلي، ويعتذر عن عدم إيرادها د. محمد مندور بحجة أن طه أحمد إبراهيم قد سبقه إلى ذلك، قضية تثقيف الشعراء لشعرهم، تلك العملية التي يقوم بها الشعراء لكي يخرجوا شعرهم في صورة أكثر تأثيرا في الملتقى، هي ممارسة نقدية كما ينص ذ. طه أحمد إبراهيم وفي هذا الصدد نقول:إنه قد خلط بين النقد الأدبي الذي هو عملية قراءة الإنتاج الأدبي قصد تمييز الجيد منه من الرديء، وإزالة الغبار عن غوامضه، وهي عملية يقوم بها ناقد يكتسب حسا نقديا مرهفا وملكة لغوية قوية...وإنتاج الشعر الذي هو عملية تعتمد في الغالب على الشعور والإحساس والتعبير عن المكنونات في غياب الرقابة العقلية الصارمة في غالب الأحيان. فعملية إنتاج الشعر أو ما يسمى في النقد العربي القديم " الصنعة الشعرية "تأتي دوما في البداية ليأتي النقد الأدبي من بعدها قصد تقويمها وإضاءة جوانبها، هكذا فالنقد عملية متأخرة عن إنتاج الشعر وصناعته، فهو لا يكون إلا بعد إنتاج الشعر وعرضه للمستهلك. فلو سألتني متى يبدأ النقد؟ سأقول:بعدما ينتهي الإبداع، أي أنه عملية تأتي بعد عملية إبداعية جاهزة منقحة مزيلة للشوائب. وهذا طبيعي إذ النقد لا يمكن أن يكون قد عرف قبل الإنتاج الأدبي، لأن الناقد لن ينقد في الهواء بل لابد من أثر أدبي يرتكز عليه. ولا نستطيع أن نتصور أن الناقد بدأ عمله في الخيال، كأن نزعم أنهم تصوروا وجود قطع أدبية ثم حاولوا نقدها، إذ أن مجرد تصور أثر أدبي دليل على أن الإنتاج قد سبق هذا التصور ولا يمكن للخيال مهما سما أن يصل إلى مالم يختبره الإنسان أو يسمع به. فالنقد عرف بعد الإنتاج. من تم فالعنصر الذي يركز عليه ذ.طه أحمد إبراهيم ليبين به تواجد النقد في العصر الجاهلي هو عنصر يمس العملية الإبداعية أكثر مما يمس العملية النقدية، إذ لا معنى للنقد إلا بعد تحديد مجاله وموضوعه الذي هو الأدب.
إذا كانت عودة ذ. طه أحمد إبراهيم إلى التراث النقدي بهدف تثبيت عراقة وأصالة النقد العربي لتزكية موقف قومي معين، فإن د. محمد مندور ينغمس في التراث بهدف معالجة النقد المنهجي وفي ذلك يقول:"لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب، وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب".(56)
والأمر لا يختلف كثيرا عن ما دفع د. محمد غنيمي هلال إلى إعادة قراءة التراث، حيث أنه استهدف من وراء هذه العملية البحث عن ما يدعم به المقدمة التي انطلق منها، وهي أن النقد لن يوجد إلا بوجود الفلسفة.
هكذا نلاحظ أن كل واحد منهما قد فسر ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى، دون أن يرجع إلى المعطيات الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية التي أفرزتها.
أما د. إحسان عباس فقد كانت عودته إلى التراث لا تخرج في قالبها العام عن ما أرق السابقين له. إذ كان هو الآخر يهدف إلى تأكيد مقدمته التي تنص على أن الشروط الموضوعية لنشأة النقد والمتمثلة في التأليف – أي ظهور التدوين- والإحساس بالتغيير والتطور لن يظهر إلا مع القرن الثاني الهجري، وبذلك يسقط هو الآخر في تفسير ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى.
أما على مستوى المنهج فقد كان منهج النقاد الأربعة هو المنهج التاريخي.فالأستاذ طه أحمد إبراهيم اعتمد المنهج التاريخي الذي يراعي التسلسل الزمني للأحداث من العهد الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، كما ظهر لنا ذلك في محاضراته.
في حين أن محمد مندور اعتمد أساسا على " تفسير النصوص" يقول: "منذ عودتي من أوربا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن ندخل الأدب العربي المعاصر في تيار الآداب العالمية، وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومناهج دراسته على السواء. ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج، وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه "بتفسير النصوص"، فالتعليم في فرنسا يقوم في جميع درجاته على قراءة النصوص المختارة من كبار الكتاب وتفسيرها والتعليق عليها...هذا المنهج التطبيقي هو الذي استقر عليه رأبي وإن كنت قد نظرت إلى ظروفنا الخاصة وحاجتنا إلى التوجيهات العامة.."(57)
و الطريقة التي سلكها د. محمد مندور تعتمد في قراءته للتراث والتأريخ له عن مدى الانطباع الذي يخلقه هذا المقروء في نفسه، وفي ذلك يرد على سؤال طرحه عليه فاروق شوشة في حوار أجراه معه نشرته مجلة الآداب: " عند أول عودتي من الخارج كنت غارقا في الدراسات الأكاديمية... ومنهج تدريس الأدب في الجامعات الفرنسية يقوم على ما يسمونه " بشرح النصوص"، فكنا خلال السنوات التي قضيناها بالسور بون نستمع إلى أساتذتنا الكبار وهم يضعون أصابعهم على مواضع الجمال في كل تعبير...فغرسوا بذلك في أنفسنا البحث عن الجمال في تفاصيل العمل الأدبي حتى رسخ في نفوسنا أن الأدب فن جميل قبل كل شيء وأن القيم الجمالية هي التي تضمن للعمل الأدبي الخلود.
وعلى أساس هذا التكوين النفسي الخاص صدرت عن المذهب التأثري في كتبي الأولى مثل:" النقد المنهجي عند العرب" الذي فضلت فيه بين نقاد العرب القدماء التأثريين من أمثال: الأمدي والقاضي الجرجاني...بينما أنكرت جدوى أصحاب القواعد والمبادئ البلاغية والبديعية، كقدامة وأبي هلال العسكري وغيرهما." (58)
في حين أن د. محمد غنيمي هلال و د.إحسان عباس قد تعاملا بالمقص الزمني مع الأحداث النقدية الموروثة فقد أخذا من تاريخ النقد ما يتوافق وطبيعة المقدمة التي انطلقا منها.فإذا وقف الأول عند حدود القرن الرابع الهجري، فإن الثاني مدد خطاه إلى حدود القرن الثاني الهجري. وكل واحد منهما قص المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى المرحلة التي صب عليها اهتمامه.
هكذا نخلص إلى أن قراءة كل واحد منهم تنطلق من مفهوم معين للتراث، وإن كان هدفهم واحد، وهو البحث عن بداية النقد، فإن النتائج التي توصلوا إليها اختلفت إذ كل واحد منهم قد توصل إلى نتيجة تتعارض ونتيجة الآخر.فأصبحت بذلك تتراءى أمامنا بدايات للنقد العربي القديم متعددة، وليست بداية واحدة.بدايات تختلف عن بعضها باختلاف العصور الثقافية العربية من جهة، و بغياب التزامن الفكري من جهة ثانية، وبتباين المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل شخصية من الشخصيات النقدية المختارة.
إن هذه الكتابات تنطلق من هاجس واحد هو:"التأريخ للنقد الأدبي" إلا أن كل واحدة قد تناولت التأريخ من الوجهة النظرية التي تتفق والطرح الأيديولوجي الذي تتبناه...فلأستاذ طه أحمد إبراهيم لم يصدر في تصوره عن تاريخ النقد العربي القديم من فراغ، بل كان هاجس القومية العربية يحكمه، تمثل حين أكد على عروبة النقد في قوله:"والنقد الأدبي عربي محض، أوهوكذلك حتى تمكن ورسخت روحه ومناحيه"(59) إن طرح طه أحمد إبراهيم يكشف عن الظروف التي تحكمت في المثقفين العرب في الأوائل هذا القرن-علما أن الكتاب صدر في 1937-و هي مرحلة حاسمة في تاريخ الأمة العربية، عرفت الزحف الأوربي إلى الشرق العربي سواء عن طريق الاستعمار المباشر المتمثل في احتلال الأرض، أو غير المباشر المتمثل في التدخل في المنشآت الاقتصادية. و لا يخفى على أحد ما يهدف إليه التدخل الاستعماري من ضرب للذات العربية و تبيان انحطاطها و تخلفها و طرح محلها الفكر الإستشراقي عن طريق طمس الهوية العربية و إشعار الأمة العربية بتبعيتها للغرب في جميع المستويات، إضافة إلى ما عرفه التراث النقدي من تشويه و تزوير للحقائق من طرف هؤلاء المستشرقين أيضا.
في هذه الفترة كذلك ظهر الاتجاه العلماني الداعي إلى السير على خطى الغير والتفكير بعقلية الغرب، متناسيا أن للعرب خصوصيات، واختلاف الخصوصيات يجعل من المتعذر الحديث عن نقط الالتقاء والتشابه بين الغرب والعرب وقد حمل لواء هذا الاتجاه العلماني من الأقلام العربية الدكتور"محمد حسين هيكل" الذي دعا إلى العلم الخالص، وترجم العديد من النظريات والأبحاث الغربية كنظرية "كانت" القائلة بانتصار العقل، وإلى جانبه "الدكتور طه حسين" في مؤلفه في الشعر الجاهلي الصادر عام 1926 حيث استخدم منهج الشك الديكارتي في قراءة التراث العربي...
إذن في هذا الجو المفعم بالاضطرابات السياسية و الاجتماعية و الفكرية كان لابد أن تظهر حركة قومية ترد الاعتبار للإنسان العربي وللذات العربية، ومن العوامل التي أفضت إلى قيام هذه الحركة في مطلع القرن العشرين:
*عوامل تاريخية: تتصل بطبيعة الحس الزمني و الحرص على وصل الحاضر بالماضي و المفاخرة بمآثر الأجداد واعتبارها جزءا من الذخيرة الروحية الواحدة، إذ كان السؤال المطروح: كيف نحيي التراث ؟ وكان الحوار في هذا الصدد هو حوار بين "الماضي" و"المستقبل" أما الحاضر فغير "حاضر" ليس فقط لأنه "مرفوض" بل أيضا لأن الماضي قوي في هذا المحور إلى الدرجة التي جعلته يمتد إلى المستقبل ويحتويه، تعويضا عن الحاضر وتأكيدا للذات وردا للاعتبار إليها.
*عوامل قومية وسياسية: تتصل باستيقاظ الوعي القومي والشعور العارم بهوية قومية واحدة ذات جوانب عرقية ولغوية وثقافية معينة.في هذه الحقبة ركن الكتاب والنقاد وغيرهم إلى الدفاع عن الهوية العربية في مرحلة هجوم أوربا المباشر (الاستعمار ) وغير المباشر (الاستشراق) وهذا الدفاع تمثل في الرد على التحديات الغربية ذات النظرية العنصرية الشوفينية التي تنطلق من أن كل ما أنتج خارج أوربا لا يمكن أن يضاهي ما أنتج بداخلها على اعتبار أنها مركز الثقافة و المعرفة، ومركز الحضارة، والاستشراق نفسه سيعبر من قنطرة سياسية خصوصا وأن تطور الاستشراق كان مرتبطا بتطور الاستعمار. ومن جملة ما يهدف إليه: التحكم في الإنسان حاضرا، ولن يتم له ذلك إلا بالتحكم فيه ماضيا وذلك عن طريق تشكيكه في تاريخه وتراثه وربطه بالثقافة الحالية.فالاستشراق هو الذي يتوجه إلى اجتثات تاريخ الشعوب ويفسده ويشكك الشعوب في ذواتها، ثم يربطها بتاريخ جديد يمجده لها، وبذلك يكتسبها.
أمام هذا الصراع المرحلي بين الشرق والغرب، ظهرت كتابات متعددة تعكس هذا الصراع، وتهدف كلها إلى إثبات الهوية العربية-وهذا ما عبر عنه التيار السلفي- وبذلك يكون الاهتمام بالنقد في هذه المرحلة لم يكن غاية في حد ذاته وإنما كان في إطار الصراع مع النظرية الاستشراقية وإثبات الهوية العربية...كل هذا شكل الهاجس الذي شغل تفكير طه أحمد إبراهيم وحكم طرحه.فهو هاجس قومي سياسي يرد فيه على التحديات الغربية التي تنص على أن كل شيء خلق في حجر أوربا يعتد به وأن ما خلق خارجها فهو دوني يستحق النبذ والاحتقار والتهميش.
أما عن قراءة د. محمد مندور للتراث فهي لم تكن من قبيل المصادفة في حياته وإنما تداخلت في توليدها وتشكيلها مجموعة من العوامل التي شكلت في النهاية نسقه المعرفي وحددت طبيعة المعالجة الفكرية عنده ومنها:
أ- تكوينه الثقافي:إذ أتاحت له فرصة السفر إلى فرنسا من أجل تحضير دكتوراه في الأدب العربي أن يغرف من منهل الثقافة الفرنسية على أيدي كبار نقادها في تلك الحقبة وعلى رأسهم "كوستا ف لانسونLançon Gustaph الذي أخذته مفاهيمه وآراؤه، وحاول تطبيقها على النقد العربي القديم.
إن محمد مندور قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال مفاهيم مسبقة جاهزة مستمدة من(Gustaph Lançon)، وهي مفاهيم يعتد بها النقد الغربي وتعتبر أساس تقويمه، فحاول ناقدنا العربي أن يبحث عن أصول لها في النقد العربي القديم، فلم يجدها في نقد الجاهلية ولا في نقد القرون الثلاثة الأولى، بل لم تتوفر له هذه المفاهيم النقدية الغربية إلا في نقد القرن الرابع الهجري مع كل من الأمدي والجرجاني، وكذلك اعتبر المرحلة السابقة للقرن الرابع الهجري لا تعدو المادة النقدية فيها لمحات أو إرهاصات نقدية غير ممنهجة.
يتبع...










رد مع اقتباس