منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - بحث حول الخطابة في العصر الجاهلي
عرض مشاركة واحدة
قديم 2016-02-11, 18:24   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
houda boudaoud
عضو جديد
 
الصورة الرمزية houda boudaoud
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

تحليل خطبة قس بن ساعدة
(6) خطب الأسواق
خطبة قُسُّ بن ساعد الإيادي في سوق عكاظ :
هو قس بن ساعدة بن عمرو بن عدى بن مالك .. ينتهي نسبه إلى إياد خطيب العرب وشاعرها وحليمها وحكيمها في الجاهلية ، يقال إنه أول من علا شرفا وخطب عليها ، وأول من قال في كلامه : أما بعد ، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا ، وهو أسقف نجران نحو سنة 600 ق.م.
وقد أدركه النبي  قبل النبوة ورآه في عكاظ ، وكان يحفظ عنه بعض ما سمعه ، وسئل عنه  فقال : "يحشر أمة وحده".
وقيل لما قدم وفد إياد على النبي  قال : ما فعل قُسُّ بن سعادة ؟ قالوا مات يا رسول الله قال : كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه ، فقال رجل من القوم : انا أحفظه يا رسول الله ، قال : كيف سمعته يقول ؟ قال سمعته يقول :
"أيها الناس اسمعوا وعوا ، من عاش مات ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، ليل داج ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، بحار تزخر ونجوم تزهر وضوء وظلام ، وبر وآثام ومطعم ومشرب ، وملبس ومركب ، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ، مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا ، أم تركوا فناموا ؟وإله قُسُّ بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دينٍ قد أظلكم زمانه ، وأدرككم أوانه ، فطوبى لمن أدركه فأتبعه وويل لمن خالفه ، إنكم لتأتون من الأمر منكرا ، ثم أنشأ يقول :
في الذاهبين الأوليـ
لما رأيتُ مَوَاردا
ورأيت قومي نحوها
أيقنت أنى لامحا
ـن القرونِ لنا بصائر
للموت ليس لها مصادر
يمضي الأصاغر الأكابر
لةَ حيث صار القوم صابر

فقال النبي  يرحم الله قسا ، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده"(1).
تحليل الخطبة
تناولت خطبة ابن ساعدة مجموعة من الأفكار التي كانت سائدة في عصره ملخصها قضية الحياة والموت ، أو الوجود والعدم ، وفصّل ذلك بتناول الماضي والحاضر والمستقبل ، فالماضي "من مات فات" الذاهبون الأولون الفانون وفي رواية أخرى للخطبة "أين عاد وثمود" وأما الحاضر فيتمثل في ظواهر الطبيعة التي حوله من ليل ونهار وجبال وأنهار وأرض وسماء والناس يعيشون عليها معتنقين أديانا مختلفة "إنكم لتأتون من الأمر منكرا" وأما المستقبل فهو يرهص بمجيء نبي آخر الزمان ، فبشرى لمن أدركه وآمن به ، والويل لمن عصاه.
والماضي والحاضر والموت والحياة تدخل في باب المعارف العامة ، وكان الأحبار يرددونها إما إرهاصته بالبعثة فهي نبؤة ، لم يكن يعرفها إلا قلة منهم.
أما من الناحية الفنية ، فالخطبة مصنوعة صنعة فنية متقنة فهي تتميز بقصر الجمل "ليل داج ، نهار ساج ، نجوم تزهر ، بحار تزخر" فإن طالت الجملة الأولى بعض الشيء أطال لاحقتها بقدر الأولى مثل : "إن في السماء لخيرا إن في الأرض لعبرا" وهكذا نسيج فني متناسق ، ولا يخفى على القاريء ما في هذه الجمل من سجع شبه ملتزم بلا إقحام أو تعنت ، كما لا تخفى الموازنة الموسيقية بينها بسبب اشتقاقات الألفاظ الخاصة وترتيبها ترتيبا معينا.
وأسلوب الخطبة يجمع بين الخبر والإنشاء ، فالخبر متمثل في التقارير البيئية التي يرصدها رصدا "ضوء ظلام وبر وآثام ، ومطعم ومشرب وملبس ومركب .." وهكذا حقائق متلاحقة في تراكيب قصار ، تعبر عن ملاحظات وأنفاس متقطعة ، وكذلك تبعث في النفس العظة والاعتبار مثل : "في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر …" إلى غير ذلك من العبر.
وأما الإنشاء فيتمثل في الأمر والاستفهام والنداء والتعجب وغيره مثل : "اسمعوا وعوا ، أيها الناس ، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون" تدل على الدهشة والتعجب ، "أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أو تركوا فناموا ؟" وهذا استفهام تعجبي يوحي بالحيرة والسخرية من المتكالبين على الدنيا ، والقسم في قوله : "وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين … الخ" يوحي بالتأكيد من صلاحية الدين المقبل للدنيا والآخرة.
كما تبدو الصنعة اللفظية في اشتقاقات قس المقصودة ورصفها رصفا ينبيء عن خبرة لغوية وقصد الترادف أو التضاد مثل : "اسمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت" ، وقوله "ضوء وظلام وبر وآثام ومطعم ومشرب وملبس ومركب … وغيرها.
ولأن الخطيب هنا شاعر فقد جمعت خطبته شيئا من شعره في ذات الموضوع ختم بها خطبته ليحدث في جمهور السامعين في سوق عكاظ هزة نفسية عنيفة وتأثيرا عاطفيا لاستشهاده بشعره ، الذي رتبه مثل الخطبة ترتيبا منطقيا وكأنها نظرية ، فالموت حقيقة ملحوظة ، حيث إنه لما رأى الناس يذهبون ولا يرجعون وقومه يردون الموت ولا يُصْدِرون ، والجميع ذاهب أصاغرا وأكابرا .. حينئذ أيقن وتأكد أنه صائر إليهم يوما ما … لا محالة في ذلك.
وقد صار الاستشهاد بالشعر تقليدا فنيا عند بعض الخطباء الشعراء والخطبة في مجملها مجموعة من المواعظ التي صيغت صياغات مؤثرة ، مما جعل النبي  يتأثر بها ، ويستبقى في ذاكرته بعض عباراتها حتى بعثته ولا أدل على بلاغتها من شهادة النبي  حيث قال عن قس [يبعث أمة وحده] ورغم هذه الشهادة فإن بعض المرتابين في الخطبة ينكرونها على قس بن ساعدة بل يشّكون في حقيقة شخصية قس في الجاهلية لاحتواء الخطبة على بشائر إيمانية ومعان إسلامية قبل بعثة النبي والتشديد على إتباع النبي المنتظر ، وليس ذلك بارعا فالحنفاء في الجاهلية شعراء وناثرين كانوا يؤكدون هذا المعنى ، لوجوده في كتبهم فطالما أرهصوا بقرب ميلاد نبي جديد في العرب يكون خاتم الأنبياء ، ودينه جوهر الأديان السابقة.
وهكذا فإن الخطبة الجاهلية قد تطول وتقصر بحسب موضوعها وصاحبها فبعضها قصار ، ورغم هذه فقد كان عرب الجاهلية يعنون بها فيتناقلونها لاحقا عن سابق ، ويتداولونها مشافهة حتى تحفظ وتخزن في الذاكرة العربية كالشعر تماما ، غير أن حرية النثر جعلت بعض الرواة يتزيدون فيها ، ويحذفون بها حسب ما تمليه الذاكرة ، فالوضع والنحل فيها أكثر منه في الشعر وما إن كان عصر التدوين حتى نقلت هذه الخطب –أو ما أملته الذاكرة العربية- إلى كتب تراثية كبرى.
ومن بين هذه المصادر والمراجع العربية القديمة التي حفظت لنا تراثنا الخطابي : البيان والتبيين لعمرو بن بحر الجاحظ 155-250هـ والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي 327هـ ، تاريخ الطبري [تاريخ الرسل والملوك] لمحمد بن جرير الطبري 310هـ ، والكامل في التاريخ لعز الدين أبي الحسين على بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم .. المعروف بابن الأثير 630هـ ، والغاني لأبي الفرج الأصفهاني 356هـ ، وفتوح البلدان لأحمد بن يحيي بن جابر المعروف بالبلاذري 279هـ ، السيرة النبوية لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري 213هـ والروض الأُنُفُ لأبي القاسم الخَثْمي السُّهيلي 581هـ وقد جمعت خطب الإمام على بن أبي طالب في نهج البلاغة .. وهكذا حتى جمع –في العصر الحديث- أحمد زكي صفوت خطب العرب في كتابة جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة (ثلاثة أجزاء).










رد مع اقتباس