في عام 1995، تابع العالم أبشع مذبحة يتعرض لها المسلمون في القرن العشرين. انها مذبحة سربيرنيتشا التي وصفتها منظمات حقوق الانسان وبالاجماع، بأنها أسوأ مذبحة تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
السفاح ومجرم الحرب قائد القوات الصربية راتكو ملاديتش الملقب بدراكيولا البلقان، هو الذي نفذها في الحادي عشرمن يوليو من ذلك العام، بأمر من زعيم صرب البوسنة السفاح رادوفان كارازديتش، وبمباركة الراعي الأول للحرب ضد مسلمي البلقان السفاح الراحل ورئيس يوغوسلافيا آنذاك سلوبودان ميلوسيفتش. سقط في المذبحة أكثر من 8 آلاف مسلم، من بينهم أطفال ونساء وعجائز. وارتكبت الجريمة في المكان الذي كان الضحايا يحتمون فيه تحت مظلة الأمم المتحدة التي يمكن القول إن قواتها دخلت البوسنة لحماية نفسها قبل كل شيء !
سربيرنيتشا التي تابع العالم ما حدث على أرضها واكتفى وقتها بالفرجة وبالدموع، هي احدى مدن جمهورية البوسنة والهرسك التي كانت يوما ما وطوال عصر الراحل جوزيف بروز تيتو جزءا من جمهوريات يوغوسلافيا. وترتبط مأساتها التي روعت العالم بحرب الابادة التي شنتها القوات الصربية ضد مسلمي البوسنة ابتداء من يوم السابع عشر من ابريل عام 1992. هذه الحرب حصدت باعتراف الامم المتحدة أرواح 300 ألف مسلم بوسني على مدى أكثر من ثلاث سنوات، انتهت بما سميت باتفاقية دايتون الموقعة في نوفمبر 1995. كما أسفرت عن تقسيم البوسنة والهرسك إلى جزءين متساويين نسبيا هما: فدرالية البوسنة والهرسك، وجمهورية صرب البوسنة كما أدت إلى انتشار قوات حفظ السلام الدولية »الإيفور«.
خلال العام الأخير من حرب الابادة، اجتاحت قوات صرب البوسنة مدينة سربيرنيتشا، وفصلت الرجال والاطفال عن عائلاتهم وقتلت منهم ما يزيد عن ثمانية آلاف شهيد. وثبت بالفعل من لجنة رسمية تشكلت بأمر دولي، اشتراك قرابة 30 ألفا من صرب البوسنة في جرائم تطهير عرقي ضد سكان المدينة وأجبروا أكثر من 15 ألف مسلم على النزوح عن ديارهم بعد أن قتلوا الثمانية آلاف شهيد.
ورغم مرور 13 عاما على تلك المذبحة، الا أنه لايستبعد أن يتم اكتشاف مقابر جماعية للضحايا المسلمين. اذ يشهد كل عام اكتشاف المزيد منها. فمنذ فترة قريبة، عثر على رفات ضحايا في مقابر جماعية في جبال وأودية قرب الحدود مع صربيا. وقد تم التعرف على هوية نسبة قليلة من الجثث عن طريق اختبارات الحامض النووي (دي إن إيه)، ومازالت عظام أكثر من خمسة آلاف شخص معبأة في حقائب ولم يتم فحص معظمها.
وقبل عامين فقط، تابع العالم محاكمة المتهمين بمجزرة سربيرنيتشا. وفي أغسطس عام 2006، أدانت رئيسة الادعاء العام في محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي، فشل صربيا في تسليم السفاح الجنرال راتكو ميلاديتش، في الوقت الذي حاكمت فيه عددا محدودا من صرب البوسنة بتهم ارتكاب جرائم حرب في يوغسلافيا السابقة.
وفي فبراير من العام الماضي، أي بعد 15 عاما من حرب الإبادة ضد المسلمين، نظرت محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا ، أول قضية توجه فيها دولة وهي البوسنة والهرسك تهمة الإبادة الجماعية ارتكبتها دولة أخرى هي صربيا، وهي جريمة طبقا لمعاهدة الأمم المتحدة الموقعة في عام 1948.
وللأسف، برأت المحكمة جمهورية صربيا من المسؤولية المباشرة عن الإبادة الجماعية خلال الحرب التي استمرت ثلاث سنوات. وقالت المحكمة أن المذابح التي تعرض لها مسلمو البوسنة في مدينة سبرينيتشا تمثل إبادة جماعية، إلا أنها لا تستطيع التأكد من مسؤولية صربيا عنها. وكان بالإمكان أن يحصل مسلمو البوسنة على تعويضات مالية تقدر بمليارات الدولارات لو أدينت صربيا من قبل محكمة العدل.
ولكن رئيسة المحكمة القاضية روزالين هيجنز قالت إن الإبادة الجماعية التي تمت في سربيرنيتشا لا يمكن تحميل مسؤوليتها لدولة صربيا، الا أنها اعتبرت أن صربيا انتهكت القانون الدولي لإخفاقها في التحرك لمنع جريمة الإبادة في سربيرنيتشا. إذ أن صربيا - كما قالت المحكمة - لم تتعاون بالكامل مع محكمة الجزاء الدولية التي تلاحق المسؤولين عن مجزرة سربيرنيتشا، وألقت المسؤولية على ما أسمتهم عناصر من جيش صرب البوسنة.
وأشارت بالاسم إلى السفاح الجنرال الصربي راتكو ملاديتش المطلوب لمحكمة الجزاء الدولية باعتباره متهما بصفته المشرف على تنفيذ المجزرة. ورغم موت سفاح الصرب الأول ميلوسيفيتش في وحدة الاعتقال التابعة للمحكمة الدولية إثر إصابته بأزمة قلبية ،إلا أن رئيس صرب البوسنة دراجان كافيتش بعد سنوات طويلة من المجزرة وبوازع من ضميره، وصف المذبحة بأنها صفحة سوداء في تاريخ الشعب الصربي .
واعترفت حكومة جمهورية صرب البوسنة رسميا وبعد تسع سنوات من الجريمة، بأن القوات الصربية تتحمل مسؤولية قتل المسلمين في مجزرة سربيرينتشا. وجاء هذا الاعتراف ضمن تحقيق رسمي أجرته سلطات صرب البوسنة في المجزرة.
وأقرت لجنة التحقيق بوقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والسعي إلى إخفاء الأدلة التي تقود إلى ذلك. كما كشفت النقاب عن وجود 32 مقبرة جماعية لم يتم الحديث عنها في السابق، ومازال البحث مستمرا حتى الآن عن مقابر جماعية أخرى.
إضاءة
تقع البوسنة والهرسك في وسط أوروبا وهي جزء من بلاد البلقان. تحدّها من جهتي الشمال والغرب كرواتيا، ومن جهة الشرق صربيا، ومن الجنوب الشرقي مونيتنيغرو أو جمهورية الجبل الأسود.
وينحدر شعب البوسنة الى العرق السلافي. وخلال خضوع البوسنة للحكم العثماني الذي امتد من عام 1463حتى عام 1878 ، أسلم عدد كبير من سكانها، وأطلق عليهم اسم البوشناق. واكتسبوا عادات وتقاليد وسلوكيات الاتراك. وهناك أقليات صربية تعتنق الأرثوذكسية وأقليات كرواتية تعتنق الكاثوليكية.
وظلت البوسنة والهرسك جزءاً من الإمبراطورية العثمانية حتى مؤتمر برلين الذي عقده زعماء الدول الأوروبية الكبرى سنة 1878م.. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أصبحت البوسنة والهرسك تحت اسم مملكة الصرب والكروات وسلوفينيا. ثم أعيدت تسمية هذه المملكة حيث أصبح اسمها يوغوسلافيا سنة 1929م.