منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - اصول الايمان
الموضوع: اصول الايمان
عرض مشاركة واحدة
قديم 2019-04-22, 11:05   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B18 اصول الايمان

أُصُول الإيمان (2)
الدَّرسُ الأول (1)
د. فهد بن سعد المقرن
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكُم الله يا شيخ عبد الرحمن، وأسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والإعانة، وأن يكون هذا الفصل بداية خيرٍ للجميع، وأن يرزقنا العلم النَّافع، والعملَ الصَّالح.
{نستأنف في هذا الفصل -بإذن الله- باب "حقوق النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"من متن أصول الإيمان.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب حقوق النبي -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- وقول اللَّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ الآية [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وقول اللَّه تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الآية [الحشر: 7].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّها، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». رواه مسلم)}. بسم الله، الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فهذا الباب عقده المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؛ لبيان أصلٍ مِن أصول الإيمان وهو ما يتعلق بحق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا الأصل مُتفرِّعٌ عن أصلٍ من أصول الإيمان، وهو: الإيمان بالرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- ولهذا فإنَّ الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أوردَ الآيات والأحاديث في الدلالة على ذلك.
تحت هذا الباب وهذه الآيات والأحاديث مسائل يحسُن بنا أن نتعلمها وأن نذكرها:
أولى هذه المسائل: نقول: إنَّ من أركان الإيمان بالله-عزَّ وَجلَّ: ركنُ الإيمان بالرسل، وأركان الإيمان معلومة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
فلاحظ أنَّ الإيمان بالرُّسل أصلٌ من أصول الإيمان، وهذا الأصل لابدَّ فيه من الاعتقاد الجازم بأنَّ لله رُسلًا أرسلهم، نُؤمن برسالتهم، ونُؤمن بأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- أرسلهم وأنزل عليهم الكتب، مُبشرين ومُنذرين، وداعين إلى توحيد الله -عزَّ وَجلَّ، ونؤمن بأنَّ الله تعالى خَتَمَ الرِّسالة بنوَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو آخر الرسل، وخاتم النبيين -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكما أنَّه خاتم الرسل، فما جاء به من الاعتقاد والدِّين هو ختمٌ للرسالات النبويَّة، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وبه ختمت الرسالة، ودينه ناسخٌ للأديان السَّابقة، فلا يَقبل الله -عزَّ وَجلَّ- إِلَّا دين الإسلام، إلا ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإيمان بنبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تشمل الإيمان بأن الله أرسله للناس جميعًا، للثقلين الإنس والجن، وهذا اعتقاد لازم في الإيمان.
قال الله تعالى في بيان عُموم نُبوة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ إذن "العَالمين" يشمل كل العوالم، ومنه الإنس والجن، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].
ومن بلاغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه بَلَّغ الجن، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29].
ومن الإيمان بعموم رسالة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيمان بأنَّه النَّبي الخاتم -كما أسلفنا- فقد ختمت النُّبوة به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أنَّ الكتاب الذي أنزله الله على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو القرآن العظيم الذي سمَّاه الله تعالى بالفرقان نُسِخَت به الكتب السَّابقة؛ لأنَّ الكتب السَّابقة لم تَسْلَم مِنَ التَّحريف والتغيير والتَّبديل، كما عند اليهود بما يُسمى "التَّوراة" أو بما يُسمى بــ"العهد القديم"، وعند النَّصارى بما يسمى بــ"الإنجيل" أو ما يسمى بــ "العهد الجديد"؛ فهذه كلها دَخَلَها التَّحريف والتَّغيير والتَّبديل في لفظها وفي معناها، وأمَّا الكتاب الذي أنزل الله -عزَّ وَجلَّ- على محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبلَّغه الأمين جبريل -عليه الصَّلاة والسَّلام- للنبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومِنْ ثَمَّ بَلَّغَه النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمَّته فهو محفوظ من التَّغيير والتَّبديل، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]؛ فحفظه الله -عزَّ وَجلَّ- وجعله ناسخًا ومهيمنًا بقوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]، أي: مهيمنًا على الكتب السَّابقة وناسخًا لها، وهذا لابدَّ فيه من الإيمان، ومن اعتقد خلاف ذلك فقد خرج من دين الإسلام بإجماع أهل العلم قاطبة.
ثاني هذه المسائل: هي مسألة مهمة ينبغي لطالب العلم أن يتعلمها وأن يُعَلِّمها النَّاس؛ أنَّ معرفة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُقْبل فيها التَّقليد؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ التقليد في الاعتقاد، قال تعالى عن أهل الشِّرك: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾[الزخرف: 23].
وقد صرَّح العلماء-رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- بأنَّ معرفة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُقبل فيها التقليد، قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: "كل ما يُطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه، والأخذ فيه بالظن؛ لأنه لا يُفيده" ، أي: لا يُفيد المعتقد لاعتقاده.
قال الشَّيخ عبد الله بن مطير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "فرض على كل أحد معرفة التَّوحيد وأركان الإسلام بالدَّليل، ولا يجوز التَّقليد في ذلك، والعامِّي إذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدَّليل"، يعني: يترجم هذا الاعتقاد بالدَّليل، لا يلزم أن يحفظ الدَّليل، ولكن لابدَّ فيه من الاعتقاد الجازم، لا يقوله تقليدًا.
{هل يُفهم من هذا أنَّ تقليد الصَّحابة أو التَّابعين غير سائغ؟}.
لا، التَّقليد ليس هذا محله، ولكن التأسِّي بأفعال الصَّحابة له باب، والتَّأسِّي لابد أن يكون أصله مشروعًا، فالصَّحابة -رضوان الله عليهم- لا يُتأسَّى إلا بما هو مشروع مما يفعلونه؛ لأنَّ الحجَّة والأسوة في النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولهذا فإنَّأسوةالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءت بالدَّليل، ولهذا ألَّفَ الشَّيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- رسالة "الأصول الثلاثة"، وهي رسالة عظيمة، ومن ملخصاتها: رسالة "تلقين العامة أصول الدين"، وهذا يدلك على أن دعوة الشيخ المجدد-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- دعوة عمليَّة كما أنَّها دعوة عالميَّة وعلميَّة فهي أيضًا علميَّة نشرت العلم، حتى إنَّ العامِّي من المنتسبين للدعوة يعرف أصول الدين بالدليل ويحفطها، لهذا ألف الشيخ الأصول الثلاثة؛ لأنَّ هذه الأصول مبينة على سؤالات الملكين للمقبور، فحينما يُقبَر الإنسان يُسأل عن هذه الثلاث مسائل: (من ربك؟ من هذا الذي بُعث فيكم -وفي رواية: من نبيك- وما دينك؟)؛ فهذه الأسئلة لا يُقبل فيها التَّقليد، ولهذا فإنَّ الإنسان يجيب عن الاعتقاد الذي كان عليه حال الحياة.
وجاء في رواية عن سؤال الملكين منكر ونكير: قال: فأما المنافق والكافر فيقول: «لها ها َالا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ» ، فدلَّ على أنَّه مُقلِّد، ما قاله عن اعتقاد، ولهذا ألَّفَ الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-"تلقين العامة أصول الدين"، ولهذا كان عامة أهل هذه المنطقة وإن لم يكن يقرأ ويكتب يحفظ هذه الرسالة عن ظهر غيب؛ لأنه لا يُقبل فيها التَّقليد، وقد أدركتُ أنا كبار سنٍّ يحفظونها وهم لا يَقرؤون ولا يكتبون! لأنها من الاعتقاد والاعتقاد لا يُقبل فيه التَّقليد.
وورد في رسالة الأصول الثلاثة وفي رسالة تلقين العامة أصول الدين: (فقل: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، بلده مكة، هاجر إلى المدينة....)، تفاصيل تُنبئ عن أن مَن يسأل عنها يعرفها، وهي جُمَل بسيطة مطلوب من الإنسان أن يحفظها وأن يعرفها؛ لأنها من الدين، فالإنسان يحفظ أشياء كثيرة، ولا يُقال: إن الذي لا يقرأ ولا يكتب لا يحفظ، لا؛ بل إنَّ العامَّة يحفظون أبيات شعر كثيرة، فما بالك بما يتعلَّق بالدِّين؟! فهذا أمر مُهم جدًّا.
ولهذا فإنَّ تعليم العَامِّي معنى مَعرفة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مهمٌّ جدًّا؛ لأنَّ هذه المسألة من المسائل التي يُسأل عنها الميت حينما يدفن في قبره: «من نبيك؟ ما دينك؟»، فدلَّ على أنَّ هذا الاعتقاد دون معرفة، والمعرفة تحصل بالبيان، وهذا يدلُّك على عناية دعوة الشَّيخ الإمام المجدد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بأمر التَّوحيد وأصول الإيمان، ويدلك على وسطية هذه الدعوةفي حق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمَّا المناوئين للدَّعوة والمشبِّهين والمضلِّين فإنَّهم ينسبون للدَّعوة الكذب والزُّور وأشياء غير صحيحة، أمَّا أهل السُّنة فيعلمون عامتهم اعتقادهم في النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويعلمونهم اسمه ومولده وبما أرسل؛ فدلَّ على أنهم هُم أهل تعظيم للنَّبي وتعزيره وتوقيره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك مما هو متعلِّق بمسائل أصول الإيمان وركن الإيمان بالرُّسل، والإيمان بنبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن تؤمن بهذه الشَّهادة التي هي أحد أركان الإسلام؛ لأن أول أركان الإسلام الشَّهادتان:شهادة أنَّ لا إله إلا الله: وقد تقدم معنا تعريف هذه الشهادة، وأنه لا معبود بحقٍّ إلا الله، وأن توحيد الله -عزَّ وَجلَّ- بألوهيته، وذلك متضمِّن لتوحيده بربوبيَّته وأسمائه وصفاته -كما هو معلوم، وأن تعرف معنى هذه الشَّهادة، فالشَّهادة هي: أن تقرَّ بلسانك، وتعتقد بقلبك هذا الإقرار الذي أقررت به، فلا يتم الإيمان إِلَّا به.
ومعنى أنَّ الإنسان يشهد أنَّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أن يوافق قوله بلسانه شيئًا من الاعتقاد، فلا يقول ألفاظًا مجردة لا معنى لها، قال أهل العلم: معنى الإقرار بالشهادة: "طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبَد الله -عزَّ وَجلَّ- إلا بما شرع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فهي عبارات موجزة، ولكن تحتمل معانٍ عظيمة، ويلزم من الإقرار الالتزام؛ لأنَّ الدين ليس ألفاظًا مجردةً، بل ألفاظ يتبعها معنًى واعتقاد وعمل، فإذا أقررت بشهاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيلزم من هذا الإقرار أن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يُصدَّق فيما أخبر به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والأنبياء تخبر بما تحار به العقول، لا بما تحيله العقول، فأشياء كثيرة جاء بها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأخبار أشراط السَّاعة، وأخبار الأمم السَّابقة قد تحار العقول فيها، ولكن لا تحيلها، فليزمك أن تصدق بها، وأن تعلم أن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالها، وإذا قالها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيلزمك أن تعتقد بصدقها، فإذا ساورك الشَّكُّ أو الرَّيب فيها فقد أخللت بمقتضى هذه الشهادة التي قلتها بلسانك.
وأما اجتناب ما نهى عنه وزجر؛ فإن الإيمان لا يكمل إلا بهذا.
وأن لا يُعبَد الله -عزَّ وَجلَّ- إلا بما شرعه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الشريعة قد كمُلَت بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، والذي يُخبر عن الإسلام هو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]، فالتَّأسِّي إنما يكون بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكما قال الإمام مالك: "كلنا رادٌّ ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر"، يعني: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالتَّحاكم إلى كتاب الله، وإلى سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعرف الحق، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ- في أكثر من موضع من كلامه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الحجرات: 1]، فلا يتقدَّم الإنسان بعقله أو برأيه على ما أمر الله به، وما أمر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الله -عزَّ وَجلَّ:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[الحشر: 7]، فهذا مُقتضى الإيمان والشَّهادة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء بشريعة تنظِّم العلاقات بين النَّاس، ويُتحاكم النَّاس إليها في كلِّ شيء، في الجنايات، في الدِّيات، في الأحوال الشَّخصية كلها، فهذه شريعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موجودة في القرآن، وفي سنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم لما أنزل الله الشريعة بيَّنَ أنه لا يتم الإيمان إلا بالتَّحاكم إلى هذه الشريعة، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، ومما يُحمد للدولة السعودية في هذا القرن الرابع عشر: "النظام الأساسي في الحكم أنَّ الحكم لكتاب الله ولسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكل نظام يُخالف هذا فهو لاغٍ وباطل"، جاء هذا في المادة السابعة من النِّظام الأساسي للحكم، وهذا عمل بما أمر الله به، وهذا من علامات التَّمكين ومن علامات الخير لهذه البلاد، ونسأل الله -عزَّ وَجلَّ- أن يعم الخير بلاد المسلمين جميعًا؛ لأنه لا راحة للناس ولا أمان ولا استقرار إلا بالتَّحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن تمام الشَّهادة: الانقياد والطَّاعة للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وانتفاء الحرج في القلب، فلا تجد حرجًا في حكم الله -عزَّ وَجلَّ- وحكم رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذكر الشيخ قول الله -عزَّ وَجلَّ- في الآية الأولى وهي خطاب للمؤمنين، قال عبد الله بن مسعود: "إذا سمعت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سمعك، فإنها إمَّا خير تؤمر به أو شر تُنهى عنه".
قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ الآية [النساء: 59].
هنا ملحظ: أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- عطف طاعة ولي الأمر على طاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال علماء التفسير: "فكرَّرَ الفعلَ في حقه تعالى وفي حق رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يكرره في حق ولاة الأمر؛ لأنَّ أمر الله يُطاع استقلالًا، مع أن الله أمر بطاعته، وليس معنى ذلك أنهم لا يُطاعون؛ بل يطاعون، ولا تنتظم أحوال الناس إلا بطاعة أولي الأمر، ولكن لأن طاعة الله وطاعة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تجب استقلالًا، ولا ينُظر فيها، فإذا جاءك الأمر من الله أو الأمر من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاسمع وأطع، أمَّا طاعة أولي الأمر فهي تبعٌ لطاعة الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيُطاعون كما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المعروف، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن طاعتهم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» ، أي: فيما يُعرف في الشريعة بما لا يُخالف الشريعة، فلا يُطاع في المعصية، فولاة الأمر إن أمروا بمعصية فلا يُطاعون، فكل من له ولاية حتى الوالد والوالدة إذا أمروك بمعصية فلا طاعة لهم!
ولهذا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وطاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استقلالًا، وأولي الأمر يُطاعون في المعروف، وفيما لا نصّ فيه، كتنظيم أحوال النَّاس وترتيبها، والأمر بهذا والمنع من هذا؛ فهذا لا يُخالف الشَّريعة؛ فتجب الطَّاعة لهم فيه؛ لأنَّ أمور النَّاس لا تستقيم إلا بطاعتهم.
وقد ألَّف الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- رسالة من إملائه في مجلسٍ واحدٍ في طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد ذكرَ ابن القيم جزءًا منها، فطاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الإيمان، والاستجابة لذلك، وتعظيم أمر الله -عزَّ وَجلَّ.
الآية الثانية: قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، إذن طاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-سبب للرحمة.
قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الآية [الحشر: 7]، إذن في الأمر والنهي يُطاع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أورد الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حديث أبي هريرة: «أُمِرتُ أَنْ أُقاتِل النَّاسَ...».
تحت هذا الحديث مسائل مهمة جدًّا:
المسألة الأولى: مشروعية الجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله -عزَّ وَجلَّ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرتُ أَنْ أُقاتِل النَّاسَ»، أمره الله -عزَّ وَجلَّ- بذلك لإعلاء كلمة الله وظهور التوحيد، وهذه شريعة، والجهاد ذروة سنام الإسلام، وهذا الجهاد موجود حتى عند الأمم الأخرى، فكل من كان له اعتقاد لابد أن يكون عنده دفاع عن هذا الاعتقاد ونشرٌ له.
وهذا الجهاد له أحكام في الشريعة كما أنَّ الصَّلاة لها أحكام، فتختلف أحواله باختلاف أحوال المسلمين وقدرتهم، وتمكُّنهم، فجهاد الطلب ليس مشروعًا في كل وقتٍ وكل حينٍ، ويقتضي النظر فيه إلى السِّياسة الشَّرعيَّة، لكنَّه ذروة سنام الإسلام ومن شعائر الدين، فلا أحد يُشكِّك فيه؛ لأنه موجود في القرآن، وإنما شُرِعَ لأجل أمرٍ، وليس لقتال الآخرين والمغالبة على الدنيا ولاستيلاء على الأراضي والسَّيطرة على الشُّعوب، هذا قتال الأمم الأخرى، أمَّا قتال أهل الإسلام المسمَّى بالجهاد فما شُرع لهذا، وإنما شُرع لشيءٍ معيَّنٍ، وهو ظهور التَّوحيد، والنَّاس فيه سواسية، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتَّقوى، فظهور الشَّريعة فيه الأمان والسَّلامة للنَّاس، ولذا كان الصَّحابة -رضوان الله عليهم- في قتالهم للفرس والروم يقولون: أمرنا بإخراج الناس من عبادة العبادة إلى عبادة ربِّ العباد، فكان جهادهم رحمة للأمم المجاورة، فكان الفرس يستعبدون من تحت أيديهم من شعوبهم، والروم كذلك، وجاء الإسلام ليُحررهم من رق العبودية والاستعباد إلى عبادة الواحد الأحد، وأمنوا في الإسلام وحصل لهم الخير، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]، الفتنة هنا: الشرك.
وهذا القتال والجهاد ملاكه ليس بأيدي الناس والأفراد، ولكن بأيدي مَن ولاهم الله -عزَّ وَجلَّ- الأمر، والناس تبعٌ لهم، فهو تبع لحال المسلمين بحسب القدرة عليه والتَّمكُّن، فلا يُشرَع في كل وقتٍ، أما الدفاع فواجب، فلو أنَّ أمة من الأمم هاجمت بلد من بلدان المسلمين؛ فيجب على أهل الإسلام وأهل تلك البلدة أن يدفعوه، وأَّما جهاد الطلب فهو بحسب القدرة والتَّمكُّن، وليس مشروعًا في كل وقت، وتقريره إنما يكون على ولاة أمر المسلمين وليس لأفراد الرعية.
كذلك من المسائل المهمة في هذا الحديث وهو أصل عظيم من أصول الإسلام: أنَّ الطَّريق الشَّرعي للدخول إلى الإسلام هو النُّطق بالشَّهادتين، وهو أول واجب على المكلف، فأوَّل واجب هو شهادة أنَّ لا إله إلا الله، فكل من يريد أن يدخل في الإسلام ينطق بالشَّهادتين، والنُّطق باللسان يشمل الإقرار والاعتقاد بالقلب لما يقوله بلسانه، ثم يمتثل ويعمل، فالاستسلاملله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله؛ لا يتم إلا بمثل هذا، وهو أول واجب على المكلف. وهذا هو منهج أهل السُّنة والجماعة وعقيدتهم.
أمَّا عقيدة أهل البدعة من الطَّوائف الكلاميَّة: يقولون: إنَّ أوَّل واجبٍ على المكلف هو النَّظر، أو القصد إلى النَّظر، أو الشَّك! وهذا أُخذ من تراث الأمم السَّابقة، ومن زُبالَة أفكار البشر!
وأمَّا ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يأتِ منه أن أوَّلَ واجبٍ النَّظر أو القصد إلى النَّظر او الشَّك؛ إنَّما جاء الأمر بالشَّهادة.
وفي قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرتُ أَنْ أُقاتِل النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّه فَمَنْ قَالهَا، فقَدْ عَصَمَ مِنِّي »، يعني: مَن أظهر الإسلام بالنُّطقِ بالشَّهادتين قُبِلَ منه، فمن قال: "أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله" قُبِلَ منه؛ لأنَّ الإقرار القلبي لا يطَّلع عليه إِلا الله -عزَّ وَجلَّ- ولهذا عاتب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسامة بن زيد حينما قتل مَن يُقاتله، فلما سقط منه السيف قال: "لا إله إلا الله" قالها مُتعوِّذًا؛ فعاتبه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ!» .
فمن أظهر النُّطق بالشَّهادتين قُبِلَ منه، ووُكِلَ إلى أمر الله -عزَّ وَجلَّ- ومن أظهر الإسلام يُعامل معاملة المسلمين ما لم يظهر منه ما يُناقض هذه الشهادة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إلا بحق الإسلام»، فمناقضة هذه الشَّهادة يكون بارتكاب نواقض الإيمان، ونواقض الإيمان كثيرة جدًّا ومذكورة في كتب أهل العلم من فقهاء المالكيَّة والشَّافعيَّة والحنفيَّة والحنابلة، مثل: المغني، المجموع للنَّووي، مختصر خليل، الهداية من كتب الحنفيَّة، وبدائع الصنائع، وتجد كتاب "المرتد" لتوضيح نواقض الإيمان.
فالشَّهادة كما أنها إقرار فإنَّ لها نواقض، فمن لم يُظهر نواقض هذه يُقبَل منه.
كذلك من الأمور المهمَّة التي ينبغي أن يُلفت النظر إليها: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إلا بحق الإسلام»، وفي رواية: «إلا بحقها»، أفاد هذا أنَّ من ارتكب فعلًا يُبيحُ دمه فإنَّه يؤخَذ به، فمن قتل فإنه يُقتل، ومن زنى بعد إحصانٍ فإنه يُقتل رجمًا كما جاء في الشريعة، وكذا من ارتدَّ عن دين الإسلام، ولهذا جاء في بعض الروايات: «والتاركُ لدِينِهِالمفارِقُ للجماعةِ» ، فإنه يُقتَل، وقد ذُكر هذا في باب أحكام المرتد.
إذن نواقض الإيمان ونواقض الإسلام ليست عند الشَّيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وحده؛ بل عند الفقهاء كلهم، حتى إنَّ بعض فقهاء الحنفيَّة يُشدِّدون في مسألة الألفاظ الكفريَّة، فيُكفِّرون بمجرَّد الألفاظ، وهذا لاشك محل نظر، لكن نبيِّن لك أن الشِّيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما انفرد بهذا، ولم ينفرد فقهاء الحنابلة بذلك؛ بل عموم أهل المذاهب، حتى يُعلم أنَّ الإسلام كما أنه يُقبَل فيه الظَّاهر، وأنَّ الإنسان يدخل في الإسلام بكلمة؛ فإنَّه يخرج بكلمة.
وهذا مذكور في القرآن في مسألة الاستهزاء بالله وبرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصَّة الذي استهزؤوا بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابة وقالوا: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء..."؛ أنزل الله-عزَّ وَجلَّ- قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ﴾ [التوبة: 65]، هناك قواعد وثوابت وقع عليها إجماع أهل العلم، حتى يُعلم أن الشَّريعة لم تدع شيئًا إلا وقد بيَّنته وفصَّلته، وأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد بلَّغ البلاغ المبين، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، الحجَّة في كلام الله، وفي كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأمَّا ما عدا ذلك فهو محل نظر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولهما عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
ولهما عنه مرفوعا: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»)}.
قولهولهما)، يعني: البخاري ومسلم من حديث أنس.
وتحت هذا الحديث مسائل:
أول هذه المسائل: أن يُعلم أن حُبَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجب أن يكون أعظم حبٍّ بعدَ حبِّ الله -عزَّ وَجلَّ- وهو تابعٌ لمحبَّةِ الله -عزَّ وَجلَّ- ولازمٌ لهذه المحبَّة، والله -عزَّ وَجلَّ- بيَّنَ التلازم في سورة آل عمران، فقال تعالى:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[آل عمران: 31]، فمحبة الله يستلزم منها محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطاعة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومحبَّة الله ومحبَّة الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي طريق الجنَّة وإن قصُرَ بالعبد العلم، فقد يكون العبد لديه قصور في العمل، فأعظم ما يتقرَّب إلى الله -عزَّ وَجلَّ- به هو محبته، ومحبة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد جاءت البشرى لأهل الإيمان وأهل التَّوحيد، ولمن يحب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويعظمه حق تعظيمه، قال تعالى:﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾[الفتح: 9]، فتعزير النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتوقيره من لوازم الإيمان، فقد جاء رجل إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "متى الساعة؟". فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أعْدَدَتَّ لَهَا؟». قال الرجل: "ما أعددتُ لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة"، أي ما عندي شي كثير من الأعمال، وكأنه استقلَّ عمله، وهذا من طبيعة أهل الخير، قال: "ولكنني أحبالله ورسوله". فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» ، فاستبشر الصحابة بهذا الحديث، لأنهم يُحبون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه بشرى لمن جاء بعده، فمن كان يحب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسبيل محبته مرافقته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجنان، وهذه نعمة، فإنَّ الإنسان قد يقصر به العمل فيبلغ بالاعتقاد القلبي ما لا يبلغه بالعمل، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ- عن أهل الإيمان: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، فدلَّ ذلك على أن الإنسان يبلغ منازلًا في الجنة، لأن الجنةمنازل متفاوتة، منازل عليا بسبب الاعتقاد القلبي ومحبة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بشفاعة الصَّالحين، أو بأن يلحقه الله -عزَّ وَجلَّ- بأبويه وهما أعلا منه منزلةً.
المسألة الثَّانية: أنَّ محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها مظاهر، يُعرف بها إن كانت المحبَّة صادقة أو كاذبة؛ لأنَّ كل يدَّعي هذه المحبَّة، وإنما الشَّأن ليس بالدَّعوى، وإنما موافقة الدَّعوى العمل.
كيف أعرف أني أحبُّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
المحبة عمل قلبي، وليست بعمل ظاهر، وأعمال القلوب لا يطلع عليها إلا علَّام الغيوب -سبحانه وتعالى- ولكن لها شواهد ومظاهر تظهر في الجوارح، ومن أعظم مظاهر محبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طاعته، واتباعه، والتَّأسِّي به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أفعاله، وأن تحافظ على سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القوليَّة والعمليَّة؛ فهذا دليل على أنك مُحبٌّ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن أحبَّ تأسَّى وأطاع، قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُطاع استقلالًا ويُتأسَّى به استقلالًا؛ بينما غيره فإنَّه محل نظر، يُنظَر في فعله ويكون قدوة، لكن قدوته باتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه قد يفعل من الصحابة أفعالًا تخالف ما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجتهادًا، فلا يكون أُسوة، وهذا يتعلق بالسُّؤال السَّابق عن تلقيد الصحابة.
إذن الذي يُقلَّد استقلالًا ويُطاع استقلالًا ويُتأسَّى به هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأما ما عداه فيُنظر هل وافق الشريعة فيُقبل، أو خالف الشريعة فيُرَد، ويُعتذَر له، كأن يفعله عن اجتهاد.
مثلًا: ثبت عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومرَّ عليكم في كتاب الوضوء: أنه كان يُطيل الغرَّةوالتَّحجيل في الوضوء تأوُّلًا في الفضل الذي جاء أن المؤمن يبلغ به الحلية مبلغ الوضوء؛ فيُجاوز الحد!
وهذا اجتهاد منه لا يُوافق عليه؛ لأنه يُخالف النَّص الذي جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مثل هذا.
ومثل ما نُقل عن عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنَّه كان يُدخل الماء في عينيه في الوضوء!
وهذا أيضًا مخالف لما جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه لم يُنقل عنه أنَّ هذه أفعاله، وأفعال الصَّحابي هذه يُعتَذر لها؛ لأنَّ هذه أفعال اجتهاد منه، وليست موضع تأسٍّ واقتداء.
وكذلك من مظاهر محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشواهدها: التَّحاكم إلى سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى شريعته والرِّضا بذلك، ولا يجد في قلبه حرج، فإذا جاءه الأمر عن الله وعن رسوله قال: سمعنا وأطعنا.
ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، ولهذا لما اعترض ابن الخويصرة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟!» ، واختصم الزبير بن العوام ورجل من الأنصار في شراج الحرَّة، فلما تحاكما إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلزُّبَيْرِ «أَسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ:"أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ" فأغلظ على النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله وأساء! والواجب أنه إذا حكم النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُلتزم بحكمه.
ومن مظاهر هذه المحبة: الذَّب عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قالةِ السُّوء، ولازال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُطعَن فيه ويُتكلَّم فيه من أعداء الدين والملة من المتقدِّمين والمتأخِّرين، وشواهد هذا في العصر الحديث!
فمن يُحب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذبُّ عنه ويدافع عن سنَّته من تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وهذا من محبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يكون الدِّين الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما جاء دون غلو أو جفاء.
كذلك من المسائل المتعلِّقة بمحبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّ محبَّته هي الوسطيَّة، فكلٌّ يدَّعي محبته؛ ولكن هذه المحبة بين الغلو والجفاء.
ومِن الغاليين في محبة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طوائف، مثل: الصوفيَّة الطُّرقيَّة، بأشكالهم وألوانهم وطرقهم المتنوعة!
وقد نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الغلو في حقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا موضع مهم جدًّا؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الغلو فيه.
ومن غلو النصارى في عيسى بن مريم أنهم قالوا: إنه ابن الله، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30]، فهذا من الغلو في عيسى بن مريم، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، ولهذا فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، فحذر من الغلو في حقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي حقِّ الصالحين أيضًا، فقال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، يُحذر مما صنعوا.
فالنصارى ادَّعوا أنَّ المسيح ابن الله، ومن ثَمَّ دَعوه من دون الله، والنَّصارى الآن يدعون عيسى ويؤمنون به أنَّه المخلص، ويدعونه وأمَّه من دون الله، ويوم القيامة يُحضَر الناس ويُبيَّن أن عيسى لم يأتِ بهذَا، قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ﴾[المائدة: 116]، فعيسى جاء بالتَّوحيد، وما جاء بالشرك، ولهذا فإن مَن غلا في حق عيسى فقد أطراه، والذي حملهم على ذلك هو الغلو في المحبَّة، فالمحبَّة مطلوبة، ولكن من يغلو في المحبة فقد تجاوز الحدود الشَّرعيَّة، وكما أنَّ النَّصارى غلت في عيسى أخبر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ هذه الأمَّة سيقع منها الغلو؛ لأنه قال: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» ، لأنَّ ما أحد يدخل جحر الضَّبِّ؛ لأنه مكان غير صالح للدخول، ولا حتى أن تدخل يدك فيه!
قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟!. قال: «فَمَنْ؟!»، إذن الأمة تتابع اليهود والنَّصارى،وهذا إخبار من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسنة وكونيَّة وقعت بالأمَّة، فقد أطروا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغلو فيه بزعمهم أنَّهم يحبونه، فأحذث الصُّوفيَّة الطرقيَّة مولدًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي لم يحتفل به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا الصَّحابة ولا التَّابعين، وما زالوا يشبهون على النَّاس كما فعلت النَّصارى في الاحتفال بميلاد المسيح ابن مريم، والذي لا يصح أصلًا من جهة هذا ولكنهم يفعلونه، فضاهت هذه الأمَّة بعض ما وقع في اليهود والنصارى من جهة الغلو، وكما أنَّ اليهود غلت في عُزير فقالت: إنه ابن الله.
ومن الإطراء: أن يُدَّعَى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم الغيب، أو أنَّه يُستغاث به من دون الله، أو يُعتَقَد أنه يتصرَّف في الكون، البوصيري صاحب القصيدة المشهوة "البردة"، هذه القصيدة فيها ثلاثة أبيات -نسأل الله السلامة والعافية!
يقول قاصدًا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَالَي مَنْ أَلُوذُ بِهِ *** سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ
العياذة والاستعاذة لا تكون إلا بالله، ولا تكون بغير الله -عزَّ وَجلَّ-، فلا تكون بملكٍ مقرب ولا بنبيٍّ مرسل بإجماع أهل العلم.
يقول:
إِنْ لَم تَكُنْ آخِذًا يَوْمَ الْمَعَاِد يَدِي *** عَفْوًا وَإِلَّا فَقُل: يَا زَلَّةَ الْقَدَمِ
وغلا في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصيدته، فقال:
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضُرَّتَهَا *** وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ
فهذا ادِّعاءٌ أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم الغيب، وقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188]، وهذا خطاب الله -عزَّ وَجلَّ- للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما نقرأ القرآن! ما نتعلم ما في القرآن! ما نرجع لكلام أهل العلم! فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعلم الغيب إلا ما أعلمه الله، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: 65]، وقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ﴾[الأنعام: 59]، فهذا كله لا يعلمه إلا الله -عزَّ وَجلَّ. فهم يعتقدون أن من علوم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم اللوح والقلم!!
والنَّبي لا يعلم إلا ما أعلمه الله به، فلا يعلم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا إذا جاء جبريل بالوحي وأخبره، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُزِمَ أصحابه يوم أحد، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثبَتَ، وكُسرَت رَباعيَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشُجَّ رأسه، ودخلَت حلقتين من حِلَق المغفر في وجنتيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسالَ الدَّمُ منه، فلو كان يعلم الغيب ما مسَّه السُّوء -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدلَّ هذا على أنه لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى به، ويجري عليه ما يجري على البشر من الألم والمرض، فاللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه.
وهذه هي محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المحبَّة الحقيقيَّة التي تُبيِّن وسطيَّة أهل السُّنَّة في هذا، أمَّا مَن يُخالف هذا ويعتقد أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو مَن دون النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم الغيب؛ فلا شكَّ أنَّ هذا ضالٌّ منحرف.
ومن المسائل المهمَّة: أنَّ الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب ضمَّن في أصول الإيمان حقوق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي هذا أبلغ الرَّد على من يُناوئ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فزعمغلاة المتصوفة، وشبَّهوا على الناس بالأكاذيب والضلالات أن محمد بن عبد الوهاب يتنقَّص النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقول: عصاي هذا أنفع لي من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! وأنه يُحرِّم الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
إلى آخر هذه الأكاذيب التي تردها كتب الشيخ التي تشهد بخلاف ذلك، ويكفي في ذلك ما عرضه من حقوق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الموجودة في كتبه التيبينَ أيدينا، وهو من المعظِّمين للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّعظيم الذي جاء به الشريعة.
والشَّيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- اختصر سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتابه، والشيخ-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يرى أن الصَّلاة على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ركنٌ من أركان الصَّلاة، لا تصح الصَّلاة إلا بها، بخلاف قول غيره من فقهاء الحنفيَّة والمالكيَّة الذين يرون أنَّها سنَّة؛ فكيف يُقال أن محمد بن عبد الوهاب يُعادي!!
ولكن الله -عزَّ وَجلَّ- قد كتب لكل أصحاب الحق العداوة، الأنبياء ما سلموا من العداوة، قال تعالى:﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾[الفرقان: 31]، وينبغي على الإنسان ألا يصدق الأكاذيب والتُّرهات، يقول أبو كِلابة الجُرمي-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "يا أهل السنَّة لا تهولنكم الألقاب"، تسمية دعوة الشيخ بأنها "وهابيَّة" أو كذا...، فهذه ألقاب، كما أن أهل السنة في وقت المعتزلة والجهميَّة كانوا يسمون الإمام أحمد وسفيان الثَّوري وسفيان بن عيينة والشَّافعي وغيرهم من أهل السُّنن "حشويَّة، نوابت، حملة أسفار"، فهذه شِنْشِنةٌ معروفةٌ من أهلِ الباطل، ما تهولنا الألقابُ، وإنما ننظر إلى الحقائق، فإذا قيلت الدَّعوة فلينظر الإنسان بالبينة والمعرفة لمثل هذا.
هذا ما يتعلق ببعض هذه المسائل، ولعل الله -سبحانه وتعالى- ييسر أن نكمل الأسبوع القادم -إن شاء الله- ما يتعلق بالمسائل التَّابعة لهذا الحديث، والله أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
منقول ....البناء العلمي









 


رد مع اقتباس