منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - اشْكَالاتُ الدَّلالَةِ النَّقْدِيَّةِ لِمصطلح القصيدة الطويلة في شعر التفعيلة المعاصر
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-11-05, 20:45   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
الصقر الأسود ...
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية الصقر الأسود ...
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

و من نماذج هذا الشكل نقف على قصيدة "لاعب النرد" للشاعر محمود درويش من ديوانه الأخير "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" ، فهذه القصيدة من الناحية الشكلية تحتوي على حدّ أدنى من الطول، قد يثير حولها خلافا في ما يتصل بهذا الأمر، وهو من مثل ما لمسه عز الدين إسماعيل في حديثه عن قصيدة "الملك لك" لصلاح عبد الصبور فرأى أنها "و إن لم تكن من حيث الطول الحرفي طويلة، فإن معماريتها تمثل صورة لمعمارية القصيدة الطويلة " (1)،وقصيدة محمود درويش لا تنتمي للمعمارية الدرامية التي ألحّ عليها كثير من النقاد ،بل إنها تمازج بين الغنائية والسردية والدرامية، وتتجلى فيها العاطفة الفردية الجياشة بصورة لا تطغى على الفكرة أو الرؤية التي يحملها النص،وبقدر ما فاض النص بالعاطفة الفردية، فإنه قد انتظمته فكرة موحدة، تحولت بالنص من الذاتية إلى الموضوعية من خلال ضمير المفرد المتكلم وعبّر عنها الشاعر من خلال امتلاكه التقنيات الفنية الحديثة للقصيدة المعاصرة،تمثل بعضها في التناص،والسرد،والحلم،والتذكر،والتداعي،والحوار،وشيء من الصراع، وتوظيف الرموز،والأساطير وغيرها، يقول محمود درويش:
أنا لاعب النرد ،
أربح حينا و أخسر حينا
أنا مثلكمْ
أو أقل قليلا...
ولدتُ إلى جانب البئر
و الشجرات الثلاث الوحيدات كالراهباتْ
ولدت بلا زفّةٍ و بلا قابلهْ
وسُميتُ باسمي مصادفةً
و انتميت إلى عائلهْ
مصادفةً،
وورثت ملامحها و الصفاتْ (2)
إن العاطفة الفردية التي تظهر في المقطع السابق ببنائها الغنائي ذات أهمية كبرى في التأسيس لفكرة موحدة تشكل الهاجس الذي يؤرق الشاعر ، و سؤال الأنا الذي يلح على الشاعر لا ينفصل أبدا عن القضية المركزية التي يعشها، فأنا الشاعر التي تبرز على طول النص هي الأداة التي يعبّر من خلالها عن قضية الوطن ومعنى الوجود الذاتي الذي لا يكون إلا بوجود الوطن ، يقول :
من أنا لأقول لكم
و ما أقول لكم
عن باب الكنيسة
ولست سوى رمية نرد
مابين مفترس وفريسة
ربحت مزيدا من الصحو
لا لأكون سعيدا بليلتي المقمرة
بل لكي أشهد المجزرة (3)
والمكاشفة التي يضع الشاعر نفسه أمامها تكشف عن الحقيقة القاسية، التي تمثل حقيقة وجود الشاعر،فيعترف بالتحول الحاد الذي يعيشه عبر التحول من لاعب إلى لعبة ،بل إلى رمية تجعل منه رقما يحدد قيمته الحظ فقط ،فالواقع الذي يحياه ، و النجاة ، و كل ما هو عليه كان مقدرا له، ولم يكن هو الذي يصنعه، والذاتية هنا تعبّر عن تحولالإنسان بصورة عامة عند الشاعر من خلال الإنسان الفلسطيني لا إلى لاعب نرد ،بل فيالواقع إلى حجر نرد يُرمى به، فلا يستطيع أن يعرف إلا مكان سقوطه. وهذا المكان ليسمكانا ثابتا. فكل إلقاء جديد لحجر النرد قد يقذف به إلى مكان آخر ، يقول :
و مصادفة صارت الأرض أرضا مقدسة
و مصادفة صار منحدر الحقل في بلدٍ
متحفا للهباء...
و مصادفة عاش بعض الرواة و قالوا :
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشري عناوين أخرى (4)
فالفكرة الموحدة موجودة في النص على الرغم من الغنائية التي يعج بها ،و قد استطاع الشاعر أن يخفف من حدة هذه الغنائية من خلال البناء السردي و توظيف بعض التقنيات الشعرية المعاصرة ، كاستخدام المنولوج في كثير من المقاطع ،و تقنيات الحلم و التذكر، والإشارة إلى بعض الأساطير كنرسيس وأولمب،وتوظيف بعض الرموز كأمرئ القيس،والتناص مع القرآن الكريم من خلال الإشارة إلى حادثة الإسراء والمعراج،وميلاد عيسى،وخبر موسى في جبل الطور، وغيرها،وهذه التقنيات والرموز والأساطير تتطلب من الشاعر مساحة أكبر للتعبير بها على نحو تام ومترابط .


(1)المصدر نفسه ،ص 268.

(2)درويش،محمود :لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي: لاعب النرد، رياض الريس للكتب والنشر،2009 ،ص35-36.

(3)المصدر نفسه ، ص40.

(4)درويش، المصدر السابق ، ص52-53.








 


رد مع اقتباس