منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الحلقة الرابعة من: ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري
عرض مشاركة واحدة
قديم 2008-07-04, 09:51   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
أبو إدريس
كبار الشخصيات
 
الأوسمة
وسام الشرف 
إحصائية العضو










افتراضي

قال صاحب (فك الشفرة) : ((ورحل الأمير عبد القادر إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية ، وبوعدٍ غير واضحٍ من الإمبراطور الفرنسي بتنصيبه إمبراطوراً على البلاد العربية)).انتهى
أقول : لماذا لا يذكر لنا الكاتب مصادر معلوماته؟
والمعلومة الجديدة هي وعد نابليون بتنصيب الأمير إمبراطوراً على البلاد العربيّة!!
لقد طالعت كثيرًا من الكتب (العربية والأجنبيّة) التي تحدّثت عن قصة تسريح الأمير ، وليس في واحد منها هذه المعلومة!
ومما يُذكر في هذا المقام ، أنّ الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث عندما قرر إطلاق سراح الأمير من سجنه ، أمر الماريشال "بيجو" أن يكتب للأمير يخبره بأنّ الحكومة الفرنسية كانت تريد أن تطلق سراحه وترسله إلى مكّة حيث يريد ، ولكن الأصوات في مجلس العموم أجبرتها على ترك ذلك، وأنه ربما تمضي سنوات عديدة ولا يتيسّر له التوجه إلى المواضع التي طلبها ، ثمّ أشار بيجو على الأمير فقال : ((أشير عليك .. أن توطّن نفسك على جعل فرنسا وطنًا لك ، فتطلب من الحكومة أن تعطيك أملاكًا جيدة في أرضها ينتج لك منها ما تعيش به كواحد من كبرائها مع مداومتك على أداء وظائفك الدينية كما تريد وبلوغ مرادك في تربية أولادك .... فهذا ما أشير به بحسب حقوق الإنسانية وبالخصوص عليك لِمَا ألمَّ بك من المصائب مع اتصافك بالصفات الحسنة التي وهبها الله لك، راجيًا قبول تحياتي المقدمة مع الإكرام والاحترام .في 28/1/1849م))
فأجابه الأمير بقوله : ((لو جمَعَت فرنسا سائرَ أموالها ثمّ خيّرتني بين أخذها وأكون عبدًا ، وبين أن أكون حرًّا فقيرًا مُعْدمًا ، لاخترت أن أكون حرًّا فقيرًا ، فلا تراجعوني بمثل ذلك الخطاب فإنه ليس عندي بعد هذا الخطاب جواب ، وإلى الله تُرجعُ الأمور ، وبيده كشْفُ هذا الديْجور)).انتهى [تحفة الزائر 2/26ـ27] ، (وكان عمر الأمير في حينها 41 عامًا!)
وما ترويه كتب السياسة المعاصرة هو أنّ الدولة العثمانية لمّا توالت هزائمها أمام روسيا وغيرها ، وبدأ الوهن والضعف في حكمها وسقط كثير من الأقطار التي كانت تحت سلطتها (ومنها الجزائر) ، قامت في بلاد الشام طليعة من دعاة الاستقلال وبحثوا مصير سورية ، وعقدوا المؤتمرات السريّة في دمشق سنة 1877م (وكان عُمر الأمير في حينها 72 عاماً!) واقترحوا فصل البلاد عن الدولة العثمانية ، وتنصيب الأمير عبد القادر مليكاً عليها ، لأنهم وجدوا فيه الحلّ الأمثل للوضع البائس الذي كانت عليه البلاد ، لما يتمتّع به الأمير من هيبة واحترام عند العثمانيين والعرب على حدٍّ سواء! وعندما عرضوا على الأمير هذا الموضوع لم يتحمّس له ، ولم يرفضه ، ولكنّه نصح أن يظلّ الارتباط الروحي بين البلاد الشاميّة والخلافة العثمانية قائماً ، وأن يبقى السلطان العثماني سلطاناً على الشام أيضاً.
وأمّا المشروع الفرنسي الجديد الذي ظهر سنة 1870م !!!والذي كان يرمي إلى إنشاء إمبراطوريّة عربيّة تمتد من شمالي بلاد الشام حتى قطاع عكّا يرأسها الأمير عبد القادر ، فقد رفضه الأمير بشدّة!
وهذا معروف عند المتابعين لتلك الشؤون في ذلك الوقت .
لقد رفض الأمير عبد القادر هذا المشروع لأنّه مطلب فرنسي استعماري . وبعد سبع سنوات ، عندما ظهر المشروع العربي القومي تردّد في قبوله ، كان عدم تحمّس الأمير لهذا الأمر ناشئاً عن احترامه لمبدأ الخلافة الإسلاميّة . ثم جاء مؤتمر برلين وتولّى عبد الحميد الخلافة وأصبح سلطاناً فتأخّر الحلّ العربي .
أما علماء المسلمين المتابعون لشؤون الأمير ، أمثال الشيخ عبد الرزاق البيطار ، وجمال الدين القاسمي، وأديب الحصني ، وجميل الشطي ، وأمثالهم فلم يذكروا شيئاً عن ذلك أبداً . حتى إنّ السياسي الكبير والمؤرخ المخضرم الأمير شكيب أرسلان صاحب الاطلاع الكبير وشبكة المعارف الواسعة ،لم يشر إلى شيء من ذلك عند ترجمته للأمير في حاضر العالم الإسلامي!!
ولكي أزيل اللبس أقول مختصرًا ما قاله المؤرّخون لتلك الحقبة :
عندما خُلِّي سبيل الأمير عبد القادر كانت الدولة العثمانية مقطّعة الأوصال ، وبدأت تخسر ممالكها الواحدة تلو الأخرى ، وأصبح السلطان العثماني مضطراً إلى التساهل مع الدول الأوربيّة والخضوع للكثير من رغباتها ، وفي الوقت نفسه كثُر المفتونون بأوربا وأنظمتها ضمن رجالات السلطان المتنفّذين وكانوا من المعادين للحكم الإسلامي ، كما قويت الدعوات القوميّة والعصبيّة التركية ، وزاد النفوذ اليهودي في الدولة ، وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على ضرورة الإجهاز على الدولة العثمانية ، هذا إضافةً إلى تردي الأحوال المعيشية في بلاد الشام وشدّة جَور الولاة على الناس ، وظهور الحروب الطائفيّة ، ثمّ انتصار الروس على الدولة العثمانية. في هذه الأجواء عقد زعماء بلاد الشام مؤتمر دمشق السري للنظر في استقلالها عن العثمانيين ، واجتمع رأيهم على تنصيب الأمير عبد القادر أميراً عليها : ((ورأوا فيه أملهم الوحيد ، لأنه الشخصية التي تستطيع إقناع الأتراك بحق العرب في الاستقلال ، وهو الذي يمكن أن تتفق عليه كلمة الدول الأوربيّة ذات المصالح المتصارعة في المنطقة بعد ما قام به أثناء الفتنة ، وفوق كل ذلك فهو المجاهد ذو النسب الشريف والعالم ذو المقام الرفيع والمحايد الذي يمكن أن تهابه وتنضوي تحت لوائه مختلف الطوائف والملل والعشائر في المنطقة)).انتهى[مقدمة "حياة الأمير عبد القادر" لسعد الله ص26]
ومع ذلك لم يتحمّس الأمير لذلك ، وما هي إلاّ أيام ويتسلّم السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة وبدأ يبطش بكل من يدعو إلى اعتماد الفكر الغربي ، واهتمّ بالجيش وقَوَّى مركز الخلافة ، وأخذ يدعو للجامعة الإسلامية ، فعندها ارتاح الأمير واطمأن وصار يرفض أي عرض له بتسلُّم الحكم إلى أن مات . [وقد عاصر الأمير خلال وجوده في الشرق أربعة من الخلفاء العثمانيين هم : عبد المجيد وعبد العزيز ومراد الخامس وعبد الحميد الثاني]
هذا الذي أقول هو كلام شديد الاختصار لأنّ الحديث عن تلك الحقبة يقتضي وقتاً طويلاً وليس محل بحثنا الآن ،
ولكن إليكم بعض النقول التاريخيّة للاستئناس ؛ جاء في كتاب"التاريخ الإسلامي" للأستاذ محمود شاكر 8/185 : ((ومن الذين فُتنوا بأوربا وأفكارها رجال كان لهم دور خطير في الدولة أمثال أحمد مدحت باشا رئيس مجلس الدولة ، وصاحب اليد الأولى في خلع الخليفة عبد العزيز وقتله، وفي خلع الخليفة مراد الخامس . وهؤلاء المفتونون كانوا بعيدين عن معرفة الإسلام ، لذا كانوا يتّهمون الخلفاء بالحكم المطلق ، ويُطالبون بوضع دستور للدولة إذ يريدون أن تكون على نمط الدول الأوربيّة النصرانية ، وأن يكون دستورها من وضع البشر بالشكل الذي عليه الدساتير الأوربيّة ، ولا يقبلون أن يكون القرآن الكريم (كتاب الله) دستور الأمّة ، وهو الذي يحدّ من تصرفات الخليفة وصلاحياته ، وما ذلك إلاّ عِداءً للإسلام ، وانبهاراً بالحياة الأوربيّة ، وانهزاماً نفسياً ، وتحقيقاً للشهوات والأهواء الذاتية .
وزاد النفوذ اليهودي في الدولة مع أطماع اليهود ، ومع تَسَلُّم يهود الدونمة عدداً من المراكز الرئيسيّة، وقد نسيَ الناسُ أصلَهم وحقيقتهم ، وطبيعة اليهود ، إذ أظهروا الإسلام وعاشوا مع أبنائه واختلطوا بهم ، يؤدّون الصلاة أمامهم بل يُؤدّون الحج ..
وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على الإجهاز على حياة الرجل المريض ، إذ كانوا يطلقون هذا اللقب على الدولة العثمانية ، وإن ظهرت الاختلافات بين تلك الدول ، فظهرت روسيا من جهة ، والدول الأخرى من جهة ثانية .
في وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تسلّم عبد الحميد الثاني الخلافة ..)).انتهى
ويقول الدكتور أبو القاسم سعد الله : ((وإذا صدقنا ما جاء في كتاب "سطور من رسالة" فإنّ الأمير كان لا يرفض الدعوة التي تجعل منه رأسًا للحركة ولكنه كان يرى أنّ الوقت لم يحن بعد وأن الفكرة في حاجة إلى نضج ،... ولا ندري إن كان الأمير جسّ نبض الموضوع مع السلطات العثمانية وممثلي الدول الأجنبية في المنطقة قبل اتخاذ موقف نهائي . ومهما يكن الأمر فإن الدولة العثمانية قد دخلت من جديد في حرب مع اليونان ، وجاء مؤتمر برلين (1878) وتولى السلطنة عبد الحميد الثاني (1876) ، وتقدمت السن بالأمير ، فتجمّد المشروع مؤقتاً)). انتهى [مقدمة(حياة الأمير عبد القادر) ص27]
ومرّ معنا سابقاً ما قاله الأستاذ سعد الله : ((..وأخذ سلاطين آل عثمان " يُنظّمون" دولتهم المتداعية فإذا الإصلاحاتُ مفاسدٌ ، وإذا الأعداءُ هم المصلحون جالسين يملون على (السلطان) محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وأنور(باشا) ومصطفى أتاتورك ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم أن يتركوا)).انتهى
إذن المؤرخون المتخصصون لا يستطيعون الجزم في تصورهم لحقيقة الأحداث ، وإنما تعاملوا مع المعلومات الواردة بإنصاف وحذر! فليتنا نقتدي بهم .
ـ وأما قول الكاتب أنّ الأمير توقف في اسطنبول ثم استقر في الشام ، فيحتاج إلى توضيح .
لأنّ الاتفاقيّة التي تمت بين نابليون الثالث والسلطان العثماني تقضي بإقامة الأمير في مدينة (بروسة)! إذن الأمير سيسافر من فرنسا إلى الحاضرة العثمانية ليستقر في بروسة ، وكان السلطان قد خصص للأمير داراً كبيرة هناك (على جهة التمليك) مع مخصصات مالية ، إلاّ أنّ السلطان رأى أنّه من الأفضل أن ينتقل الأمير عبد القادر إلى الشام كي يساعده في تحسين الأوضاع هناك! ، فتشاور السلطان مع نابليون ، وتعلل بأن الأمير لم يطب له المقام في بروسة بسبب كثرة الزلازل ، فوافق نابليون على انتقال الأمير إلى دمشق.
وقد نظم الأمير قصيدة جميلة يبيّن فيها حزنه على مفارقة مدينة بروسة التي عاش فيها ثلاث سنوات وله فيها أطيب الذكريات فقال :

أبى القلبُ أن ينسى المعاهد من بُرْسا ***** وحبّي لها ؛ بين الجوانح ، قد أرسى
أكلّفه سـلوانها ، وهـو مـغرمٌ ***** فهيهات! أن يسلو وهيهات! أن ينسى
تباعدتُ عنها ؛ ويحَ قلبي! بعدها ***** وخلّفتها ، والقلبُ ،خلفي ، بها أمسى
بلادٌ لها فضلٌ علـى كل بلدة ***** سوى ، مَن يشدّ الزائرون ، لها الحِلسا
عليَّ محالٌ بلدةً غـيرها ، أرى ***** بها الدين ، والدنيا ، طهورًا ولا نجسا
وجامعها المشهور ؛ لـم يك مثله ***** به العلم مغروسٌ . به كم ترى درسا
سـقى الله غيثًا ، رحمةً وكرامةً ***** أراضٍ ، بها حلَّ الأحبّة ، من بُرْسا
[نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر ص33]
وقد منح السلطانُ الأميرَ ألف كيس ذهبي عوضاً عن داره التي تركها في بروسة .
أمّا الراتب السنوي الذي خصصه نابليون للأمير فهو تعويض عن الإساءة التي تعرّض لها الأمير بخيانة الحكومة الفرنسية لعهودها معه ، وتعويض عن أملاك أسرته التي صادرتها الحكومة الفرنسية في الجزائر، ومنعتهم من حق العودة إلى الجزائر ، والأمير كان مضطراً إلى الإنفاق على أسرته كلها وعلى الجالية التي كانت معه ، وكان هذا الراتب قد اتفق عليه السلطان العثماني مع نابليون ورضي نابليون بدفع هذه الأموال في مقابل أن يتكفّل السلطان ببقاء الأمير في المشرق وعدم عودته إلى الجزائر . والأموال التي تفرضها الدول الغربية تعويضاً عن إساءة صدرت منها تجاه أي شخص أمرٌ معروف .
ثمّ إنّ السلطان العثماني عندما عرض على الأمير عبد القادر أن يخصص له من بيت مال المسلمين مرتبًا شهريًا يفي بحاجته وحاجات من معه ، رأى الأمير باجتهاده أنه من الأفضل أن يقبل المرتب الذي خصصته الحكومة الفرنسية ليوفّر مالَ خزينة المسلمين . وهذا أحد الأسباب التي دفعت الأمير للقبول بالتعويض المالي من فرنسة .
يقول محمد باشا :"ولأول وصول الأمير إلى بروسة عرضَ عليه واليها بإذن السلطنة العظمى تعيين مرتب شهري يقوم بشؤونه ، فسُرَّ الأمير بذلك ودعا للدولة العليّة وشكرها على اهتمامها بأمره الشكرَ الجزيل ، ثم قال له إن الإمبراطور نابليون عيّن لي من النقود ما يكفي من النّفقة ، وأمّا مولانا السلطان المعظّم فقد تفضّل علينا بما هو أعظم من الدنيا بما فيها وهو تنازل عظمته وإنعامه عليَّ بالكفالة عند الدولة الفرنساوية وهذه الكفالة هي السبب الأقوى في حياتنا الجديدة ولولاها ما خرجنا من قبضة الأسر ، وهذا الإنعام لا يوازيه شيءٌ ولا يقابله شكرٌ" .انتهى [تحفة الزائر 2/54]
فلو كان الأمير يحب المال وجمع الثروة كما يتهمه البعض لما وقف هذا الموقف الذي لم نسمع بمثله إلاّ في النادر من الرجال على مرّ العصور.
على كل حال الحديث عن الحالة المادية للأمير سيأتي في حلقة قادمة إن شاء الله .

لتحميل المشاركة على شكل ملف وورد : الحلقة الرابعة من الرد على الشبهات

والحمد لله ربِّ العالمين
خلدون بن مكِّي الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله









رد مع اقتباس