ضوابط التأويل الذي لا يكفر به المتأول وفوائد في المسألة
السؤال
في موقعكم المبارك فصلتم تفصيلا جيِّدا بفتاوى متعددة بخصوص العذر بالجهل وكيفية إقامة الحجة ، لكن لم أجد ضابطا بيِّناً بخصوص ضابط المتأول على الموقع
وقرأت في المسألة لكن أجد تناقضاً في تطبيق ما قرأت للعلماء الذي بينوا الضابط ، فمثلا : بعض العلماء قالوا : إذا كان تأولهم تحتمله اللغة نعذرهم به أما إذا لم تحمله اللغة لا نعذرهم به ونكفرهم
ولما تجد تطبيقهم لها على الأشاعرة الذين يقولون بدل " استوى " استولى في الرد عليهم يُقال : هذا لا تحتمله اللغة ، مع ذلك لا يحكم بكفر من أنكر علو الله
مع أن شيخ الإسلام نقل عن أبي حنيفة تكفيره لمن أنكر علو الله .
ونريد إيضاحاً بخصوص تكفير العلماء لكثير من الفرق كالجهمية والقدرية .
وهل ثبت عن أحد من العلماء أنه كفر الأشاعرة ؟
الجواب
الحمد لله
هذه مسألة جليلة القدر ، وسيكون البحث فيها في نقاط محددة :
1. لا فرق بين العذر بالتأويل والعذر بالجهل في الدين ، بل إن المتأول أولى بالعذر من الجاهل
لأنه لا يجهل ما هو عليه بل يعتقده حقّاً ويستدل له وينافح عنه ، ولا فرق في كون هذا الأمر عذراً في المسائل العملية أو العلمية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
" إن المتأوِّل الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر ، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية
وأما مسائل العقائد : فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها ، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين ، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع "
انتهى من " منهاج السنَّة " ( 5 / 239 ).
2. ولا يعني هذا عدم استحقاقهم للحد - كما حُدَّ قدامة بن مظعون لما تأول في شرب الخمر - ولا يعني عدم استحقاقه للتعزير والذم
بل ولا وصف اعتقاده بالضلال أو الكفر - كما سيأتي تفصيله - بل قد يصل الأمر لقتالهم ؛ لأن المقصود من ذلك تنفير الناس من بدعته وحماية الدين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -
: " وهذا الذي ذكرتُه فيما تركه المسلم من واجب أو فعله من محرم بتأويل اجتهاد أو تقليد : واضح عندي ، وحاله فيه أحسن من حال الكافر المتأول
وهذا لا يمنع أن أقاتل الباغي المتأول ، وأجلد الشارب المتأول ، ونحو ذلك ؛ فإن التأويل لا يرفع عقوبة الدنيا مطلقا ؛ إذ الغرض بالعقوبة دفع فساد الاعتداء " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 22 / 14 ) .
وقال - رحمه الله - :
" وأما من أظهر ما فيه مضرة : فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه ، وإن كان مسلماً فاسقاً أو عاصياً ، أو عدلاً مجتهداً مخطئاً ، بل صالحا أو عالما ، سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع ..
. وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم ؛ وإن كان قد يكون معذوراً فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد "
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 10 / 375 ) .
3. ليس كل تأويل يكون سائغاً في الشرع ؛ فلا تأويل في الشهادتين ووحدانية الله تعالى وثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
والبعث والجنة والنار ، وتسمية هذا تأويلاً ابتداء غير مقبول ، بل هي باطنية وزندقة تعود على الدين بالإبطال .
قال أبو حامد الغزالي - رحمه الله - :
" ولا بد من التنبه لقاعدة أخرى وهي : أن المخالف قد يخالف نصّاً متواتراً ويزعم أنه مؤول ، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلا في اللسان ، لا على بُعد ولا على قرب
فذلك كفر وصاحبه مكذِّب ولو زعم أنه مؤول ، ومثاله : ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها
وعالِم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه , وموجود بمعنى أنه يوجد غيره ,
وأما أن يكون واحدا في نفسه وموجوداً وعالماً على معنى اتصافه به : فلا , وهذا كفر صراح ؛ لأن حمل الوحدة على إيجاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ، ولا تحتمله لغة العرب أصلا ...
. فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عَبَّر عنها بالتأويلات "
انتهى من " فيصل التفرقة " ( ص 66 ، 67 ) .
وقال ابن الوزير - رحمه الله - :
" وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع ، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله ،
كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى ، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار " .
انتهى من " إيثار الحق على الخلق " ( ص 377 ) .