وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ [عَلَيْهِ] عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِم
ْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِم مِّن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ .
/ش/ قولـه: ((والصراط منصوبٌ…)) إلخ. أصل الصراط الطريق الواسع؛ قيل: سمي بذلك لأنه يسترط السابلة؛ أي: يبتلعهم إذا سلكوه، وقد يستعمل في الطريق المعنوي؛ كما في قوله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ).
والصراط الأخروي الذي هو الجسر الممدود على ظهر جهنَّم بين الجنة والنار حقٌّ لا ريب فيه؛ لورود خبر الصادق به، ومَن استقام على صراط الله الذي هو دينه الحق في الدنيا استقام على هذا الصراط في الآخرة، وقد ورد في وصفه أنه: ((أدق من الشعرة، وأحدُّ من السيف))
(وَأَوَّلُ مَن يَّسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ وَأَوَّلُ مَن يَّدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ).
/ش/ قولـه: ((وأوّل من يستفتح باب الجنة محمّد )؛ يعني: أول من يحرك حلقها طالبًا أن يُفْتَح له بابها؛ كما قال عليه السلام:
((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مَن تنشقُّ عَنه الأرض ولا فخر، وأنا أوَّل من يحرِّك حلَق الجنة، فأدخلها ويدخلها معي فقراء أمَّتي))
يعني: بعد دخول الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكون فقراء هذه الأمة أول الناس دخولاً الجنة.
(وَلَه فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَّدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَّخْرُجَ مِنْهَا.
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) .
/ش/ وأما قولـه: ((وله في القيامة ثلاث شفاعات))؛ فأصل الشفاعة من قولنا: شفع كذا بكذا إذا ضمّه إليه، وسمي الشافع شافعًا لأنه يضمُّ طلبه ورجاءه إلى طلب المشفوع له.
والشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال تعالى:
(مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ(
فنفي الشفاعة بلا إذن إثباتٌ للشفاعة من بعد الإذن.
قال تعالى عن الملائكة:
(وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ).
فبيَّن الله الشفاعة الصحيحة، وهي التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله وعمله.
وأما ما يتمسَّك به الخوارج والمعتزلة في نفي الشفاعة من مثل قوله تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ )،( وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ )،(فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ).. إلخ؛ فإن الشفاعة المنفيَّة هنا هي الشفاعة في أهل الشرك، وكذلك الشفاعة الشركية التي يثبتها المشركون لأصنامهم، ويثبتها النصارى للمسيح والرهبان، وهي التي تكون بغير إذن الله ورضاه.
وأما قولـه: ((أما الشفاعة الأولى؛ فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم))؛ فهذه هي الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به النبيُّون، والذي وعده الله أن يبعثه إياه بقولـه:
(عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ).
يعني: يحمده عليه أهل الموقف جميعًا.
وقد أمرنا نبيُّنا ( إذا سمعنا النداء أن نقول بعد الصلاة عليه:
((اللهم ربَّ هذه الدعوة التَّامَّة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه)) .
وأما قولـه: ((وأما الشفاعة الثانية؛ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة))؛ يعني: أنهم ـ وقد استحقُّوا دخول الجنة ـ لا يؤذن لهم بدخولها إلا بعد شفاعته .
وأما قولـه: ((وهاتان الشفاعتان خاصَّتان لـه))؛ يعني: الشفاعة في أهل الموقف، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوها.
وتنضمُّ إليهما ثالثة، وهي شفاعته في تخفيف العذاب عن بعض المشركين؛ كما في شفاعته لعمه أبي طالب، فيكون في ضحضاح من نار؛ كما ورد بذلك الحديث
وأما قولـه: ((وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحقَّ النار…)) إلخ. وهذه هي الشفاعة التي ينكرها الخوارج والمعتزلة؛ فإن مذهبهم أن مَن استحقَّ النار؛ لا بدَّ أن يدخُلَها، ومن دخلها؛ لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها.
والأحاديث المستفيضة المتواترة تردُّ على زعمهم وتبطله .
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ
، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ ( مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ).
/ش/ وأما قولـه: ((وأصناف ما تضمَّنَتْهُ الدار الآخرة من الحساب…)) إلخ؛ فاعلم أن أصل الجزاء على الأعمال خيرها وشرّها ثابتٌ بالعقل كما هو ثابتٌ بالسمع، وقد نبَّه الله العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من كتابه؛ مثل قوله تعالى:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )، (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ).
فإنه لا يليق في حكمة الحكيم أن يـترك النـاس سُدًى مهمَلين، ولا يؤمرون، ولا يُنْهَون، ولا يُثابون ولا يُعاقبون؛ كما لا يليق بعدله وحكمته أن يسوي بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ كما قال تعالى:
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ).
فإن العقول الصحيحة تأبى ذلك وتنكره أشدَّ الإنكار.
وكذلك نبَّههُم الله على ذلك بما أوقعه من أيامه في الدنيا من إكرام الطائعين، وخذلان الطاغين.
وأما تفاصيل الأجزية ومقاديرها؛ فلا يدرك إلا بالسمع والنقول الصحيحة عن المعصوم الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.