منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - إميل دوركايم
الموضوع: إميل دوركايم
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-03-08, 01:10   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
فارس الجزائري
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية فارس الجزائري
 

 

 
الأوسمة
المركز الثالث في مسابقة التميز في رمضان وسام مسابقة منتدى الأسرة و المجتمع وسام القلم المميّز 
إحصائية العضو










افتراضي

1. الأمور الوارد والمتفق عليه أن دوركايم بذل جهدا واضحا لتحديد علم الاجتماع، والتأكيد على طابعه النوعي الذي يميزه عن العلوم الطبيعية من جانب، وعن علم النفس من جانب آخر. وفي سبيل هذا اهتم بتحديد خصائص الظاهرة الاجتماعية بصرف النظر عن اتفاقنا على مصداقية هذه الخصائص – بوصفها المقولة السوسيولوجية الأساسية أو الموضوع الأساسي للبحث السوسيولوجي. وفي هذا حاول أن يبرهن على أن للظاهرة الاجتماعية طبيعة خاصة، تميزها عن غيرها من الظاهرات البيولوجية والسيكولوجية. ومع أهمية هذا الجانب إلا أنه يلاحظ تماديه في مسألة الخصوصية التي جعلته متباينة متغايرة بين مجتمع وآخر، وبين جماعة وأخرى، مما يقف عقبة أمام إمكانية القيام بتعليمات علمية، أو صوغ قوانين ترصد حركة التطور الاجتماعي. ومن الشواهد على هذا التمادي إشارته إلى أن (الانتحار) ظاهرة فردية ترجع إلى الفروق الفردية للأفراد، وهي ليست فروقا سيكولوجية، وإنما ترجع إلى بعض الخصائص الاجتماعية لكل فرد من الأفراد حسب الظروف التي يعيش فيها، في الأسرة والمهنة وما إلى ذلك، والتي تنعكس على وعيه الفردي وتحدده، وبالتالي يؤثر هذا الوعي في سلوكه وفي قيمه وفي مواقفه، بل وفي واقعه. وبإيجاز يؤثر الوعي في واقع الناس وتصرفاتهم.(2)
2. بجانب إبرازه للطابع النوعي للظاهرة الاجتماعية، فقد ركز على ضرورة تفسير هذه الظاهرات بظاهرات من نفس طبيعتها، أي تفسير ما هو اجتماعي بما هو اجتماعي، وليس بما هو حيوي أو نفسي كما فعل البعض، لكن أي التغيرات أو العوامل أكثر أهمية من غيرها؟ هنا نجده كشأن الوظيفيين الذين أتوا بعده وحاكوه كثيرا أو قليلا يرى أن كل أبعاد الواقع هامة وبالتساوي في تأثريها على غيرها من الأبعاد، بمعنى أن أي شيء في المجتمع يفسر بكل شيء في المجتمع. وأما عن موجهات التفسير فهي تبدأ بمخرجات الظاهرة أي بوظائفها فوظائف أي نظام وليكن الأسرة تعد مؤشرات عليه ومفسرات في نفس الوقت، وهو ما يسمى بالتفسير الغائي الذي يربط بين الشيء وغاياته وهو تفسير لا يحدد استراتيجيات العوامل الأساسية والوسيطة والتابعة وبالتالي لا يحدد العوامل الهامة وإن كان يستنتج أن الوعي الأخلاقي والنسق المعياري له السطوة الأولى في التفسير فكل جزء يرد إلى الوعي الكلي.
3. لا يخفي على كثير من قراء أعمال (دوركايم) أنه وقع في أكثر من تناقض وأكثر من إشكال. ففي الوقت الذي طالب فيه بدراسة الظاهرات الاجتماعية كأشياء أنكر أهمية الجوانب المادية الاقتصادية فيها، وفي الوقت الذي طالب بإبعاد التفسيرات البيولوجية والنفسية عن الحقل السوسيولوجي، نجده كثيرا ما كان يعقد مماثلات بيولوجية بين الظاهرة المجتمعية والظاهرة الحيوية، كما أوضح ذلك (رادكليف بروان). وفي الوقت الذي نادى فيه بضرورة إبعاد الفلسفة عن علم الاجتماع، نجده هام بالفلسفة الوضعية التي جعلته يتأرجح بينها وبين التصورات المثالية بتركيزه على قضايا الوعي بوصفها المحدد الأساسي للواقع الاجتماعي. وفي الوقت الذي أراد أن يؤكد فيه أهمية البيئة الاجتماعية بشموليتها في تفسير الظاهرات الاجتماعية، تخلى عن الدراسة البنائية الشاملة، ورحب بأهمية تخصص فروع علم الاجتماع. ومع أن نفرا قد يرى في هذا منحى عليما نحو التخصص وتقسيم العمل، فقد أفضى تقسيم علم الاجتماع إلى فروع، وفروع للفروع إلى النزعة التجزيئية التي شاعت لدى الكثيرين، خاصة لدى حرفيي علم الاجتماع الأميركي، فدراسة الأجزاء كل على حدة وبالقطعة تشوه وتزيف الواقع البنائي الكلي. وهذا مطلوب لحفاظ على السياق البنائي القائم.
4. إذا دققنا في كثير من نسيج ذكره نجده ترك الكثير من التساؤلات بلا إجابات، الأمر الذي أثر على إجابته الكبرى على المسألة السوسيولوجية برمتها. فعندما أشار إلى أسبقية المجتمع على الفرد كان معنيا بحالة وجودية راهنة وماثلة أمامه، لكنه لم يحدد كيف نشأ المجتمع، وما الذي جعل الناس يجتمعون لينظموا حياتهم الاجتماعية؟ وعندما أشار إلى أن التضامن العضوي يقوم على تباين الأفراد وتغايرهم، بعد أن كانوا آلة واحدة في التضامن الآلي، لم يكفي أن نقول بأن زيادة السكان والاتصال الجمعي هما السبب، فكم من مجتمعات متخلفة وأولية زادت كثافتها السكانية، كالقرى في إفريقيا مثلا، ومع هذا لم تصل إلى التضامن العضوية الذي تكلم عنه.
5. وأما عن وظائف علم الاجتماع فقد أرادها علمية على الطريقة الوضعية وعلمية على الطريقة البرجماتية والنفعية، وقد بالغ في كلا الأمرين. فمبالغته في دراسة الظاهرات كأشياء من خارجها جعلته لا يسبر غور طابعها الكيفي، وبالتالي أتى علم الاجتماع متطابقا مع الواقع بادئا به ومنتهيا إليه، كشأن أصحاب النزعة التجريبية الذين يرون في التجريب في العلم الإنساني وسيلة لمزيد من التجريب. وأما عن طريقته البرجماتية التي حصرها في دراسة ما هو مفيد فقط، فقد جعلته أسير الطبقة الوسطى ومصالحها، وما يفيدها، وجعلته بتغافل كثيرا من ظاهرات التغيير والثورة والصراع. وهنا يذكرنا (ريمون آرون) بأنه ليس واثقا من أن كتابات (دوركايم) تقربنا من حل المشاكل الجماعية لأنه أغفل كثيرا من المشاكل والأبعاد الجماعية.(1)
6. وإذا أتينا إلى موقفه من (المسألة الاجتماعية) وباعتبار هذا الموقف تلخيصا لتصوره للإنسان والمجتمع يمكننا أن نلاحظ:
أ‌- أنه عد الإنسان الفرد تابعا خاضعا للمجتمع، وهذه نقطة لو حسبت لكان من الأولى أن تحسب لابن خلدون، لا لدوركايم. لكن المهم في أمر دوركايم أن المجتمع الذي يعنيه ليس المجتمع بكل جماعاته وفئاته، وإنما الوعي الجمعي السائد وحده بغض النظر عما إذا كان وعيا حقيقيا أو زائفا، طبقيا أو مجتمعيا، آنيا أو مستقبليا. أنه ليخيل للمرء أن إنسان في صورة التضامن الآلي إنسان بلا وعي وبلا عقل وبلا إرادة، ولم يحقق هذا إلا عندما وصل إلى المجتمع القائم على التضامن العضوي. وقد تكون هذه الصورة هي صورة (باريس) في زمانه أو المجتمع الأوربي الذي تعني خصائصه نموذجا يجب أن يراعى ويحاكى. وقد ساعدت هذه الأفكار فيما بعد –بجانب أخريات بالطبع – على جعل النموذج الغربي الرأسمالي العبرة والمثل لمن يريد أن يصير إنسانا.
ب‌- تسير كتاباته المتنوعة في مسار تأكيد ضرورة انصياع الإنسان لما هو قائم وما هو محيط. فالظاهرة الاجتماعية إجبارية وإلزامية، على المرء أن يتلاءم معها وينصاع لها، ومن هنا تلعب قضية الضبط الأخلاقي والتنشئة الأخلاقية لديه دورا بارزا. خذ مثلا تصوره للاشتراكية، كحل للمسألة الاجتماعية ستراه يحصرها في التنظيم الاجتماعي والتنشئة والضبط الأخلاقيين. فجوهر الاشتراكية لديه ليس في الملكية، وليس في دولة الرفاه وإنما جوهرها دمج الفرد في المجموع من خلال سلطة أخلاقية. لقد كتب أنه لا يوافق على العنف، ورفض ملاحظة الصراع، واعتبره مجرد مظهر للأنومي ومن ثم يجب ألا ينظر للصراع كقوة محركة، أو دافعة نحو التغيير وإنما الأنومي يقصد به دوركايم اختلال المعايير وتفككا أو اضطرابها وهو ما عبر عنه بالفراغ الأخلاقي، الذي يفضي إلى البلبلة وضعف الانتماء الاجتماعي. يجب فقط ضبطه وإصلاحه.

(1) ريمون آرون المجتمع الصناعي، مصدر مذكور، ص 17.

(2)Aron, R.Main Currents, 2 op cit p44.