الشبهة التاسعة عشر: إستدلالهم بقوله تعالى(ولا يشرك في حكمه أحدا).
ومما يلبس به الخوارج ما قالوا:
إن الله -عزَّ وجلَّ- قد خصَّ نفسه بالتشريع ، فهو حق من حقوق الله لا يشاركه فيها أحد ، فمن حكم بغير ما أنزل الله فهو مشرك كافر والله يقول: {ولا يشرك في حكمه أحداً}([1]) ، وقال تعالى: {إن الحكم إلا لله}([2]).
والجواب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: نقول هل هؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله يقولون هذا حكم الله حتى يكونوا مشاركين له في وضع حكمه سبحانه وتعالى ؟ إن كانوا كذلك فقد سبق أن هذا كفرٌ لا شك فيه وإن لم يكونوا كذلك فلا يصح الاستدلال عليهم بالآية . فتأمل!
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:" هذا يشمل الحكم الكوني القدري والحكم الشرعي الديني فإنه الحاكم في خلقه قضاءً وقدراً وخلقاً وتدبيراً والحاكم فيهم بأمره ونهيه وثوابه وعقابه …ا. هـ [3].
وقال الشاطبي :" ويمكن أن يكون من خفيِّ هذا الباب مذهب الخوارج في زعمهم أن لا تحكيم استدلالاً بقوله تعالى )إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ(فإنه مبنيٌّ على أن اللفظ ورد بصيغة العموم فلا يلحقه تخصيصٌ فلذلك أعرضوا عن قوله تعالى )فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا( وقوله )يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ… ( وإلا فلو علموا تحقيقاً قاعدة العرب في أن العموم يُراد به الخصوص لم يسرعوا إلى الإنكار ولقالوا في أنفسهم : لعلَّ هذا العام مخصوصٌ فيتأولون … ا. هـ
فحكم الله الكوني واقع سواءً كان الله سبحانه محباً له أو غير محبٍ كالإرادة الكونية وهذا بلا شك لا أحد يشاركه فيه ومن اعتقد أن أحداً يشارك الله في هذا فقد وقع في الشرك الأكبر إذ إنه سوى غير الله بالله في أمرٍ خاصٍ بالله وهو شرك في الربوبيَّة أما الحكم الشرعي ، فإن أريد به التحليل والتحريم فهذا لاشك كفرٌ كما سبق ، وإن أريد مخالفة أمر الله مع الاعتراف بالخطأ فهذا لاشك أنه ليس كفراً كما هو الحال في باقي الذنوب ، وإلا كنا كالخوراج مكفرين بالذنوب فلأجل هذا لا يصح لكم الاستدلال بهذه الآية.
الوجه الثاني: منازعة الله -سبحانه- ببعض ما اختص به نفسه دون عباده ليس كفراً مخرجاً من الملة بإطلاق، بل هو على نوعين:
الأول: ما يكون كفراً مخرجاً من الملة بإطلاق ودون تفصيل، كادعاء استحقاق العبادة، أو القدرة على الإحياء والإماتة ونحو ذلك.
الثاني: ما يكون فيه التفصيل والتفريق بين المستحل وغيره؛ فالخلق والتصوير من خصائصه -سبحانه وتعالى- ومنازعته في هذه الصفة ليس كفراً أكبر باتفاق السلف الصالح.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قال الله - عز وجل- : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي؟ فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة».
قال القرطبي في «المفهم» (5/432): « وقد دل هذا الحديث على أن الذم والوعيد إنما علق من حيث تشبهوا بالله -تعالى- في خلقه ، وتعاطوا مشاركته فيما انفرد الله -تعالى- به من الخلق والاختراع».
والتصوير مضاهاة لله في خلقه؛ فالمصورون ينازعون الله ما انفرد به، ومع ذلك فأهل السنة لم يكفِّروا منهم إلا من استحله أو قصد العبادة والمضاهاة له -سبحانه- أما من لم يستحل ذلك، فهو من أصحاب الكبائر وليس بكافر.
قال الإمام النووي في«شرح صحيح مسلم» (13/81): « تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر ؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعته بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله -تعالى-».
وكذلك العز والكبرياء والعظمة من أوصاف الله -تعالى- التي لا تنبغي لأحد سواه؛ ففي الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة- رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العز إزاري، والكبرياء ردائي؛ من ينازعني عذبته».
ومع ذلك؛ فلا يكفّر أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح من يتكبَّر، ويحتقر غيره ويزدريه، ويستعظم نفسه بغير استحلال.
فكذلك الحكم والتشريع لا يكفّر من نازع الله فيها إلا من الجاحد المستحل -أو ما في معنى ذلك-، والله أعلم.
والخلاصة:
1. أن الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقول (هذا حكم الله) أو يعتقد لنفسهالجواز؛ يكون مشاركاً لله في حكمه سبحانه وتعالى الذي هو من خصائصه؛ فإنكان كذلك فقد سبق أن هذا كفرٌ لا شك فيه وأنه خارج محل البحث؛ لأنه إمامبدَّل أو مستحِلّ،
2. وإن لم يكن كذلك بأن كان يرى أنه مخطيء وأنه لايجوز له ذلك فلا يصح الاستدلال على كفره بالآية لأنه ليس مشاركاً للهتعالى في حكمه كسائر أهل المعاصي.
---------------
([1]) سورة الكهف(آية/26).
([2]) سورة يوسف(آية/40)
[3]كتاب تيسير الكريم الرحمن .