2ـ تدهور العلاقة بين الفاطميين والزيرين:
كان رحيل العبيديين إلى مصر بعد أن عمروا في تونس ولا سيما عاصمتهم المهدية التي أسسوها 303هـ 921م، ومن المهدية عم سلطان الفاطميين كامل الشمال الإفريقي تقريبا وأصبح الجميع يدين لهم ولو نظريا بالولاء وبعد ذلك أرادوا أن يكون لدعوتهم صدى عالميا، فتوجهوا إلى مصر خاصة بعد اتجاه قائد جيوشهم جوهر الصقلي إليها سنة 969م "وأسس الفاطميون عاصمة جديدة هي القاهرة وانتقلوا إليها سنة 972م"[112]. وكان رحيل الفاطميين إلى مصر في السنة المذكورة سابقا على أمل أن يتولوا زعامة العالم الإسلامي بعد افتكاك مصر من الدولة العباسيين. وانتقال الفاطميين من المغرب إلى المشرق وتأسيسهم لعاصمتهم الجديدة يعتبر منعرجا هاما في تاريخ إفريقية وكامل الشمال الإفريقي، وسيحدث في تلك المنطقة تغيرات على كافة الأصعدة خاصة على المستوى السياسي والديني والإجتماعي.
عندما انتقل الفاطميون إلى مصر سنة 972م سلموا أمر إفريقية إلى بلكين بن زيري بن مناد، وكان اختيار المعز لبني زيري يرتكز على موالاتهم للشيعة، فتم اختيار بلكين بن زيري بجميع إفريقية والمغرب، وفوض إليه أمر البلاد وإدارة شؤونها، وسماه يوسف وكناه أبو الفتوح ولقب سيف العزيز بالله يعني نزار بن معد[113]. وظل حكم إفريقية في يد بني زيري فبعد بلكين جاء ابنه المنصور، وبعد موت المنصور جاء ابنه بادين بن المنصور، وخلفه على الحكم ابنه المعز بن باديس، وكان هذا الأخير قد تولى السلطة وهو ابن ثمانية سنين، وفي صغره ترك أبوه تربيته لوزيره "كان المعز بن باديس صغيرا إذ ولي وهو ابن ثمانية أعوام، وقيل ابن سبعة أعوام، ربي في حجر وزير أبيه الحسن بن أبي الرجال، وكان ورعا زاهدا وكانت إفريقية كلها والقيروان على مذهب الشيعة. فحرص ابن أبي الرجال على تعليم المعز ابن باديس وتأديبه، ودله على مذهب مالك وعلى عقائد السنة والجماعة، والشيعة لا يعلمون ذلك ولا أهل القيروان"[114].
وكان لإعلان المعز اعتناقه لمذهب مالك بن أنس أثر طيب في نفوس أهل القيروان الذين كانوا يخفون مذهبهم السني، " ... وتمادى الأمر على ذلك حتى قطع أهل القيروان صلاة الجمعة فرارا من دعوتهم وتبديعا لإقامتها باسمائهم ـ أي العبيديين ـ فكان بعضهم إذا بلغ إلى المسجد، قال سرا اللهم أشهد اللهم أشهد! ثم ينصرف فيصلي ظهرا أربعا، إلى أن تناهي الحال حتى لم يحضر الجمعة من أهل القيروان أحد، فتعطلت الجمعة دهرا وأقام ذلك مدة إلى أن رأى المعز بن باديس قطع دعوتهم فكان بالقيروان لذلك سرور عظيم"[115]. وبعد هذا الإعلان ومحاولة الشيعة قتل المعز بن باديس، قام أهل القيروان بقتل الشيعة والتنكيل بهم فقتل منهم ثلاثة آلاف وفرت البقية إلى الغرب. ورغم الحماية الصورية التي قدمها المعز لصالح الشيعة إلا أن أهل السنة استمروا في التنكيل بهم انتقاما لما لحقهم على أيديهم من اضطهاد وظلم"[116]. كما قطع المعز حي على خير العمل من الأذان. وقد تكون هذه الحادثة أيام الظاهر العبيدي والد المستنصر ولكن القطيعة لم تظهر على شكلها الحقيقي إلا في عهد المستنصر بالله، وما يجعل الإلباس في ذلك هو وزارة الجرجرائي تلك الوزارة التي امتدت حتى تاريخ ليس بالقصير من خلافة المستنصر، وأن المعز ظل في مهادنة الفاطميين منذ عهد الوزير الجرجرائي وليس اليزوري، ويذكر ذلك صاحب كتاب الاستقصاء عندما يقول: "واستمر ابن باديس على إقامة الدعوة لهم والمهاداة معهم، وفي أثناء ذلك يكاتب وزيرهم القائم بأمور دولتهم أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي ويستميله ويعرض ببني عبيد وشيعتهم ويغض منهم"[117] ويمكن القول أن الخلاف اشتد بين المعز بن باديس والمستنصر بالله الفاطمي عند تولى اليازوري الوزارة، فلقد كان المعز بن باديس يخاطب العبيديين في كتاباته "عبدكم"، وأصبح فيما بعد يخاطبهم بـ "صنيعكم" بل ذهب إلى أكثر من ذلك بأن صار يناديه باسم "فلاح" استنقاصا من شأنه، لأن اليازوري كان ابن فلاح من قرية قرى فلسطين ولم يكن من أهل الوزارة بل من أهل الفلاحة. وإنقطع المعز بن باديس عن الدعوة للعبيديين سنة 440هـ، إذ خاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجرائي محذرا المعز بن باديس داعيا إياه إلى التراجع عن القدح والتعريض بخلفائه، إلا أن المعز بن باديس استمر في مقاطعته لهم مما وتر العلاقات بين مصر وإفريقية وقتها وذلك سنة 440هـ في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي[118]. ويذكر ابن الأثير نفس التاريخ "وقطع خطبة المستنصر العلوي صاحب مصر سنة أربعين وأربع مائة، فلما فعل ذلك كتب إليه المستنصر العلوي يتهدده فأغلظ المعز في الجواب"[119]، ويذكر نفس تاريخ القطيعة أيضا ابن أبي دينار "وفي سنة خمسة وثلاثين وأربعمائة أظهر الدعوة لبني العباس وورد عليه عهد من الإمام القائم بأمر الله العباسي، وفي سنة أربعين وأربعمائة قطع خطبة بني عبيد وقطع بنودهم وأحرقها بالنار"[120]. إلا أن صاحب كتاب الاستقصاء يذكر غير ذلك التاريخ "… فقطع بن باديس الخطبة بهم على منابره سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة"[121]. في حين نجد أن ابن عذاري المراكشي يذكر التاريخ الذي ذكره ابن خلدون سنة 440 هـ إلا أن هناك من يذهب إلى أن القطيعة كانت سنة 441هـ "ما كاد المعز بن باديس يعلن استقلاله في عام 441هـ ويقطع الدعوة للفاطميين حتى فكرت الخلافة الفاطمية بمصر في الانتقام منه"[122] ومن المؤرخين من يذهب إلى القول أن القطيعة حصلت في سنة 350هـ "فحمل المعز بن باديس رعاياه على التمسك بمذهب (مالك بن أنس) خاصة وقد قطع ذكر الفاطميين من الخطبة في الجوامع وعوض أسماءهم فيها باسم الخليفة العباسي في بغداد سنة 350 هـ (973م)"[123]. والراجح أن القطيعة وقعت سنة 440 هـ لأن هذه هي السنة التي أرسل فيها المستنصر وزيره اليازوري يحث بني هلال وبني سليم بالهجرة إلى تونس، وظل المستنصر يتهدد المعز بتسليمه إليهم، إلا أن هذا الأخير رد عليهم بأنهم أصحاب المغرب قبل أن يكون للعبيديين ذكر. كان قطع خطبة سنة 440 هـ وحرق البنود وقتل الشيعة القشة التي قسمت ظهر البعير بين المعز والمستنصر، فعمل هذا الأخير كل ما في وسعه لإرجاع هذا الجزء من مملكته إلى الحظيرة إلا أن ذلك لم يكن بوسعه لبعد المسافة، ولكثرة المصائب التي حلت بالمستنصر واستعصى حلها عليه. ففي الداخل تفاقمت الأزمة الاقتصادية وفي الخارج خروج سلطان الحجاز عليه وإعلانه الولاء للعباسيين، وتمرد بني زيري عليه فأراد الانتقام من هؤلاء، ولكن ما هو السبيل الأنجع إلى ذلك؟
استشار المستنصر بالله الفاطمي وزيره في كيفية القصاص من المعز بن باديس فقدم له النصيحة حسب الناصري بما يلي: "فأشار عليه بأن يسرح له العرب من بني هلال وبني جشم الذين بالصعيد، وأن يتقدم لهم بالاصطناع ويستميل مشايخهم بالعطاء وتولية أعمال إفريقية وتقليدهم أمرها بدلا من صنهاجة الذين بها لينصروا الشيعة ويدافعوا عنهم، فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بابن باديس وقومه صنهاجة كانوا أولياء للدولة وعمالا بتلك القاصية، وإرتفع عدوانهم من مساحة الخلافة وإن كانت الأخرى فلها ما بعدها، وأمر العرب على كل حال أهون على الدولة من أمر صنهاجة الملوك"[124]. ورضي الخليفة بهذا الرأي وعمل على تنفيذه قبل فوات الأوان، فأرسل الوزير اليازوري إلى أحياء العرب رجل يعرف بأبي علي الحسن بن علي بن ملهم بن دينار العقيل، وعرف بالفصاحة وطلاقة اللسان وحسن التبليغ كما أنه يعرف بأمير الأمراء في الدولة الفاطمية. وذهب أبو علي الحسن إلى أحياء زغبة ورياح المرابطة بالصعيد المصري، يحمل معه هدايا قيمة وجوائز ثمينة إلى أمراء القبائل، وعمل أبو علي في فض النزاعات التي كانت موجودة بين القبائل وصالح بينهم. ومما يسر في ذلك الصلح هو وعده لهم بأن الدولة الفاطمية تتحمل دية القتلى من الطرفين. وخرجت القبائل وعبرت النيل وهي تحمل عقود إقطاع من المستنصر بالله الفاطمي قصد التنكيل بالمعز بن باديس، وتم العبور بعد أن أمدهم ببعير ودينار لكل واحد، إضافة إلى أن كل واحد عبر النيل أقسم على يعامل المعز معاملة العدو، وقال المستنصر لهذه القبائل "قد اعطيناكم المغرب وملك ابن باديس العبد الآبق فلا تفترقون بعدها! وكتب اليازوري إلى المعز: "أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا وأرسلنا عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا"[125].
فرحت القبائل العربية بذلك الترخيص الذي نالته من المستنصر لعدة أسباب، لعل أولها المجاعة التي شهدتها هذه القبائل مثل غيرها من المجموعات القاطنة في مصر، والسبب الثاني هو ما علمته هذه القبائل عن خيرات إفريقية إذ تحدث الرواية الشعبية أن بني هلال أرسلوا سرية إلى إفريقية للإطلاع على خيراتها وخاصة بعد الحصار الذي عانوه في مكة سابقا. وعبرت القبائل الهلالية النيل وبقي منها بالصعيد وعندما وصلوا إلى برقة وجدوا بلادا كثيرة المرعى، فاستباحوا البلاد لكثرة خيراتها وجودة مرعاها فراسلوا إخوانهم في شرق النيل يدعونهم ويرغبونهم في القدوم، فاجتاز هؤلاء النيل بعد أن دفعوا مقابل عبورهم على كل راس دينارين فاخذ منهم المستنصر أضعاف ما أنفقه على غيرهم[126]، ويقول ابن أبي دينار في ذلك ".. وأباح لهم من برقة إلى ما بعدها وأعانهم على ذلك بمال وهم رياح وزغبة وعدي بطون من بني عامر بن صعصعة، فلما وصلوا إلى إفريقية عاثوا فيها كيف شاءوا وملئت أيديهم من النهب، فتسامعت بنو عمهم بذلك فطلبوا من الخليفة اللحاق بمن تقدمهم فمنعهم من ذلك إلا أن يعطوه شيئا من أموالهم فأخذ منهم أضعاف ما أعطاه لبني عمهم"[127]. وبقيت القبائل الهلالية بالجبال والسهول القريبة من أرض طرابلس حتى شهر الربيع ترعى أغنامهم بتلك السهول والجبال معجبين بكثرة الأعشاب، وكان المعز بن باديس يحقد على القبائل الموجودة بتلك المنطقة وكان أمير المهدية المعز بن باديس يحقد على سكان هذه الجهات فأعجب بإذلالهم من طرف بني هلال واتصل به بعض أمراء بني هلال ففرح بهم وقربهم إليه، وأول من استقبله منهم هو مؤنس بن يحي الصنبري (من قبيلة رياح)، فزوجه المعز بن باديس ابنته وأكرمه وأنزله القيروان[128]. وحثه على استقدام بني عمه إلا أن هذا الأخير رفض قائلا بأن القبائل لا تخضع لسلطان ولا وال، وظن المعز بن باديس أن مؤنس بن يحي يريد الاستئثار بالأرض لقبيلته دون غيرها من القبائل. ولما رأي مؤنس بن يحي إلحاح المعز عليه رجع واستنفر القبائل وحثهم على دخول إفريقية واصفا لهم ترحيب المعز إضافة إلى خيراتها وصلاحية مرعاها لمواشيهم[129].
وعن تاريخ الدخول يقول ابن خلدون سنة 443هـ "وأقامت هيب بن سيلم وأحلافها رواحة وناصرة وغمرة بأرض برقة، وصارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاثة وأربعين"[130]. أما ابن الأثير فيقول: "ثم دخلت سنة اثنين وأربعين وأربعمائة… ذكر دخول العرب إلى إفريقية"[131]، ويذكر نفس التاريخ النويري عندما يقول: "فدخلت العرب إلى بلاد المغرب في سنة إثنتين وأربعين وأربعمائة"[132]. من خلال ما هو مكتوب لا يمكن الوقوف عند تاريخ محدد بذاته لدخول العرب إلى إفريقية، وإنما يمكن حصر ذلك ما بين 440 هـ و443 هـ. وكانت أهم القبائل التي دخلت إفريقية هي رياح وزغبة وعدي بطون من بني عامر بن صعصعة. واستعد المعز ليرد القبائل إلى مواقعها في جيش من ثلاثين ألفا بما فيهم العبيد وعرب الفتح وصنهاجة، وجيش القبائل الهلالية يساوي ثلاثة آلاف وعرفت تلك المعركة بمعركة حيدران، ويسميها ابن الأثير جندران "… إحتفل المعز وجمع عساكره وكانوا ثلاثين ألف فارس ومثلها رجالة وسار حتى أتى جندران، وهو جبل بينه وبين القيروان ثلاثة أيام وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس"[133]. وعندما رأي العرب كثرة جيش المعز المتكون من صنهاجة وعرب الفتح والعبيد، استبعدوا النصر والتغلب على المعز بن باديس وجيشه إلا أن زعيمهم مؤنس بن يحي قال لهم إن هذا اليوم ليس يوم فرار، واستعدوا إلى ذلك بعد أن لبسوا ملابس الحرب وتشاوروا بينهم في طريقة القتال فقال لهم أن يكون الطعن في أعينهم، فسمي ذلك اليوم يوم العين. وفي معركة حيدران اتفقت جموع من صنهاجة على التخلي عن المعز وتركه وعبيده داخل المعركة، فساهم خروج هؤلاء في الإسراع بالهزيمة. وسبب تخلي هؤلاء عن المعز هو الخلافات القائمة بينهم بسبب غضب العناصر البربرية من استئثار العبيد ببعض المناصب[134]. وقتل في تلك المعركة جمع كبير من صنهاجة ورجع المعز إلى القيروان مهزوما وحزينا على كثرة من مات في المعركة، وما أخذته العرب من الخيل والخيام والمال وغير ذلك ويذكر ابن الأثير ذلك "وقتل من صنهاجة أمة عظيمة ودخل المعز القيروان مهزوما على كثرة من معه وأخذت العرب الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره وفيه يقول بعض الشعراء:
وإن ابن باديس لأفضل مالكا ولكن لعمري مالديه رجال
ثلاثون ألفا منهم غلبتهم ثلاثة آلاف إن ذا لمحال"[135]
كانت معركة حيدران بين مدينتي قابس والقيروان وذلك في 11 ذي الحجة 443هـ (14 ابريل 1052م)[136]. وكانت بين المعز بن باديس والعرب عدة معارك، منها معركة يوم النحر حيث جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس وسار إليهم وهاجمهم وهم في صلاة العيد، فركب العرب خيولهم ونشب القتال حتى انهزمت صنهاجة فقتل منهم خلق كثير، وعن ذلك تحدث إبن عذاري المراكشي "لما كان ثاني عيد الأضحى في هذه السنة، كانت الداهية العظمى والمصيبة الكبرى، وذلك أن السلطان عيد يوم الاثنين، ومشى صباح اليوم إلى ناحية قرية تعرف ببني هلال، فلما كان نصف النهار أتته الأخبار أن القوم قد قربوا منه بأجمعهم، فامر بالنزول في أوعار وأودية فلم يستتم النزول حتى حمل العرب حملة رجل واحد فانهزم العسكر[137]. ولما يئس المعز بن باديس وانهزم في معاركه مع العرب ترك القيروان في اتجاه المهدية إذ سبق أن ولى عليها ابنه تميم "… ولما وصل إلى المهدية تلقاه ولده تميم وترجل له وقبل يده وادخل البلد، فسلم الأمر إلى ولده تميم في حياته فقام بأمور الدولة احسن قيام، وتوفي المعز سنة ثلاثة وخمسون وأربع مائة فكانت أيام ولايته تسعا وأربعين سنة"[138]. وكان لدخول العرب إفريقية أحداث مع أبناء المعز بن باديس حتى أنه هناك من يعتبر أن وجودهم قلص سلطة بني زيري فأصبحت تتلاشى إلى أن إندثرت، لتطبع العرب المنطقة بطابع خاص بعد الأحداث التي جرت لها.