قوله تعالى:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )
، وَقَوْلُهُ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )، (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ، وَقَوْلُهُ : (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ )،(وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ،(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )
/ش/ قولـه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات.. ) إلخ؛ تضمَّنت هذه الآية الكريمة إثبات صفة المعيَّة له عزَّ وجلَّ، وهي على نوعين.
1- معيَّة عامَّة: شاملة لجميع المخلوقات، فهو سبحانه مع كل شيء بعلمه وقدرته وقهره وإحاطته، لا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه، وهذه المعيَّة المذكورة في الآية.
ففي هذه الآية يخبر عن نفسه سبحانه بأنه هو وحده الذي خلق السموات والأرض ـ يعني: أوجدهما على تقدير وترتيب سابق في مدة ستة أيام ـ، ثم علا بعد ذلك وارتفع على عرشه؛ لتدبير أمور خلقه. وهو مع كونه فوق عرشه لا يغيب عنه شيءٌ من العالَمَيْن العُلويِّ والسُّفليِّ؛ فهو( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ ) أي: يدخل(فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ ) ؛ أي: يصعد( فِيهَا) ، ولا شَكَّ أن مَن كان علمه وقدرته محيطَيْن بجميع الأشياء؛ فهو مع كل شيء، ولذلك قال: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ).
قولـه: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ) إلخ؛ يثبت سبحانه شمول علمه وأحاطته بجميع الأشياء، وأنه لا يخفى عليه نجوى المتناجين، وأنه شهيدٌ على الأشياء كلها، مطَّلِع عليها.
وإضافة ( نَّجْوَى ) إلى ثلاثة من إضافة الصفة إلى الموصوف، والتقدير: ما يكون من ثلاثة نجوى؛ أي: متناجين.
2- وأما الآيات الباقية؛ فهي في إثبات المعيَّة الخاصَّة التي هي معيَّتُه لرسلـه تعالى وأوليائه بالنصر والتأييد والمحبة والتوفيق والإلهام.
فقولـه تعالى (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) حكايةٌ عما قالـه عليه الصلاة والسلام لأبي بكرٍ الصدِّيق وهما في الغار، فقد أحاط المشركون بفم الغار عندما خرجوا في طلبه عليه السلام، فلما رأى أبو بكر ذلك انزعج، وقال:
((والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا)).
فقال لـه الرسول ( ما حكاه الله عز وجل هنا:
(لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )
فالمراد بالمعيَّة هنا معية النصر والعصمة من الأعداء.
وأما قولـه: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ). فقد تقدَّم الكلام عليه، وأنَّها خطابٌ لموسى وهارون عليهما السلام أن لا يخافا بطش فرعون بهما؛ لأنَّ الله عز وجل معهما بنصره وتأييده.
وكذلك بقيَّة الآيات يخبر الله فيها عن معيته للمتَّقين الذين يراقبون الله عز وجل في أمره ونهيه، ويحفظون حدوده، وللمحسنين الذين يلتزمون الإحسان في كل شيء، والإحسان يكون في كل شيء بحسبه، فهو في العبادة ـ مثلاً ـ أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ كما جاء في حديث جبريل عليه السلام .
وكذلك يخبر عن معيَّته للصابرين الذي يحبسون أنفسهم على ما تكره، ويتحمَّلون المشاقَّ والأذى في سبيل الله وابتغاء وجهه؛ صبرًا على طاعة الله، وصبرًا عن معصيته، وصبرًا على قضائه.
يتبع