الشبهة الثانية: المقنن قد جعل نفسه طاغوتا يتحاكم إليه الناس وكل طاغوت الكافر
والجواب على هذا :
(( إن هذا الاستدلال غير صحيح وبيان خطإه من وجهين :
الوجه الأول : أنه مبني على مقدمة غير صحيحة ، وهي القول بأن الطاغوت لا يكون إلا كافراً ! وبرهان خطإ هذه المقدمة من ثلاث جهات :
1- أن الطاغوت يطلق على : ( كل رأس في الضلالة ) , وذلك أنه مشتق من الطغيان الذي هو : مجاوزة الحد .
قال القرطبي رحمه الله : « أي : اتركوا كل معبود دون الله ؛ كالشيطان , والكاهن , والصنم , وكل من دعا إلى الضلال » ( تفسيره 5/75 ، تحت قوله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [سورة النحل: ﴾ [ النحل 36 ] ) .
وقال الفيروز آبادي رحمه الله : « والطاغوت : ... وكل رأس ضلال , والأصنام ، وما عبد من دون الله , ومردة أهل الكتاب » ( القاموس المحيط 4/400 ، طغا ) .
* أقول : فالطغيان – إذاً – قد يكون مكفراً وقد لا يصل لحد الكفر ، ولذلك قال ابن باز رحمه الله : « فحدّك أن تكون عبداً مطيعاً لله ، فإذا جاوزتَ ذلك فقد تعدّيتَ وكنتَ طاغوتاً بهذا الشيء الذي فعلته .. فقد يكون كافراً وقد يكون دون ذلك »
( شرح ثلاثة الأصول ، الشريط 2 ، الوجه ب ، إصدار تسجيلات « البردين » بالرياض ) .
2- أن مِن أهل العلم مَن وصف أحداً بأنه طاغوت بمجرد أن يُتَجَاوَز به الحد , بدون النظر للموصوف نفسه :
( أ ) . لأنهم عرّفوا الطاغوت بأنه : « كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع » قاله ابن القيم رحمه الله ( أعلام الموقعين 1/50 ) .
وعلق عليه ابن عثيمين رحمه الله بقوله : « ومراده : من كان راضياً . أو يقال : هو طاغوت باعتبار عابده وتابعه ومطيعه ؛ لأنه تجاوز به حدّه حيث نزّله فوق منزلته التي جعلها الله له , فتكون عبادته لهذا المعبود واتباعه لمتبوعه وطاعته لمطاعه : طغياناً ؛ لمجاوزته الحد بذلك » ( القول المفيد 1/30 ) .
* أقول : فلا يلزم من الوصف بالطاغوتية أن يكون الموصوفُ كافراً ؛ لاحتمال أن يكون طاغوتاً باعتبار من اتخذوه لا بالنظر له هو .
( ب ) . كما أنهم وصفوا الجمادات المعبودة من دون الله بأنها طواغيت ، ومن المعلوم بداهة أن الجمادات لا توصف بالإسلام الذي هو نقيضُ الكفر .
قال ابن الجوزي رحمه الله : « وقال ابن قتيبة : كل معبود ؛ من حجر أو صورة أو شيطان : فهو جبت وطاغوت . وكذلك حكى الزجاج عن أهل اللغة » ( نزهة الأعين النواظر ص 410 ، باب الطاغوت ) .
وقال ابن تيمية رحمه الله : « وهو اسم جنس يدخل فيه : الشيطان والوثن والكهان والدرهم والدينار وغير ذلك » ( الفتاوى 16/565 ) .
* أقول : فلو كان كل طاغوت كافراً لما ساغ وصف الجمادات به .
3- إطلاق أهل العلم وصف الطاغوت على أهل الذنوب غير المكفرة .
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله : « الطاغوت عبارة عن : كل متعدٍّ وكل معبود من دون الله ... ولما تقدم : سُمّي الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن طريق الخير : طاغوتاً » ( المفردات ص 108 ، طغى ) .
وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : « والطواغيت كثيرة , والمتبين لنا منهم خمسة : أولهم الشيطان وحاكم الجور وآكل الرشوة ومن عُبد فرضي والعامل بغير علم »( الدرر السنية 1/137 ) .
وقال ابن عثيمين رحمه الله : « وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال والكفر أو يدعون إلى البدع أو إلى تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله : طواغيت »( شرح ثلاثة الأصول ص 151 ) .
* أقول : فلو كان كل طاغوت كافراً لما جاز لهم هذا الإطلاق ، أو للزم منه
أن يكونوا مكفرين بالذنوب .
الوجه الثاني : يلزم منه تكفير من اتفق أهل السنة على عدم تكفيره ، وهو من قنن للذنب ؛ إذ لا فرق – في التقنين – بين من قنن الذنب وبين من قنن الحكم بغير ما أنزل الله ، إذ الكل واقع في تقنين أمرٍ محرم .
مثاله : عصابة نذرت نفسها لقطع الطريق وجعلت عليها رئيساً ورسمت لنفسها
نظاماً ، فكان هذا الرئيس هو الذي يدعوهم وينظم لهم الاعتداء وقطع السبيل وإخافة المسلمين فيمتثلون ، وهو الذي يأمرهم فيأتمرون وينهاهم فينتهون ؛ فهذا الرجل أصبح مقنناً للذنب ، مع أنه ليس بكافر .
* أقول : ولو كان الأصل الذي بُني عليه التكفير بالتقنين صحيحاً لوجب تكفير مثل هذا ، مع أنه من أصحاب الذنوب الذين اتفق أهل السنة على عدم تكفيرهم .)) من كتاب الحكم بغير ما أنزل الله مناقشة تأصيلية للشيخ بندر بن نايف العتيبي.