الانتحار.
كظاهرة طبق عليها دوركايم نزعته السسيولوجية وأسسه وطرائقه المنهجية، وهي أول دراسة علمية بمقاييس علمية في علم الاجتماع، وهناك قناعة تاريخية أن هذه الدراسة تمثل الانطلاقة السسيولوجية الحقيقية في دراسة الظواهر الاجتماعية منهجا ونتائجا وذات صبغة علمية حقيقية، حيث استطاع فيها دوركايم أن يربط بين النظرية والتطبيق، لينتزع بذلك اعتراف الآخرين بإمكانية علمية علم الاجتماع، فبدأ بإبراز الأسباب الدافعة للدراسة وهي:
1. توفر الاحصائات وسهولة الوصول إليها.
2. أهمية الموضوع بالنسبة لتزايد معدلاتها.
ثم حدد دوركايم العوامل الغير اجتماعية في ظاهرة الانتحار ونلخصها كالآتي:
1. الانتحار والمرض العقلي: دوركايم يكذب هذا الربط الذي كان بمثابة قانون حتمي ويعطي أمثلة كثيرة لذلك من بينها أن نسبة المجانين في العالم هي عند اليهود لكن الانتحار عندهم يمثل أقل نسبة ..... الخ.
2. الانتحار والعوامل الكونية: لقد سادت طويلا فكرة أن الانتحار يزيد في فصل الصيف أو في المناطق الأكثر حرارة، لكن الإحصائيات التي جمعها دوركايم وجد فيها أن معدلات الانتحار للجنود الفرنسيين زاد بشكل كبير عند انسحابهم من موسكو سنة 1912م.
3. التقليد والمحاكاة: لقد ميز دوركايم بين ثلاث أنواع من التقليد وهي:
· تقليد راجع لتصورات جمعية، التفكير والشعور المتشابه.
· تقليد راجع لعادات وتقاليد.
· التقليد الآلي وهو نابع عن تصور تلقائي دون تفكير أو إعمال للعقل كالضحك في مقابل شخص يضحك.
وبتالي فالنوعين الأولين يتضمنان عنصر هو الخضوع للضغط الاجتماعي وبالتالي لا يوصف بالمحاكاة إلا النوع الثالث ويتساءل دوركايم عن هذا التقليد الآلي الخالي من أي دافع أو هدف للانتحار.
وفي حالات الانتحار الجماعي يتساءل دوركايم عن المقدم الأول على الانتحار هل كان نفسه يحاكي الآخرين الذين قرروا جماعيا وقبل ذلك وبوعي من أن الجماعة لم تنتظر أحدا من أفرادها ليقدم عن الانتحار فتقدم كردة فعل عن فعلها.
وبعد هذا التحديد بالإحاطة والاستبعاد قدم دوركايم ما يعرف بالأسباب أو النماذج الاجتماعية للانتحار من خلال تصنيفاته الثلاث:
1. الانتحار الأناني: قام دوركايم بهذا التصنيف الأول من خلال الإحصائيات التي تشير أن الانتحار يزداد في الدول المستقرة، ويتناقص كلما زادت الاضطرابات السياسية، وتقل أكثر في حالة الحرب، وعليه يطلق دوركايم على هذه الحالة، اسم الأنانية، وهو نموذج من الانتحار ينبثق من النزعة الفردية المتطرفة الناتجة عن حالة اللاتكامل الاجتماعي وبتالي يربط دوركايم بين اللاتكامل الاجتماعي والانتحار.
2. الانتحار الغيري أو الإيثاري: وهو عكس الأناني، حيث الفرد يعبر عن اندماجه في الجماعة بشعوره الدائم بأنه على استعداد أن يضحي بنفسه في سبيل الجماعة، فالمنتحر يقدم على ذلك تعبيرا على اندماجه الكلي في المجتمع، فهو لا يضع أناه في مقابل الأنا الاجتماعي، بل يضعه تحت تصرف الأنا الاجتماعي أي الموت في سبيله.
3. الانتحار الأنومي أو اللامعياري: لقد لاحظ دوركايم أن معدلات الانتحار ترتبط بالأزمات الاقتصادية بنفس النسبة مع حالات الانتعاش الاقتصادي، حيث يشرح دوركايم مصطلح اللامعياري "الأنومي"، ففي حالة الثبات النسبي للمجتمع تكون مستويات الطموح محددة وواضحة، كما أن الأفراد يعرفون إمكانية تحقيق هذه الطموحات، أما في حالة الاضطرابات، أي فقدان التضامن الاجتماعي وقلة سيطرة الضمير الجمعي، فإن مستويات الطموح تتسم بعدم التحديد وبروز هوة بين طموحات وإمكانية التحقيق بالفعل مما يؤدي إلى فقدان المعاير وبالتالي القابلية للانتحار مع ملاحظة ضرورية أن هناك نوع من الاضطرابات التي تؤدي إلى نوع من التضامن مثل: الإضراب السياسي. وهذا التعارض تفسيره فقط في درجة زيادة أو نقصان من حالة التماسك الاجتماعي المرتبط بظاهرة الانتحار.