الفصل الثاني: ابن خلدون وعلم الاجتماع.
المبحث الأول:اكتشافه لعلم الاجتماع ومنهجه.
المطلب الأول:اكتشافه لعلم الاجتماع.
لقد قام ابن خلدون باكتشاف هذا العلم وأتى بنظريات قيمة وعبد الطريق للباحثين بعده كما سهل عليهم السمو به إلى دراجات التقدم. حيث يصرح ابن خلدون لاكتشافه لهذا العلم الجديد بقوله: (( وكأن هذا العلم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد الأخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا. وأعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أَعْثَرَ عليه البحث وأدى إليه الغوص))(1).
ومن خلال هذا النص يتبين لنا أن هناك علما يسمى بعلم الاجتماع أو العمران مستقلا بنفسه له موضوعه الخاص ومنهجه، وقوانينه قام هو باكتشافه عن طريق البحث المتعمق والجهد الجبار الذي بذله في اكتشافه وتحديد وظيفته وميدانه وضبط قواعده وبعد ذلك أصبح علما متميزا عن العلوم الأخرى.
ثم يزيد ذلك توضيحا في النص التالي: (( وإذا كانت كل حقيقة متعلقة طبيعة يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها؛ وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه))(2).
فإذا كانت الدراسات اللغوية ترمي إلى التعبير عما يختلج في أفكار الناس وتتيح لهم التفاهم والدراسات الأخلاقية والفقهية أو القانونية هدفها هو المحافظة على النوع البشري وبقاؤه، والدراسات الطبيعية توفر للإنسان الأشياء التي يحتاج إليها، فإن الدراسات الاجتماعية تتوجه إلى دراسة لأحوال الناس وعلاقاتهم فيما بينهم وما يلحقها من العوارض والظواهر المختلفة، وعلى هذا الأساس يعتبر علما قائما بذاته له خصائصه ومميزاته عن بقية العلوم الأخرى، فإذا كان العلماء قبل ذلك اهتموا بالعلوم الأخرى لفائدتها المادية ونتائجها التي تعود على الإنسانية بالمنفعة، فإنهم لم يلتفتوا إلى الدراسة الإنسانية الاجتماعية ولم يدركوا قيمتها فبقيت مجهولة إلى أن جاء ابن خلدون وأبرزها إلى الوجود وفي هذا يقول:
(( وكأنه علم مستنبط النشأة. ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة. ما أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم أولعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا
(1) عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ، ط 2، (بيروت: دار الكتاب اللبناني 1979م)، ص 62 .
(2) المصدر نفسه، ص63.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون؛ وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل.))(1)
ومن هنا يتبين لنا أن ابن خلدون قد قام بجهود جبارة للاطلاع على علوم السابقين، فلم يعثر على بحث كامل مدقق اعتنى بالموضوع حق العناية وبحثه من جميع جوانبه، وأخذا يتساءل هل كل العلماء الذين سبقوه لم ينتبهوا إلى هذا العلم ولم يؤلفوا فيه ؟ أم أنه لم يستطيع العثور على ما كتبوا في هذا الموضوع ؟ رغم كثرة العلم والعلماء في العالم، وربما لم يتوصل إلى الاطلاع على جميع المؤلفات العلمية في أرجاء العالم.
وعلى كل فإن ابن خلدون اكتشف علم الاجتماع ورغم كل ذلك فهو ينبهنا إلى من سبقه في ذلك بمحاولة دراسته ويضع كل الاحتمالات التي تدل على التزامه بالنزاهة و التواضع وذلك يتم عن حذاقته ونباهته وشدة التبصر في إصدار الأحكام، وهو يعرف بأنه هناك من العلماء من حوم على هذا الموضوع ولكنهم لم يوفقوا في الإحاطة به وإنما قاموا بإثارة بعض المسائل المتفرقة الممزوجة بغيرها من المواضيع الأخرى.
المطلب الثاني: الظواهر الاجتماعية.
لقد تعرض ابن خلدون للظواهر الاجتماعية في دراسته وبحث كل ظاهرة في مكانها الخاص تبعا للتصميم الذي وضعه حسب تبويبه لعلم الاجتماع ولذلك نراه شديد الحرص على التعرض لهذه الظواهر في كل باب من أبواب علم الاجتماع، وقام بتعريف الظواهر الاجتماعية بصفة موجزة في بداية حديثه.
لقد كان نبيها في اقتفاء اثر الظواهر الاجتماعية والتعرض لها بالبحث والتنقيب والتحليل ومدى أهمية كل منها في الحياة الاجتماعية وأثرها على الأفراد والجماعات وفي هذا يقول:
((يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأمصار في السير والأخلاق والعوائد والنِحَلْ والمذاهب وسائر الأحوال)).
ثم يقول:
(( ولم اترك شيئا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأولى، وأسباب التصرف والحِوَلْ، في القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله.)).(2)
وفي هذه النصوص نرى ابن خلدون يذكر بعض الظواهر الاجتماعية ويكتفي بالإشارة إلى البعض الآخر مستندا في ذلك إلى دراسة الجزئيات ضمن الكليات ثم يربط الظواهر
(1) المصدر نفسه ص 63 .
(2) المصدر نفسه ص8 .