منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الدين والسياسة
الموضوع: الدين والسياسة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2008-11-07, 14:38   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

ومن هنا لا يجيز الإسلام ما يسمُّونه الزواج المثلي: الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فهذا في الحقيقة ليس زواجًا، لأن الزواج أو الزوجية لا تكون إلا بين الشيء ومقابله: الذكر والأنثى، الموجب والسالب، لا بين الشيء ومثله، وهو الذي جاء منه قول الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذريات:49]، ولهذا كان هذا التصرف ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولو استسلمت البشرية لهذه النزعة، لهلك العالم الإنساني بعد جيل أو جيلين، إذ النسل لا يتم إلا بالتقاء ذكر وأنثى، كما تقضي بذلك الفطرة البشرية، وسنة الله الكونية، وقوانينه الشرعية.
________________________________________
[1]- منها كتب د. علي عبد الواحد وافي (حقوق الإنسان في الإسلام)، والشيخ الغزالي (حقوق الإنسان بين الإسلام وميثاق الأمم المتحدة)، ود. محمد فتحي عثمان (حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي)، ود. القطب محمد طبليّة (الإسلام وحقوق الإنسان)، ود. محمد عمارة بهذا العنوان، ود. جمال عطية.
[2]- انظر: الصفحات 155 – 160.
[3]- رواه أحمد في المسند (26195) عن عائشة، وقال محققوه: حديث حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله وهو ابن عمر العمري، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وأبو يعلى في المسند (8/149)، والبيهقي في الكبرى كتاب الطهارة (1/168)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1983).
[4]- رواه البخاري في الإيمان (13) عن أنس، ومسلم في الإيمان (45)، وأحمد في المسند (12801)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5016)، وابن ماجه في المقدمة (66).
[5]- رواه البخاري في العلم (121) عن جرير بن عبد الله البجلي، ومسلم في الإيمان (65)، وأحمد في المسند (19167)، والنسائي في تحريم الدم (4131)، وابن ماجه في الفتن (3942).
[6]- رواه أحمد في المسند (1652) عن سعيد بن زيد، وقال محققوه: ، والترمذي في السنة (4772)، والترمذي في الديات (1421)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي في تحريم الدم (4094)، وابن ماجه في الحدود (2580) مختصرا، ورواه البخاري في المظالم (2480) عن عبد الله بن عمرو، ومسلم في الإيمان (141)، وأحمد في المسند (6522) واقتصرا على ذكر المال.
[7]- انظر: حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي للدكتور محمد فتحي عثمان صـ174 – 192، طبع دار الشروق. القاهرة.
[8]- انظر: كتابنا (جريمة الردة وعقوبة المرتد) من سلسلة (رسائل ترشيد الصحوة) صـ44 وما بعدها.
[9]- انظر: كتابنا (مركز المرأة في الحياة الإسلامية) من رسائل ترشيد الصحوة، والحديث سبق تخريجه.
[10]- انظر: كتابنا (فتاوى معاصرة) جـ2 صـ383.
[11]- سفر الخروج (20/13، 14، 15).
[12]- إنجيل متى: (5/28).
[13]- رواه أحمد في المسند (8356) عن أبي هريرة، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأبو داود في النكاح (2153)، وأبو يعلى في المسند (11/309)، وابن حبان في صحيحه كتاب الحدود (10/267) والبيهقي في الكبرى كتاب النكاح (7/89).



الباب الرابع
الفصل الأول
العلمانية: هل هي الحل أو هي المشكلة؟
نخصص هذا الفصل لمناقشة بعض اللبراليين الجدد: الذين يدّعون أن العلمانية هي الحل!
والعلمانية: فكرة جديدة – أو قُل: دخيلة - على المجتمعات الإسلامية! لم يعرفها المسلمون طوال تاريخهم المديد... ومعنى العلمانية: فصل الدين عن المجتمع والدولة. فهي فكرة غريبة لحما ودما.
وقد تحدثنا عن العلمانية في عدد من كتبنا، منها ما سجلته في سلسلة: (حتمية الحل الإسلامي) ولا سيما في الجزء الأول منها: ( الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا)، ومنها الجزء الثالث: ( بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين)، ومنها الجزء الرابع: (أعداء الحل الإسلامي) ومنهم: عبيد الفكر الغربي، والعلمانيون في طليعتهم.
كما ألفت في مناظرة العلمانيين كتابي: (الإسلام والعلمانية وجها لوجه)، وكتابي الآخر: (التطرف العلماني ومواجهة الإسلام: نموذج تركيا وتونس).
وفي هذه الكتب كلها؛ بينت نشأة هذه العلمانية في أوربا، وأنها كانت ضرورة لا بد منها لإنجاح مسيرة التحرر والتقدم للنهضة الأوربية.
دعوى بعض الحداثيين والليبراليين الجدد: أن العلمانية هي الحل أو هي العلاج الكافي، والدواء الشافي، لمعضلات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وليس (الإسلام هو الحل) كما تنادي بذلك تيارات ضخمة في أوطاننا، فهذه دعوى متهافتة، ويكفي أنها مرفوضة من أغلبية الأمة، التي ترى فيها عدوانا على شريعتها، ومناقضة لمسلماتها.
كما ترى أنها دعوى دخيلة عليها، ليس بها حاجة إليها، إنما قامت العلمانية في الغرب لأسباب تاريخية معروفة، تتمثل في تحكُّم الكنيسة الغربية ورجالها في الدولة، وفي حياة الناس، وتسلطها عليهم في الأرض باسم السماء، وليس من حق أحد أن يحاسبهم أو ينتقدهم، فلهم من (القداسة) ما يحول دون ذلك.
وعندما ضاق الناس ذرعًا بذلك، وبدأ عصر التنوير، ثار الناس على جمود الكنيسة وطغيانها، ومحاكم تفتيشها وما اقترفت من مظالم وجرائم في حق العلم والعلماء. ووقوفها مع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين، ومع الخرافات ضد العلم، ومع الظلام ضد النور، وأسقطوا حكم الكنيسة الذي كان يحكم تحت غطاء الدِّين، وكان هذا أمرا لا بد أن يحدث، لأنه يتماشى مع سنن الله في الكون والمجتمع.
نحن في الإسلام ليس لدينا كنيسة، ولا سلطة دينية كهنوتية، ولا كاهن يتحكم في ضمائر الناس، ويحتكر الوساطة بيننا وبين ربنا، بل ليس عندنا طبقة كهنوتية تسمى (رجال الدِّين) يجب أن نذهب إليهم إذا أذنبنا، ونعترف لهم بما اقترفنا، ونلتمس منهم الغفران لخطايانا، وإلا هلكنا! بل المقرَّر عندنا أن كل الناس رجال لدينهم. عندنا فقط علماء يخدمون الدِّين بما تعلموه وفقهوه. كما قال الله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
لا حاجة لنا إذن إلى العلمانية التي تعني تاريخيا: التحرُّر من سلطان الكنيسة، التي لا وجود لها عندنا.
العلمانية كانت (حلاًّ) لمشكلة المجتمع الأوربي، وكانت ضرورة ليصل إلى التحرُّر المنشود. ولكنها عندنا ليست ضرورة، بل ضررا، وليست حلا بل مشكلة.
وقد ناقشت قضية (العلمانية) وصلتها بالإسلام في أكثر من كتاب لي، منها: (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) و(التطرف العلماني في مواجهة الإسلام) و(بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين). ولا أريد أن أعيد بحثها هنا اليوم. فمن أراد فليرجع إلى هذه الكتب.
ولكني أكتفي هنا ببعض النقول من مفكرَين مدنيَّين ليسا محسوبين على علماء الدِّين، حتى يتهموا بالتعصب والانغلاق، ومعاداة الغرب ... إلخ.

الجابري يقول: العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة:
يسرني أولا أن أنقل هنا: ما كتبه المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري عن (العلمانية) أو (اللائكية) التي يطرحها بعضهم كمرتكز للتغيير والإصلاح في وطننا العربي، ويرى الجابري: أن العلمانية طرحت في بعض المراحل لأسباب لم تعد قائمة اليوم. فقد طالب بها نصارى الشام حين أرادوا الاستقلال عن الدولة العثمانية. فعبروا بذلك عن إرادتهم الاستقلال عن الترك.
وحين تبنى الفكر القومي العربي شعار العلمانية: كانت دلالته ملتبسة بمضمون شعار الاستقلال والوحدة. ذلك باختصار هو الإطار الأصلي الذي طرح فيه شعار العلمانية في بلاد الشام (سورية الكبرى).
ولا بد من ملاحظة أن هذا الشعار لم يرفع قط في بلدان المغرب العربي، ولا في بلدان الجزيرة، ولربما لم يرفع بمثل هذه الحدة في مصر نفسها حيث توجد أقلية قبطية مهمة ... وعندما استقلت الأقطار العربية، وبدأ التنظير لفكرة العروبة و(القومية العربية)، طرح شعار (العلمانية) من جديد، وخصوصًا في الأقطار العربية التي توجد فيها أقليات دينية (مسيحية بصفة خاصة).
وهذا الطرح كان يبرِّره شعور هذه الأقليات بأن الدولة العربية الواحدة التي تنادي بها القومية العربية ستكون الأغلبية الساحقة فيها من المسلمين، الشيء الذي قد يفرز من جديد وضعا شبيهًا بالوضع الذي كان قائما خلال الحكم العثماني. وإذن فالدلالة الحقيقية لشعار (العلمانية)، في هذا الإطار الجديد، إطار التنظير لدولة الوحدة كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقليات الدِّينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فـ(العلمانية) على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدِّينية. وفي خضم الجدل السياسي الأيديولوجي بين الأحزاب والتيارات الفكرية، عبَّر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة (فصل الدِّين عن الدولة)، وهي عبارة غير مستساغة إطلاقا في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدِّين والدولة. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى أمور الدِّين هيئة منظمة تدَّعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس، في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة.
ثم يقول الجابري: مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها، بل مشروعيتها عندما يعبَّر عنها بشعار ملتبس كشعار (العلمانية).
وما نريد أن نخلص إليه هو: أن الفكر العربي مطالب بمراجعة مفاهيمه، بتدقيقها وجعل مضامينها مطابقة للحاجات الموضوعية المطروحة. وفي رأيي: أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي: الديمقراطية تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني: الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه لا الديمقراطية، ولا العقلانية، تعنيان بصورة من الصور: استبعاد الإسلام، كلا. إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول: إنه إذا كان العرب هم (مادة الإسلام) حقًا، فإن الإسلام هو روح العرب. ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوِّمًا أساسيًّا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعًا مسلمين وغير مسلمين.
إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية، بدل مبدأ العلمانية، وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة، تلك من جملة الأسس التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي، الفكر الذي يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج [1] اهـ.

أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى (العلمانية):
وما نادي به المفكر المغربي الدكتور الجابري من وجوب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي المعاصر، نادى به كذلك من قِبَل مفكر مصري، هو الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وذلك في ورقته التي قدمها في ندوة (الإسلام والقومية العربية)، التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة، والتي شارك فيها عدد لا بأس به من الباحثين والمفكرين العرب من القوميين والإسلاميين.
قال أبو المجد:
(والقوميون العرب مطالبون فوق ذلك بإسقاط الدعوة إلى (علمنة القومية) وموضوع (العلمانية) موضوع دقيق ويحتاج إلى دراسة مستقلة. والعلمانية مصطلح نلح بشدة على تغييره والعدول عنه، لشدة غموضه أولًا، ولاشتماله على إيحاءات غير صحيحة تتعلَّق بالتقابل والتناقض بين الدِّين والعلم.
إن (العلمانية) تحمل في الواقع سلسلة من المعاني والمبادئ لعل من أهمها:
1. نفي الصفة الدِّينية عن السلطة السياسية في الدولة.
2. الفصل بين الدِّين والدولة.
ويجمع البعض هذين العنصرين في عبارة واحدة هي: (حياد الدولة تجاه الدِّين، كل دين، بحيث لا تلزم الدولة نفسها بأي معتقد ديني أو دين، ولا تخص أي دين باعتراف خاص به أو بعطف خاص به) [2].
3. المساواة بين أتباع الأديان في المعاملة السياسية والإدارية والاجتماعية.
4. تطوير الأوضاع والأنظمة الاجتماعية على أساس عقلاني مستمد من التجربة والنظر العقلي، بعيدا عن النصوص والمبادئ الدِّينية.
إن فيما يسمى العلمانية عناصر لا نعتقد أنها تتعارض بالضرورة مع الإسلام، كاعتبار السلطة السياسية ذات أساس مدني مستمد من رضا المحكومين، ونفي الصفة الثيوقراطية عنها. وكالتسليم بحق أتباع الديانات المختلفة في ممارسة شعائرهم الدِّينية بحرية، إلا إذا صادمت ما يعرف بالنظام العام والآداب العامة. وهي فكرة ترتبط (بالدولة) ولا ترتبط (بالإسلام) ...
أما قضية فصل الدِّين عن الدولة، بمعنى إقصاء الدِّين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع، فإنها المكوِّن الرئيسي من مكونات (العلمانية) الذي لا يسع مسلما قبوله.
ودون توسع في عرض هذه المشكلة: نلاحظ مع كثير من الباحثين: أن الدعوة إلى (العلمانية) في إطار التوجه القومي، تخلق من المشاكل والصعاب أكثر كثيرا مما تحل وتحسم. إنها في الحقيقة تلبي حاجة واحدة، هي حاجة الأقليات المسيحية في الوطن العربي للشعور بالاطمئنان، وبالمساواة داخل المجتمع العربي المسلم، ولكنها:
أولاً: لا تنشئ موقفا حياديًا بين الأديان. إذ هي من وجهة نظر المسيحية تتفق تماما مع قاعدة (أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ... ولكنها تضع العربي المسلم في تناقض مع شمول الإسلام وتنظيمه الواضح -إجمالاً وتفصيلا- لأمور المجتمع. وبذلك تكون الدعوة إلى العلمانية -في الواقع- منحازة لرؤية الأقلية الدِّينية على حساب رؤية الأغلبية.
ثانيًا: إنها تستعير صيغة مستمدة من تاريخ الصراع بين الكنيسة والدولة في أوربا وتحاول فرضها على مجتمع لا يعرف تاريخه صراعا مشابها.
إن الدعوة إلى (علمنة) القومية ... وعلمنة (الدولة) في هذا الوقت بالذات، مسلك بعيد تمامًا عن الحكمة، ما دام مصطلح (العلمنة، والعلمانية) يحمل في ثناياه هذه المكونات التي يتعارض بعضها مع أساسيات التصور الإسلامي العام.
إن إيجاد المخرج النفسي والاجتماعي للأقليات المسيحية في المجتمعات العربية لا يجوز أبدًا أن يتم من خلال صيغة تحمل كل هذه المحاذير، وتهدد بوضع التوجه القومي كله في صراع مع التوجه الإسلامي، الذي تتعاظم موجته، ويزداد أنصاره عددًا وقوة.
إن ملف (العلمانية) ينبغي أن يفتح، ومكوناتها تحتاج إلى تحديد وإعادة نظر، واستعمالها كمصطلح، والدعوة إليها: يحسن -فيما نرى- أن تتوقف) [3].
وبهذا اتفقت دعوة أبو المجد في المشرق، ودعوة الجابري في المغرب، على استبعاد شعار العلمانية من قاموس دعاة العروبة، لأنه يهدم أكثر مما يبني، ويثير من الإشكالات أكثر مما يقدم من حلول. ثم هو مرفوض أصلا من أغلبية الأمة، التي تراه متعارضا مع دينها وتراثها.

العقلانية والديمقراطية تتفقان مع جوهر الإسلام
رأينا اتفاق الدكتور أحمد كمال أبو المجد من المشرق العربي، والدكتور محمد عابد الجابري من المغرب العربي، على ضرورة تخلي دعاة القومية عن شعار العلمانية، الذي لم يعد له مبرِّر في حياتنا الحاضرة، ودعا كل منهما إلى ضرورة التنادي بأمرين أساسيين، لا تستطيع الأمة أن تنهض وتتقدم بغيرهما، وهما: العقلانية والديمقراطية.
وأنا أؤيدهما في هذه الدعوة المخلصة، بشرط أن نفسر بجلاء المقصود من كل منهما.
فما المراد بـ(العقلانية)؟ وما المراد بـ(الديمقراطية)؟

العقلانية المنشودة:
أما (العقلانية) فنحن نرحب بها، لكن هذه المصطلحات باتت لها (مفهومات) عند الغربيين، تختلف كثيرًا أو قليلاً عما ندركه نحن منها.
فالعقلانية عند الغربيين: اتجاه أو مذهب يعتمد على العقل وحده في فَهم الكون والإنسان والحياة في مقابل (الحسِّ) أو (التَّجرِبة)، فالعقليون لهم وجهتهم وطريقهم، والتجريبيون لهم وجهتهم وطريقهم.
وقد يكون هذا الاتجاه أو هذا المذهب في مقابلة الذين يعتمدون على مصادر أخرى، مثل الوحي عند الكتابيين (اليهود والنصارى والمسلمين)، ومثل الذين يعتمدون على الإلهام والذوق من الصوفية، والباطنية وغيرهم. فالعقلانية هنا تعني: المادية والحسية.
وقد تستعمل العقلانية في المذهب الذي يرى أنه لا يجوز الوثوق إلا بالعقل، ولا يجوز التسليم إلا بما يعترف به العقل بأنه منطقي وكاف وفقا للنور الطبيعي (الفطري). وهذا ما يقول به الدِّينيون، فلا يرون تعارضا بين العقل والوحي إذا ثبت الوحي بطريق النقل بصفة قطعية. وهنا يعطي فسحة للروح والحدس والشعور، أي للصوفية [4].
وقد تستخدم (العقلانية) في مقابلة الاتجاه إلى تصديق الخرافات والأوهام والشعوذة، وهذا ما يرحب به كل مؤمن وكل عاقل.
وإذا نظرنا إلى العقلانية عندنا -نحن العرب والمسلمين- نجد أن هذا اللفظ من الناحية اللغوية يسمى (مصدرًا صناعيًا) منسوبا إلى العقل، زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في نحو الربانية، نسبة إلى الرب، والروحانية نسبة إلى الروح.
ولم يستخدم هذا التعبير ( العقلانية) - فيما أعلم- في تراثنا، ولكن الاتجاه العقلي -بصفة عامة- معروف في تراث الأمة، عُرف به الفلاسفة، وعُرف به علماء الكلام عامة، والمعتزلة منهم خاصة.
وهناك فرق كبير بين الفلاسفة والمتكلمين -ومنهم المعتزلة- فالفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، والمتكلمون ينطلقون من العقل المؤمن بالدِّين.
على أن قولنا: أن الفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، قد يُعترض عليه معترضون كثيرون، فإنهم ينطلقون من العقل المؤمن بالفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس، الذي سمَّوه المعلم الأول، وأضفوا على مقولاته هالة من التقديس، حتى إذا تعارض مع قواطع القرآن؛ أولوا القرآن ليتفق مع ما قرره أرسطو، فكان أرسطو هو الأصل، والقرآن تابع!!
على أن مجال العقل في تراثنا مجال واسع، فالمتكلمون -حتى الأشاعرة والماتريدية منهم- يعتبرون العقل أساس النقل، فلولا العقل ما قام النقل ولا ثبت الوحي، ولا تأسَّس الدين. فبالعقل ثبتت أعظم قضيتين في الدِّين: قضية وجود الله تعالى، وقضية إثبات النبوة، فإثبات النبوة لا يتمُّ إلا بالعقل عن طريق الآيات البينات، التي يؤيد الله بها رسله، ومنها: المعجزة. فالعقل هو الأداة الوحيدة لإثبات الوحي، أو نبوة النبي، فإذا أثبت العقل النبوة بطريق قطعي: عزل العقل نفسه – كما يقول الإمام الغزالي – ليتلقى بعد ذلك عن الوحي، ويقول: سمعنا وأطعنا.
والله سبحانه قد دلَّنا على نفسه بما بثَّ من آيات دالة في الأنفس والآفاق، ولا زال يُري خلقه من هذه الآيات ما يبهر العقول، ويبيِّن الحق: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
ولا تجد كتابا دينيا -غير القرآن- كرَّم العقل، وأشاد به، وحضَّ على الرجوع إليه، وذمَّ الذين يعطلونه بالجمود أو التقليد، أو اتباع الظنون والأهواء. كما حفل بكل المفردات من (عائلة العقل) مثل: التفكُّر والنظر والتدبُّر والاعتبار، والبرهان والحجَّة والحكمة والتعلُّم والتفقُّه والتذكُّر.
وإن كان مما يؤسف له: أن كثيرا من المسلمين في عالم اليوم غيَّبوا عقولهم، واستسلموا للأوهام أو الجهالات، أو ألقَوا عقولهم وغدَوا يفكرون بعقول الموتى.
والعقلانية التي ننشدها لا تحتاج إلى تفلسف ولا معاناة في تعريفها. إنها ببساطة تعني: أن نعتمد على عقولنا في تسخير قوى الكون لصالحنا، والانتفاع بخيراته للنهوض بأمتنا، والخروج بها من سجن التخلف إلى باحة التقدم، واستخدام طاقات العلم ووثباته الهائلة، وثوراته الكبرى في خدمة أمتنا خاصة، والإنسانية عامة. وأن تكون هذه منهجية الأمة في تعليمها وثقافتها وإعلامها.
وليس هذا جديدا على أمتنا، فقد شادت حضارة شامخة جمعت بين العلم والإيمان، وبين الإبداع المادي والسمو الروحي والأخلاقي، ولم يعرف في تاريخها صراع بين الدِّين العلم، بل كان الدِّين عندها علما، والعلم عندها دينا.
وقد شارك رجال كبار من علماء الدِّين في علوم الكون والطبيعة مثل: ابن رشد الحفيد، والفخر الرازي، وابن النفيس، وغيرهم.
وليس هذا بغريب على أمة يجعل دينها التفكير فريضة، والنظر في آيات الله في الآفاق والأنفس عبادة، ويعمل قرآنه على إنشاء العقلية العلمية، ويرفض الظن والهوى والتقليد في تأسيس الحقائق، وينادي بإقامة البرهان في كل دعوى [5]. ويرى علماء الشريعة فيه: أن إتقان علوم الدنيا فرض كفاية على الأمة في مجموعها، مثل علوم الدِّين. فإن وجد بها عدد كاف في كل علم ديني أو دنيوي، يلبي الحاجة، ويغطي مطالب الخَلق، فقد رفع عنها الإثم والحرج، وإلا باءت الأمة كلها بالإثم.

سيادة الروح العلمية:
لقد كان مما عبته على الصحوة الإسلامية المعاصرة: غلبة العاطفة والغوغائية على كثير من فصائلها، وتغييب العقلانية والعلمية عنها. وقد كان من أبرز ما ناديت به لكي تنتقل الصحوة من المراهقة إلى الرشد: أن تنتقل من العاطفية والارتجالية إلى العقلانية والعلمية. ومما ركَّزت عليه في هذا المقام:
تأكيد ما ذكرته من قديم في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) وبعد ذلك في كتابي: (أولويات الحركة الإسلامية) في فصل (فكر علمي) وهو: أن يسود (التفكير العلمي) و(الروح العلمية) مسيرتنا كلها.
نريد أن يسود: (التفكير العلمي)، وتسود (الروح العلمية): كل علاقاتنا ومواقفنا وشؤون حياتنا، بحيث ننظر إلى الأشياء والأشخاص والأعمال، والقضايا والمواقف: (نظرة علمية)، ونصدر قراراتنا الاستراتيجية والتكتكية، في الاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها: بعقلية علمية، وبروح علمية، بعيدًا عن الارتجالية، والذاتية، والانفعالية، والعاطفية، والغوغائية، والتحكمية، والتبريرية: التي تسود مناخنا اليوم، وتصبغ تصرفاتنا إلى حد بعيد. فمن سلم من أصحاب القرار من اتِّباع هواه الشخصي، أو هوى فئته وحزبه: كان أكبر همه اتِّباع ما يرضي أهواء الجماهير، لا ما يحقِّق مصالحها، ويؤمِّن مستقبلها، في وطنها الصغير، ووطنها الكبير، والأكبر.
و(للروح العلمية) دلائل ومظاهر أو سمات، كنت أشرت إليها، أو إلى أهمها في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة)، في مجال (النقد الذاتي) للحركة الإسلامية، يحسن بي أن أُذكِّر بها هنا، في مجال تأكيد حاجة الأمة إليها، وفي بعض الإعادة إفادة.

سمات الروح العلمية المطلوبة:
أبرز هذه السمات:
1. النظرة الموضوعية: إلى المواقف والأشياء، والأقوال، بغضِّ النظر عن الأشخاص، كما قال علي بن أبي طالب: لا تعرف الحق بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله [6].
2. احترام الاختصاصات، كما قال القرآن: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43، الأنبياء:7]، فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان:59]، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]. فللدِّين أهله، وللاقتصاد أهله، وللعسكرية أهلها، ولكل فن رجاله، وخاصة في عصرنا، عصر التخصص الدقيق، أما الذي يعرف في الدِّين، والسياسة، والفنون، والشؤون الاقتصادية والعسكرية، ويفتي في كل شيء: فهو في حقيقته لا يعرف شيئا.
3. القدرة على نقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والاستفادة منه، وتقويم تجارب الماضي تقويما عادلاً، بعيدًا عن النظرة (المَنْقَبِيَّة): التي تنظر إلى الماضي عبى أنه كله مناقب وأمجاد! أو النظرة (التبريرية): التي تحاول أن تبرر كل خطأ أو انحراف، ولو بطريقة غير مقبولة، لا شرعا ولا وضعا.
4. استخدام أحدث الأساليب وأقدرها على تحقيق الغاية، والاستفادة من تجارب الغير حتى الخصوم، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها: فهو أحق الناس بها [7]. وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والآليات، كالتقنيات ونحوها، فنحن في سَعَة من استخدامها: ما دامت تخدم مقاصدنا وغايتنا الشرعية.

يتبع >

__________________