السياسة بين الجمود والتطور
ومما أثاروه من الشبهات التي رتَّبوها على صلة الدِّين بالسياسة: أن اللجوء إلى الدِّين في شؤون السياسة والحكم وإدارة الدولة، يصيب الحياة بالجمود والعفن، ويجعلها كماء البِرَك الآسن، لا تتطور ولا تتحسن ولا تتجدد، لأن طبيعة الدِّين (الثبات) وطبيعة الحياة (التغير). بل نـرى نصوص الدِّيـن تعتبـر كـل تغيير أو إحداث أو تجديد: بدعة في الدِّين، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولهذا يجب على أهل الدِّين أن يقاوموها، ولا يسكتوا عليها.
وهذا الكلام يشتمل على كثير من الخلط والتلبيس. ولا يتفق مع حقائق الإسلام الناصعة، وأحكامه القاطعة، وتعاليمه المحكمة. كما لا يتفق مع حقائق الحياة أيضا.
فرضية الاجتهاد والتجديد للدين:
فالإسلام يدعو إلى الاجتهاد والتجديد في الدِّين، والعلماء يعتبرون الاجتهاد في الدِّين من (فرائض الكفاية) التي تجب على الأمة متضامنة، بحيث إذا توافر لها عدد من المجتهدين يلبون الحاجة، ويسدون الثغرة، ويؤدون الواجب، فيما يعتري الأمة من مشكلات مستجدة، تتطلب الحل، وواقعات لم يسبق لعلمائنا الماضين أن عرفوها، فهنا تكون الأمة قد أدت ما عليها وبرئت من الإثم. وإلا أثمت الأمة عامة، وأولو الأمر والشأن فيها خاصة.
ويجب على الأمة أن تتخذ من الوسائل والأسباب والآليات العلمية والتربوية والعملية والإدارية: ما يكفل ظهور هؤلاء المجتهدين الذين يعرفون شريعتهم، ويعرفون عصرهم، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد قرأنا الحديث النبوي الذي يقول: "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة: من يجدد لها دينها" [1].
نبي الإسلام هو الذي شرع التجديد للدين ودعا إليه، وبشَّرنا بأن الله يهيئ في كل قرن من يقوم بتجديد هذا الدِّين.
وإذا كان التجديد في أمر الدِّين مطلوبا ومحمودا، فكيف يُرفض التجديد في أمر الدنيا وشؤون الحياة؟
أما ما جاء من ذم (الإحداث) فمقصود به الإحداث في الدِّين، وما يتعلَّق بالعبادات المحضة، وهي التي جاءت فيها النصوص المانعة والذامَّة، مثل قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقوله : "من أحدث في أمرنا -أي ديننا- ما ليس فيه فهو رد" [2]، و"من عمل عملا ليس عليه أمرنا" [3]، أي مردود عليه، لا يقبل منه.
وقوله : "إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" [4].
والمراد بالمُحْدث أو المُحْدثة هنا: ما أحدث في أمر الدِّين والعبادات المحضة من الزيادة على الدِّين والتغيير فيه، بما لم يجئ به نص من كتاب ولا سنة، ولم يسنه الراشدون المهديون رضي الله عنهم. وهذا أمر مهم، بل ضروري لحفظ الدِّين. بخلاف أمر الدنيا.
الاتباع في الدين والابتداع في الدنيا:
ومن هنا جعلنا من ركائز (الفقه الحضاري) -في كتابنا (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة)- هذا المبدأ أو هذه القاعدة الهامة، التي يجب أن يعيها أبناء أمتنا، وهي: الاتِّباع في الدِّين، والابتداع في الدنيا! وقد قلتُ في شرحها وإيضاحها:
(من مفاهيم هذا الفقه الحضاري: أن الأصل في أمور الدِّين هو الاتِّباع، وفي شؤون الدنيا هو الابتداع. فالدِّين قد أكمله الله تعالى، وأتمم به النعمة، فلا يقبل الزيادة، كما لا يقبل النقصان: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].
والتعبد لله يقوم على أصلين كبيرين:
الأول: ألا يعبد إلا الله تعالى، وكل ما عبده الناس من نجم في السماء أو صنم في الأرض، أو نبات أو حيوان أو إنسان فهو باطل، وهذا ما جاء به كل رسل الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
والثاني: ألا يعبد الله تعالى إلا بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، وكل مَن أحدث في دين الله أمرًا لم يجئ به قرآن ولا سنة، فهو مردود على صاحبه، كما في الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد" [5]، "من عمل عملا ليس عليه أمرنا" [6].
وفي الحديث الآخر: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" [7].
وبهذا حمى النبي صلى الله عليه وسلم الدِّين من المحدثات والمبتدعات التي دخلت على الأديان السابقة فحرَّفتها، وأضافت إليها ما ليس منها، وعسَّرت منها ما يسَّره الله، وحرَّمت ما أحلَّه، وأحلَّت ما حرَّمه.
وحسبنا مثلا على ذلك: ما ابتدعه النصارى من الرهبانية العاتية، التي صادروا بها فطرة الله التي فطر الناس عليها، فحرَّموا الزواج، وزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق. وغلا بعضهم حتى حرم على نفسه من الماء والنظافة، واعتبروا البقاء على القذارة أقرب إلى الله، والنظافة أدنى إلى الشيطان. حتى قال أحد رهبان العصور الوسطى في أوربا متحسرًا: لقد كان من قبلنا يعيش أحدهم طول عمره لا يبل أطرافه بالماء، ولكننا -واأسفاه- أصبحنا في زمن يدخل فيه الناس الحمامات [8]!
ويبدو أن دخول الحمامات تلك عدوى انتقلت إليهم من المسلمين في الأندلس! فقد ذكروا أنه كان يوجد في قرطبة ستمائة حمام [9]!
وهذا التشديد على النفس، هو ما حذَّرت منه السنة. فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]" [10].
وفي مقابل هذا التشديد في أمر الدِّين، وإيجاب الاتِّباع فيه، كان التسهيل في أمر الدنيا، وفتح باب الإبداع والابتكار في كل ما يتعلَّق بها.
ولا غرو أن حثَّ الرسول الكريم على ابتكار مناهج الخير، واختراع ما تجود به القرائح المبدعة من صور العمران، والإصلاح والتجديد، في العلم والعمل والفن. وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "من سنَّ في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" [11].
وهذا ما مضى عليه الصحابة والمسلمون في القرون الأولى: نجد الصحابة فعلوا أشياء لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضاها تطور الحياة في زمنهم، ووجدوا فيها الخير والمصلحة للأمة، ولم يتقدم بها أمر ولا نظير، مثل كتابة المصاحف، وجعل الخلافة شورى [12]، وضرب النقود، واتخاذ السجن، وغير ذلك، مما استدل به الأصوليون على حجية المصلحة المرسلة [13].
وعمر له في خلافته القِدْح المُعلَّى في الابتكارات. ولذا قيل: هو أول من دوَّن الدواوين، ومصَّر الأمصار، واتخذ التاريخ ... إلخ ما عرف من أوَّلياته رضي الله عنه. وعلى هذا المنهج: مضى خير قرون الأمة.
قاوموا المُحْدَثات في العقيدة، والمبتدعات في العبادة، وحافظوا على جوهر الدِّين من الشوائب والطفيليات الغريبة. وفي الوقت نفسه ابتكروا علوما جديدة لخدمة الدِّين، مثل: علوم النحو والصرف والبلاغة، ووضعوا معاجم اللغة، وطوروا علوم الفقه والتفسير والحديث ودوَّنوها، وابتكروا علوما خادمة لها، لضبط قواعدها، وردِّ فروعها إلى أصولها. فكان علم أصول الفقه، وأصول الحديث، وأصول التفسير، وعلوم القرآن.
وترجموا علوم الأمم الأخرى، فاقتبسوا منها، وعدَّلوا فيها، وأضافوا إليها، ونبغ منهم أعداد لا تُحصى في علوم الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والبصريات والرياضيات وتقويم البلدان، وغيرها من أنواع المعارف والعلوم. وابتكروا علوما أخرى لم تعرفها الأمم السابقة كاليونان وغيرهم، مثل (علم الجبر) الذي اخترعه العلامة الخُوارزِمي، وهو يؤلف رسالة في علم المواريث والوصايا.
ولما تخلف المسلمون: انعكست الآية عندهم، فابتدعوا في أمور الدِّين، وجمدوا في أمور الدنيا!!) [14].
إننا ندعو المسلمين، ونلح في الدعوة عليهم، أن يحددوا الأهداف بوضوح، ويضعوا المناهج بدقة ، للتجديد في أمر الدين، والتطوير في أمر الدنيا، بحيث يكون يومهم أفضل من أمسهم، وغدهم أحسن من يومهم، فالمسلم الحق هو الذي ينشد(الأحسن) دائماً، وليس مجرد الحسن، كما قال تعالى في القرآن الكريم: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر: 17،18).
ومن المهم جدا في هذا المقام: أن يميز بين ما يجدد وما لا يجدد من الدين [15]، وما معنى التجديد وجوانبه، ومن هو المجدد الحق، وكذلك بين ما يطور وما لا يطور من المجتمع والحياة، بحيث تحترم الثوابت، ويبقى المجال مفتوحا وواسعا في المتغيرات، وما أكثرها [16].
دعوى ثبات الدِّين وتغير الحياة:
وقد ناقشنا في كتابنا (الإسلام والعلمانية) دعوى ثبات الدِّين وتغير الحياة، بأنها دعوى غير مسلمة، فليس كل الدِّين ثابتا، ولا كل الحياة متغيرة.
بل الثابت في الدِّين: العقائد والشعائر العبادية والقيم والفضائل والأحكام القطعية، التي عليها تجتمع الأمة، وتتجسد فيها وحدتها العَقَدِيَّة والفكرية والشعورية والعملية. وهي تمثل (ثوابت الأمة) التي لا يجوز اختراقها ولا تجاوزها. وربما كانت هي قليلة جدا، ولكنها مهمة جدا.
أما معظم أحكام الشريعة فهي ظنية، وهي قابلة للاجتهاد والتجديد واختلاف الآراء، وفيها يتغير الاجتهاد، وتتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. ففي هذا المجال الرحب يعمل العقل الإسلامي، ويصول ويجول مهتديا بما أنزل الله من الكتاب والميزان.
ولا غرو أن اختلفت المذاهب والمشارب، واختلف أهل المذهب الواحد فيما بينهم في مسائل شتَّى، واختلف قول الإمام الواحد في المسألة الواحدة ما بين فترة وأخرى، وكان ذلك موضع قبول وترحيب من علماء الأمة الذين أعلنوا بكل وضوح: أن اختلاف العلماء رحمة واسعة، كما أن اتفاقهم حجة قاطعة [17].
ولهذا دخلت الشريعة بلاد الحضارات المختلفة في فارس والعراق والشام ومصر والهند وغيرها، فما عجزت عن علاج مشكلة، ولا ضاق صدرها بجديد يعرض عليها، بل وجدت في سَعَة نصوصها، وشمول قواعدها، وعموم مقاصدها: ما يفي بكل مطلب، وما يجيب على كل تساؤل.
لقد علمنا الإسلام - بمُحكمات نصوصه، وكليات قواعده- أن نفرق بين المقاصد والوسائل، وبين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات، فنحرص على الثبات في المقاصد والغايات، وعلى المرونة في الوسائل والآليات، على الثبات في الأصول والكليات، وعلى المرونة في الفروع والجزئيات. وبهذا لا نقف في وجه التطور والإبداع، إلا إذا كان مسخا لهوية الأمة وذاتيتها باسم التطور.
هذه نظرتنا إلى الدِّين، فيه ثبات وفيه تغير، فإذا نظرنا إلى الحياة لم نجد الحياة كلها متغيرة كما زعم الزاعمون. بل جوهر الحياة ثابت، وجوهر الإنسان ثابت، وجوهر الكون ثابت. والأعراض هي التي تتغير.
إن السماء هي السماء، والأرض هي الأرض، والبحار هي البحار، والشمس والقمر والنجوم لا تزال تسير في أفلاكها مسخرة بأمر ربها، تحكمها سسن ثابتة لا تتغير ولا تتحول: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
قد تتغير بعض الأشياء تغيرا جزئيا وعَرَضِيا، كأن ينجح الإنسان في تخضير الصحراء، وقد يغلب التصحر الإنسان فيأكل الأرض الخضراء، وقد يطغى البحر على اليابسة فيأخذ منها، وقد يردم الإنسان جزءا من البحر، فيضمه إلى اليابسة، وقد يحول الإنسان ماء البحر الملح الأجاج إلى عذب فرات سائغ شرابه … إلى غير ذلك من التغيرات المحدودة، التي لا تنال من ثبات جوهر الكون والحياة.
والإنسان قد تغيرت قدراته وإمكاناته، وتغيرت معارفه ومعلوماته، فأمسى يحلق في الهواء كالطير، ويغوص في البحار كالحوت، ويختصر المسافات، ويضاعف القدرات، ويهتدي إلى الثورات العلمية الهائلة: الإلكترونية والتكنولوجية والبيولوجية والنووية والفضائية، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات.
ومع هذا كله، ظل الإنسان هو الإنسان في جوهره وحقيقته، بعقله وعاطفته وضميره، وجسمه وروحه، باستعداده للخير والشر، وللفجور والتقوى.
بقي الإنسان الخَيِّر الطيب الذي تمثل في ابن آدم الأول الذي سُمي (هابيل)، وبقي كذلك الإنسان الشرير الخبيث الذي تمثل في ابن آدم الثاني الذي سُمي (قابيل).
نعم، تطورت أدوات القتل وأساليبه عما كانت من قبل، وأصبح في استطاعة الإنسان أن يخفي جثة القتيل بإذابتها بواسطة محاليل كيميائية معينة، ولكن جوهر الخير والشر ظلاَّ كما هما في إنسان عصرنا كما كانا في العصر الأول.
ومن هنا سقطت دعوى أن الدِّين كله ثابت، وأن الحياة كلها متغيرة.
وأود أن أنبه هنا إلى: أن الإسلام لا يمنع تطور الحياة، وانتقالها من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن. بل نرى الإسلام أبدا يشوق المسلم إلى (التي هي أحسن) في كثير من الأمور، فهو يحاور بالتي هي أحسن، ويدفع إساءة المسيء بالتي هي أحسن، ويقرب مال اليتيم بالتي هي أحسن.
و يتطلع دائما إلى (الأحسن) في كل شيء، كيف لا وقد علمه القرآن ذلك حين قال: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]، وقال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17،18].
ولقد رأينا الرسول الكريم يعني بأمر (الإحصاء) قبل أن يهتم به البشر، فطلب من أصحابه أن يحصوا له عدد مَنْ يلفظ بالإسلام فأحصوا له، فكانوا ألفا وخمسمائة رجل [18].
وفي بعض الروايات: "اكتبوا لي … " [19]، فهو إحصاء يُراد تدوينه وكتابته.
وهو عليه الصلاة والسلام، يقدر التجربة في شؤون الدنيا، ويبني عليها نتائجها، فحين رأى في بعض أمور الزراعة أمرا، وأظهرت النتائج خلافه، قال لهم بكل وضوح: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" [20]. فأنتم المرجع المعتبر في الأمور الفنية والدنيوية التي تحسنونها، دون حاجة إلى الرجوع إلى الوحي [21].
وهو لم يكتفِ بدعوتهم إلى العمل لدنياهم: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [المُلك:15].
بل حثَّهم على أن يحسنوا العمل، ويَبْلُغُوا به درجة الإتقان والإحكام، وجعل ذلك فريضة دينية مكتوبة عليهم، فقال : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" [22].
والإحسان هو: الاتقان الذي يحبه الله، فهو تعالى يحب المحسنين، ويحب من أحدنا إذا عمل عملا أن يتقنه.
ومن توجيهات القرآن الاقتصادية الرائعة: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152، الإسراء:34].
على معنى أن يبحث وليّ اليتيم عن أمثل الطُّرُق للمحافظة على مال اليتيم من جهة، وعلى تثميره وتنميته من جهة أخرى، بحيث يبقى أصله سليما، وتتابع ثمراته باستمرار. وفي هذا يتنافس أهل المعرفة بالمال، والخبرة بالاقتصاد، والعارفون بطُرُق التشغيل والاستثمار. فلو وجدت طريقة أو أكثر لتنمية مال اليتيم، طريقة حسنة، وطريقة أحسن منها، فالقرآن ينهى أن يُقْتَرَب من هذا المال إلا بالطريقة الأحسن والأفضل.
وإنما وصَّى بمال اليتيم خاصة، لأن الناس -بطبيعتهم وفطرتهم- مهتمُّون بتثمير أموالهم الخاصة، وقد يهملون أمر مال اليتيم، فنُبِّهوا عليه، حتى لا يغفلوا عنه.
وتوجيه القرآن العناية إلى حسن استثمار أموال اليتامى، فيه إشارة واضحة إلى العناية بحسن استثمار أموال الأمة كلها، وأن يكون بالطريقة التي هي أحسن وأفضل، في حفظ الأصول، وتنمية الفروع، فالمال هو قوام المعيشة، وعصب الحياة، ونعم المال الصالح للفرد الصالح، وللجماعة الصالحة أيضا.
________________________________________
[1]- رواه أبو داود في الملاحم (4291) عن أبي هريرة، والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم (4/567)، والطبراني في الأوسط (6/324)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1874).
[2]- رواه البخاري في الصلح (2697) عن عائشة، ومسلم في الأقضية (1718)، وأحمد في المسند (26033)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة.
[3]- رواه مسلم في الأقضية (1718) عن عائشة، وأحمد في المسند (25171)، والدارقطني في السنن كتاب عمر (4/227).
[4]- رواه مسلم في الجمعة (867) عن جابر، وأحمد في المسند (14334)، والنسائي في صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه في المقدمة (45).
[5]- سبق تخريجه.
[6]- سبق تخريجه.
[7]- رواه أحمد في المسند (17144) عن العرباض بن سارية، وقال محققوه: حديث صحيح ورجاله ثقات، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676) وقال حديث صحيح، وابن ماجه في المقدمة (43).
[8]- انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للعلامة أبي الحسن الندوي صـ185 دار القلم. الكويت.
[9]- بل عدها بعضهم تسعمائة حمام، ذكر ذلك المقري التلمساني في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/540)، وأكثر من هذا ما ذكره الخطيب في تاريخه: أن حمامات بغداد بلغت ستين ألف حمام (1/117).
[10]- رواه أبو داود في الأدب (4904) عن أنس، وأبو يعلى في المسند (6/365)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة (6/390)، وضعفه الألباني في الجامع الصغير (14381).
[11]- رواه مسلم في الزكاة (1017) عن جرير بن عبد الله، وأحمد في المسند (19200)، والنسائي في الزكاة (2554)، وابن ماجه في المقدمة (203).
[12]- أي بين ستة كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه.
[13]- انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي صـ199.
[14]- انظر: كتابنا (السنة مصدرًا للمعرفة والحضارة) صـ245 – 247 طبعة دار الشروق الثانية.
[15] - انظر: كتابنا"من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا" فصل( تجديد الدين في ضوء السنة) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة ببيروت.
[16] - انظر: المصدر السابق / فصل (الإسلام والتطور).
[17]- كما قال ذلك ابن قدامة في مقدمة كتابة المغني (1/4) طبعة هجر. القاهرة.
[18]- رواه مسلم في الإيمان (149) عن حذيفة، وأحمد في المسند (23259)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (5/276).
[19]- رواه البخاري في الجهاد والسير (3060) عن حذيفة، والبيهقي في الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة (6/363).
[20]- رواه مسلم في الفضائل (2363) عن أنس، وأحمد في المسند (12544)، وابن ماجه في الرهون (2471).
[21] - انظر: كتابنا ( السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) فصل:" السنة التشريعية".
[22]- رواه مسلم في الصيد والذبائح (1955) عن شداد بن أوس، وأحمد في المسند (17113)، وأبو داود في الضحايا (2815)، والترمذي في الديات (1409)، والنسائي في الضحايا (4405)، وابن ماجه في الذبائح (3170).
الباب الثالث
الدِّين والدولة في الإسلام
تناولنا في فصول الباب السابق: علاقة الدين بالسياسة بين الإسلاميين والعلمانيين ومن دار في فلكهم. ونكمل الحديث في هذا الباب عن العلاقة بين الدين والدولة، ولا ريب أن الدولة من تجليات السياسة، ومن أبرز مظاهرها:
1. أنكر العلمانيون على الإسلام أن يكون له دولة، تطبق شريعته، وترفع رايته، وتبلغ دعوته، وتحمي أمته، وتذود عن داره وأرضه. ولذا جعلنا الفصل الأول من هذا الباب بعنوان: من حق الإسلام أن تكون له دولة.
2. كما أنكر هؤلاء على الإسلاميين أن يكون لهم حزب سياسي يعبر عن رؤيتهم، وعن مواقفهم وبرامجمهم في الإصلاح والتغيير، ولا يسوغ أن يعطى الشيوعيون والليبراليون والعلمانيون من شتى الاتجاهات اليمينية واليسارية: حق تكوين الأحزاب، والانخراط فيها، ويحرم الإسلاميون وحدهم هذا الحق. ولهذا جعلنا الفصل الثاني من هذا الباب بعنوان: من حق الإسلاميين أن يعبر عنهم حزب سياسي.
3. كما أن هؤلاء يدعون على دولة الإسلام: أنها دولة دينية، بالمعنى الغربي لها، أي ثيوقراطية كهنوتية يتحكم فيها رجال الدين، ويتسلطون على أهل الأرض باسم السماء، وقد بينا في هذا الفصل (الثالث) أن الدولة في الإسلام دولة (مدنية) مرجعيتها الإسلام.
4. وكذلك أوضحنا أن الدولة الإسلامية كما أنها دولة مدنية، هي كذلك هي دولة شورية، تقوم على الشورى والبيعة والرضا العام، كما تقوم على النصيحة في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي دولة مدنية، ودولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية. وهذا هو مضمون الفصل الرابع.
5. وقد اتهم العلمانيون: الدولة الإسلامية بأنها دولة متعصبة، تجور على حقوق الأقليات، ولا مكان فيها للتعدد والتنوع في الأديان والثقافات، وقد فنّدنا هذه الشبهة بالأدلة الدامغة، وهذا هو الفصل الخامس.
6. أما الفصل السادس فيرد على الزعم القائل بأن الدولة الإسلامية لا تراعي حقوق الإنسان، وهو زعم ترفضه الأدلة، ويرفضه التاريخ.
وهذه فصولنا تتحدث عن نفسها.
يتبع >
__________________