منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الدين والسياسة
الموضوع: الدين والسياسة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2008-11-07, 14:25   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
المثابر120
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية المثابر120
 

 

 
إحصائية العضو










B18

وكذلك سليمان الذي آتاه الله مُلْكا لا ينبغي لأحد من بعده.
وممَّن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكَّنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع مُلكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه.
وممَّن ذكره القرآن: مَلِكة سبأ التي قام مُلْكها على الشورى لا على الاستبداد {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].
وفي مقابل هذا ذم القرآن المُلك الظالم والمتجبر، المسلط على خَلق الله، مثل: مُلك النمروذ، الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك.
ومثل: مُلك فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شِيَعًا، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين.
وبعض الملوك لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم، مثل مَلِك مصر في عهد يوسف، وهو الذي ولَّى يوسف على خزائن الأرض. وإن كان في حديث القرآن عن بعض تصرفاته ما ينبني عن حسن سياسته في مُلكه.
فهذا كله حديث عن السياسة والسياسيين تحت كلمة غير (السياسة).
ومثل ذلك: كلمة (التمكين) كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}(يوسف: 56)، وقوله عن بني إسرائيل{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص:5)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }(الحج:41).
ومثل ذلك: كلمة (الاستخلاف)، وما يشتق منها، مثل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). وقوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (لأعراف:129).
ومثل كلمة (الحُكْم) ومايشتق منها، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:58) وهي الآية التي أدار عليها ابن تيمية نصف كتابه السياسة الشرعية. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (المائدة:49)، وقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي آية:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].

ما ورد عن السياسة في السنة:

على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضمَّن ما اشتقَّ من السياسة، وهو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" [3].
أول استخدام لكلمة سياسة في معنى الولاية والحكم في تراثنا:

وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في مادة (سياسة) [4] قولها: لعل أقدم نص وردت فيه كلمة (السياسة) بالمعنى المتعلِّق بالحكم هو: قول عمرو ابن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمانَ الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير [5].
وهذا مقبول إن كان المقصود كلمة (السياسة) مصدرا. أما المادة نفسها باعتبارها فعلا، فقد وردت كما ذكرناه في الحديث السابق المتفق عليه عن أبي هريرة، وكما وردت بعد ذلك منذ عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، بوصفها فعلا مضارعا.
روى ابن أبي شيبة في مصنفه، والحاكم في مستدركه، عن المستظل ابن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمتُ -ورب الكعبة- متى تهلك العرب! فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول [6].
وكذلك رويت نفس الصيغة (صيغة الفعل المضارع) عن سيدنا علي رضي الله عنه. روى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الجعد في مسنده: قال علي: يا أهل الكوفة! والله لَتَجِدُّنَّ في أمر الله، ولتُقاتِلُنَّ على طاعة الله، أو ليَسُوسَنَّكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم، فليعذبنكم ثم ليعذبنهم [7].
________________________________________
1]- انظر: مادة (سوس) في تاج العروس (4/169) طبعة دار صادر. بيروت.
[2]- انظر: موسوعة العلوم السياسية. إصدار جامعة الكويت صـ102 فقرة (78).
[3]- رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3455) عن أبي هريرة، ومسلم في الإمارة (1842)، وأحمد في المسند (7960)، وابن ماجه في الجهاد (2871).
[4]- الموسوعة الفقهية الكويتية (25/295، 296).
[5]- تاريخ الطبري (5/68) طبعة دار المعارف. القاهرة.
[6]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفضائل (6/410) عن المستظل بن حصين، والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم (4/475)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب (6/69).
[7]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفتن (7/504) عن المستظل بن حصين، ووقع في المصنف (ليسوا منكم) وهو تصحيف، وابن الجعد في مسنده (1/327) بتحقيق عامر أحمد حيدر. وابن الجعد هو علي ابن الجعد بن عبيد، أبو الحسن الجوهري البغدادي.


السياسة عند الفقهاء

وتحدث فقهاء المذاهب المختلفة في كتبهم عن السياسة، بمناسبات شتَّى، وخصوصا عند حديثهم عن التعزير: وهو العقوبة غير المقدرة بالنص.

السياسة عند المالكية والشافعية:

وكان منهم المُوَسِّع في السياسة، والمُضَيِّق فيها، ويبدو أن الشافعية كانوا هم المضيقين في هذا الجانب، أكثر من غيرهم، لأنهم لا يقولون بالمصالح المرسلة. وإن كان الإمام شهاب الدِّين القرافي المالكي (ت684هـ) يذكر في كتابه (تنقيح الفصول): أن كل فقهاء المذاهب قالوا بالمصالح. يقول رحمه الله:
(وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرَّقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب) [1].
وهذا هو التحقيق، فالذي يطالع كتب المذاهب الأخرى يجد فيها عشرات ومئات من المسائل إنما يعللونها بتعليلات مصلحية، وإن كان الحنفية والحنابلة أكثر من الشافعية في ذلك.
ويذكر القرافي: أن إمام الحرمين -عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت478هـ)- قرَّر في كتابه المسمى بـ(الغياثي) أمورا وجوَّزها وأفتى بها -والمالكية بعيدون عنها- وجسر عليها، وقالها للمصلحة المطلقة [2]، وكذلك الغزالي في (شفاء الغليل) مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا -يعني المالكية- في المصلحة المرسلة [3].
وإمام الحرمين والغزالي شافعيان. ولكن المعروف أن الغزالي في (المستصفى) يعتبر المصلحة من (الأصول الموهومة)، وأن شيخه إمام الحرمين يضيق في السياسة الشرعية، ولا يجيز أي زيادة على المنصوص عليه في العقوبات.

تضييق إمام الحرمين في السياسة:

وقد نقل الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب -في تحقيقه لكتاب (الغياثي) لإمام الحرمين والتقديم له، وكتابة دراسة قَيِّمة عنه- ما يوضح موقف الإمام رحمه الله، من قضية التوسع في التعزيرات، كما أجازه آخرون باسم السياسة للردع والزجر. وكان مما نقله عنه قوله: (ومما يتعين الاعتناء به الآن، وهو مقصود الفصل: أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تَسْتَدُّ (من السداد) إلا على رأي مالك رضي الله عنه، وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير.
ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها [4]!
وذهب بعض الجهلة عن غِرة وغباوة: أن ما جرى في صدر الإسلام من التخفيفات، كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد بصفوة الإسلام، وكان يكفي في ردعهم التنبيه اليسير، والمقدار القريب من التعزير، وأما الآن، فقد قست القلوب، وبعدت العهود، ووهنت العقود، وصار متشبث عامة الخَلق الرغبات والرهبات، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات، لما استمرت السياسات) [5].
ويرد ذلك الرأي بعنف، ويدفعه بقوة، قائلا: (وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء، وهو على الحقيقة تسببٌ إلى مضادة ما ابتُعِث به سيد الأنبياء) [6].
ويستمر في تسفيه هذا الرأي قائلا: (وعلى الجملة من ظنَّ أن الشريعة تُتلقى من استصلاح العقلاء، ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة) [7].
ويعود لتأكيد نفس المعنى، فيقول: (وهذه الفنون في رجم الظنون، ولو تسلطت على قواعد الدِّين، لاتخذ كل مَن يرجع إلى مُسكة من عقل فكره شرعا، ولانتحاه ردعًا ومنعًا، فتنتهض هواجس النفوس حالَّة محل الوحي إلى الرسل، ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ فلا يبقى للشرع مستقر وثبات) [8].
ثم يبين السر في هذا الداء، فيقول: (هيهات هيهات. ثقل الاتِّباع على بعض بني الدهر؛ فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد في دين الله أساسا، ولاستصوابه راسا، حتى ينفض مِذرَويه، ويلتفت في عطفيه اختيالاً وشماسًا. فإذا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير) [9].
ثم يصرح بتفشي هذا الداء -مجاوزة الحد في العقوبات- في زمانه، ويجأر بالشكوى، وكأنه يعتذر عن إطالته في هذا الموضوع، فيقول: (وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زمامي، وجاوزت حد الاقتصاد في كلامي، لأني تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور الرجال) [10].
ويرى أن أصحاب السياسات لم يحيطوا فَهما بمحاسن الشريعة، ولذا يزعمون أن التعزير المحطوط عن الحدود لا يزع ولا يدفع، وأن هذا منهم جهل وسوء قصد. قال:
(والذي يبديه أصحاب السياسات أن التعزير المحطوط عن الحد لا يزع ولا يدفع، وغايتهم أن يزيدوا على مواقف الشريعة، ويتعدّوها ليتوصلوا بزعمهم إلى أغراض رأوها في الإيالة ... وإنما ينسل عن ضبط الشرع، من لم يحط بمحاسنه، ولم يطلع على خفاياه ومكامنه، فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة، لألفاها أو خيرًا منها في وضع الشرع ... فهذا مسلك السداد، ومنهج الرشاد والاقتصاد، وما عداه سرف ومجاوزة حد، وغلوٌّ وعتوٌّ) [11].
ولا يفوته في هذا المقام أن يقف في وجه رجال الأمن الذين (يرون ردع أصحاب التهم، قبل إلمامهم بالهنات والسيئات)، ويقول: (إن الشرع لا يرخص في ذلك) [12].
هذا هو رأي إمام الحرمين، في تشديده وتضييقه، وإن كان يخالف ما ذكره القرافي! وهو هنا يمثل فقه الشافعية، وكيف لا، وهو الذي تشير إليه كتب المذهب بـ(الإمام) فإذا قالوا: قال الإمام، فليس غير إمام الحرمين.
وأما مذهب مالك، فقد نقل ابن فرحون في (تبصرة الحكام) عن القرافي قوله: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة، وتشهد له القواعد. ومن أهمها كثرة الفساد وانتشاره، والمصلحة المرسلة التي قال بها مالك وجمع من العلماء [13].
ولا ريب أنَّ أخذ الإمام مالك بالمصلحة المرسلة، واشتهاره بها، وتوسُّعه فيها أكثر من غيره، يجعل له رخصة في مساحة أرحب في التفكير السياسي، والتصرف السياسي، للأئمة والأمراء.
ولهذا نجد الإمام القرافي في كتابه (تنقيح الفصول) حين استدل على شرعية المصلحة المرسلة، اتخذ أمثلته وشواهده، من تصرفات الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدين، وأنهم عملوا أمورا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة أبي بكر للمصحف، ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى (بين ستة)، وتدوين الداواوين، وعمل السِّكة (النقود)، واتخاذ السجن، فعل ذلك عمر رضي الله عنه، وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، فعله عثمان رضي الله عنه [14].
وأيضا ما فعله عمر من اتخاذ تاريخ خاص للمسلمين، إلى سائر (أَوَّلياته) التي عُرف بها. ومثله جمع عثمان الناس على مصحف واحد، وإحراق ما عداه، وتضمين علي للصناع المحترفين، ما بأيديهم من أموال الناس، حتى يثبتوا أنها هلكت بغير إهمال ولا تعدٍّ منهم ... إلخ.
فهذه كلها من أعمال السياسة الشرعية للإمام أو الحاكم قام بها لمقتضى المصلحة للجماعة أو للأمة.
كل ما هو مطلوب هنا: ألا نصادم نصا مُحْكما من نصوص الشرع، ولا قاعدة مقطوعا بها من قواعده.
وربما كان أوسع المذاهب في ذلك مذهب الحنابلة، كما سنرى فيما ذكره الإمام ابن عقيل، وعلَّق عليه الإمام ابن القيم.

السياسة في الفقه الحنفي:

وقد تكلم علماء المذهب الحنفي عن السياسة -أكثر ما تكلموا- عند حديثهم عن حد الزنى، وما ورد فيه من حديث نفي الزاني غير المحصن وتغريبه سنة عن بلده الذي حدثت فيه جريمة الزنى، فقد فسروا هذا التغريب: بأنه نوع من (السياسة) أو التعزير. فلا مانع أن يفعله الإمام أو القاضي النائب عنه للردع والتأديب إذا رأى في ذلك مصلحة، ولم يخشَ من ورائه فتنة. فهو من (السياسة الشرعية) المبرَّرة والمبنية على قواعد الشرع.
وهنا تعرض علماء المذهب بهذه المناسبة للكلام عن السياسة. وقد استوفى ذلك علاّمة المتأخرين ابن عابدين في حاشيته الشهيرة، (رد المحتار على الدر المختار) ونقل فيها عن القُهستانيّ قوله: (السياسة لا تختص بالزنى، بل تجوز في كل جناية، والرأي فيها إلى الإمام -على ما في (الكافي)- كقَتْل مبتدع يُتَوَهَم منه انتشار بدعته وإن لم يُحكم بكفره، كما في (التمهيد)، وهي مصدر: ساس الوالي الرعية: أَمرَهم ونهاهم، كما في (القاموس) وغيره، فالسياسة استصلاح الخَلق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة، فهي من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم، ومن السلاطين والملوك على كل منهم في ظاهره لا غير، ومن العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير، كما في (المفردات) [15] وغيرها) اهـ، ومثله في (الدر المنتقى) [16].
قلتُ: (ابن عابدين) وهذا تعريف للسياسة العامة الصادقة على جميع ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام الشرعية، وتستعمل أخص من ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل، كما قالوا في اللوطي والسارق والخنَّاق: إذا تكرر منهم ذلك حلَّ قتلهم سياسة، وكما مر في المبتدع، ولذا عرَّفها بعضهم: بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسما لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه: أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم يُنَصَّ عليها بخصوصها، فإن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم. ولذا قال في (البحر) [17]: (وظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرِد بذلك الفعل دليل جزئي) اهـ وفي (حاشية مسكين) عن (الحموي): (السياسة شرع مُغَلَّظ، وهي نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تُخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم. وتردع أهل الفساد، وتُوصِل إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع، فمن أراد تفصيلها فعليه بمراجعة كتاب (مُعين الحكام) للقاضي (علاء الدِّين الأسود الطرابلسي الحنفي)) اهـ.
قلتُ: (ابن عابدين) (والظاهر أن السياسة والتَّعزير مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير، كما وقع في (الهداية) و(الزيلعي) وغيرهما، بل اقتصر في (الجوهرة) على تسميته تعزيرا، وسيأتي أن التعزير تأديب دون الحد، من العَزْر بمعنى الرَّد والردع، وأنه يكون بالضرب وغيره، ولا يلزم أن يكون بمقابلة معصية، ولذا يضرب ابن عشر سنين على الصلاة، وكذلك السياسة كما مر في نفي (عمر) لـ (نصر بن حجاج)، فإنه ورد أنه قال لـ (عمر): ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا ذنب لك، وإنما الذنب لي؛ حيث لا أطهر دار الهجرة منك [18]. فقد نفاه؛ لافتتان النساء به، وإن لم يكن بصنعه، فهو فِعلٌ لمصلحة، وهي قطع الافتتان بسببه في دار الهجرة التي هي من أشرف البقاع، ففيه رَد وردع عن منكر واجب الإزالة! وقالوا: إن التعزير موكول إلى رأي الإمام.
فقد ظهر لك بهذا أن باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة، وسيأتي بيانه، وبه عُلِم أن فعل السياسة يكون من القاضي أيضا، والتعبير بالإمام ليس للاحتراز عن القاضي، بل لكونه هو الأصل والقاضي نائب عنه في تنفيذ الأحكام) [19].
ويبدو من كلام فقهاء الحنفية: أن السياسة تتعلَّق بجانب العقوبات والتأديب لا تتعداه. ولذا قالوا: إن السياسة والتعزير مترادفان.
والذي أرجحه: أن السياسة أعم من التعزير، فهي تدخل في أكثر من مجال في شؤون العادات والمعاملات: من الإدارة والاقتصاد والسلم والحرب والعلاقات الاجتماعية والدستورية والدولية وغيرها.
وسنرى أن تعريف الإمام ابن عقيل للسياسة أوسع وأوفى مما ذكره من ذكره من علماء الحنفية وغيرهم. فقد عرف السياسة بأنها: كل تصرف من ولي الأمر يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يأت به الشرع، بشرط ألا يخالف ما جاء به الشرع. وهو ما سنبحث عنه في ما يلي.

دور ابن القيم في توضيح السياسة الشرعية:

والحق أني لم أجد من الفقهاء في تاريخنا، من تكلم عن السياسة الشرعية وشرحها فأحسن شرحها، وكَشَف اللثام عن مفهومها، وبين الفرق بين السياسة العادلة، والسياسة الظالمة، وأن الأولى إنما هي جزء من الشريعة، وليست خارجة عنها، ولا قسيما لها، مثل الإمام ابن القيم (ت751هـ) رحمه الله، في كتابين من كتبه: (إعلام الموقعين) و(الطُّرق الحُكمية). ويحسن بنا أن ننقل كلامه هنا لما فيه من قوة الحجة، ونصاعة البيان، المؤيد بالبرهان.
يقول رحمه الله في (الطُّرق الحُكمية) مُعلِّقا على ما قاله الإمام الحنبلي أبو الوفا ابن عقيل (ت513هـ)، الذي قال عنه ابن تيمية: كان من أذكياء العالم. وكل الذين درسوا ابن عقيل يعلمون أنه رجل بالغ الذكاء، موسوعي المعرفة، حُرُّ التفكير. قال: (قال ابن عقيل في (الفنون): جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم. ولا يخلو من القول به إمام.
فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.
فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.
فإن أردت بقولك: (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح.
وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع: فغلط، وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن. ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف [20]، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق علي رضي الله عنه، الزنادقة في الأخاديد، فقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ..... أججت ناري ودعوت قُنْبرا [21]
ونفي عمر رضي الله عنه لنصر بن حجاج اهـ.

قال ابن القيم مُعلِّقا:
(وهذا موضع مَزَلَّة أقدام، ومَضَلَّة أفهام. وهو مقام ضنك، ومعترك صعب.
فرط فيه طائفة: فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها. وسدوا على نفوسهم طُرُقا صحيحة من طُرُق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا: أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولَعَمْرُ الله! إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نَفَتْ ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم.
والذي أوجب ذلك:
1. نوع تقصير في معرفة الشريعة.
2. وتقصير في معرفة الواقع.
3. وتنزيل أحدهما على الآخر.
فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمر، إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة: أحدثوا من أوضاع سياستهم شرّا طويلا، وفسادا عريضا. فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه، وعزَّ على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك.
وأفرطت طائفة أخرى، قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله وحكم رسوله.
وكلا [22] الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه. فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإن ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان: فثَمَّ شرع الله ودينه. والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طُرُق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيَّن سبحانه بما شرعه من الطُّرُق: أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط: فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدِّين، ليست مخالفة له) اهـ.
وصدق ابن القيم حين بيَّن أن العيب ليس في الشريعة، وإنما في الذين يسدون كل باب لرعاية المصالح، والنظر في المقاصد، والتدبر في المآلات والموازنات والأولويات، ويضيقون على الناس ما وسع الله عليهم، ويضيعون على الأمة مصالح كثيرة بسوء فَهمهم وتزمتهم وجمودهم.
وفي مقابلهم: المفَرّطون المتسيبون الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يتقيدون بنصوص القرآن والسنة، وقد رأينا في عصرنا منهم الكثير، فهم يزينون للأمراء والحكام ما يريدون، ويجعلون الشريعة عجينة لينة في أيديهم، يشكلونها بأهوائهم وأهواء سادتهم، كما يحلو لهم.
والحق بين تضييع هؤلاء، وغلو أولئك.
ونعود لنستكمل مقولة ابن القيم، فهو يقول:
(فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه. ونحن نسميها (سياسة) تبعا لمصطلحكم. وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات.
فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة [23].
وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم.
فمن أطلق كل متهم وحلَّفه وخلَّى سبيله -مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل- فقوله مخالف للسياسة الشرعية.
وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الغالَّ من الغنيمة سهمه، وحرَّق متاعه هو وخلفاؤه من بعده [24].
ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع [25].
وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة [26].
وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها [27].
وقال في تاركي الزكاة: "إنا آخذوها منه وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا" [28].
وأمر بكسر دنان الخمر [29]، وأمر بكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام. ثم نسخ عنهم الكسر، وأمرهم بالغسل [30].
وأمر المرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها) [31] اهـ.
إلى غير ذلك مما ثبت بصحاح الأحاديث. من سياسته صلى الله عليه وسلم.
وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه، فمن ذلك:
أن أبا بكر رضي الله عنه، حرق اللوطية، وأذاقهم حَرَّ النار في الدنيا قبل الآخرة.

يتبع >