منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - كتاب المواقف والأمير عبد القادر الجزائري
عرض مشاركة واحدة
قديم 2008-11-06, 08:21   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الأميرة بديعة الحسني
كبار الشخصيات
 
إحصائية العضو










افتراضي

وكتاب (المقراض الحاد) الذي ألفه الأمير، كما أسلفت، الموثق بخطه وتوقيعه، والذي تُرجم إلى لغات عديدة، أتساءل: لماذا أُهمل واعتُمد كتاب مشكوك فيه، متناقض نصاً وفكراً، كتاب لم يره الأمير في حياته ولم يوصِ به، وهذا موثق أيضاً، فاعتُمد للبحث في فكر الأمير من خلاله؟


وإذا قلتم أن لهؤلاء (القائلين بالحلول والاتحاد) لغة خاصة لا يفهمها إلا أهلها، فهذا صحيح، ولكن الأمير لم يكن منهم، كان رجل مؤمن، تقيٌ صالح، متزن، صافي العقيدة والفكر، جميل المظهر، أنيق الملبس والمسكن وقد عُرف عند الجميع بالأمير عبد القادر، أو السيد أمير العلماء، حفيد رسول الله، أما ثوب الصوفية فقد ألبسوه إياه بعد وفاته بسنين طويلة، ولابنه محمد باشا بالتأكيد باع طويل في ما نُسب إليه لأنه، والله أعلم، كان ينتمي إلى هذا الرعيل من الصوفية، فأحبَّ تكريم والده بعد وفاته، وهو الذي، أي محمد باشا، صمم على دفن والده، بمساعدة الوالي في ذلك الوقت، بقرب ضريح الشيخ محيى الدين بن العربي، مع أن الأمير لم يوصِ بذلك في وصيته المعروفة، والمعروف أنه كان قد اشترى أرضاً في حي الدحداح وسوَّرها ودفن فيها والدته، وجعلها مدفناً خاصاً بعائلته، وهي باقية حتى الآن. وكم كنت أتمنى لو دفنوه إلى جانب والدته ليقف كل من مرّ بقرب ضريحه من سكان دمشق ليقرأ له الفاتحة بخشوع، لروح بطلٍ مجاهد أنقذ مدينتهم من الاحتلال الفرنسي عام 1860، ومنع فرنسا من ضربها لدمشق، وقضى على الفتنة الطائفية في مهدها.


وأعود لكتاب (المواقف) الذي نسبوه إليه وصل الأمر إلى القرآن كلام الله وتبديل كلمة الناس بكلمة العارف، والبحرين بكلمات الشريعة والحقيقة والأمر الذي لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما بوصفهما بالنار المحرقة، الشريعة التي هي النور والهدى ودستور حياة جاء بها القرآن وحياً منزلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفها بالنار الحارقة. وعندما يخاطب الكاتب الحق تعالى فيقول: أنت القديم وأنا القديم، أنت الحادث القديم وأنا الحادث القديم فما الذي تميزت به عني، فقال له: لي قدمك وحدوثي بك...إلخ. فكلمة حادث أي شيء لم يكن له وجود مسبق، والله أعلمنا في القرآن أنه عز وجل خلق السموات والأرض قبل أن يخلق الإنسان، فكيف يصفه الكاتب بالحادث إن كان قديم أو جديد!! والحادث لا بد من وجود من أحدثه، وهل يُعقل مثل هذا الأمر يجهله الأمير، أو من كان في مستواه؟ وسبحانه وتعالى قال في سورة الشورى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب)([1]) أي كما كلّم موسى عليه السلام، فقال لموسى في سورة طه (اذهب إلى فرعون إنه طغى)([2]) فقال موسى عليه السلام بكل أدب وتذلل (ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) صدق الله العظيم.


وخلاصة القول


أن هذه الأقوال في كتاب (المواقف) لا تدخل في دائرة الرموز، وإنما في دائرة الفرق الضالة في الدور الثالث التي خرج بها قديماً عبد الله بن سبأ الذي أسلم، وانتشرت في عهد المأمون الخليفة العباسي حتى كادت تلك الأفكار تهدد أسس العقيدة الإسلامية، ولكن عندما آلت الخلافة إلى المتوكل عام 247 هجرية أمر بإحراق كتب تلك الفرق وعاد الصفاء والتماسك والبساطة المشرقة وعدم الانحراف إلى العقيدة الإسلامية، كما تدفقت من ينبوع النبوة وعهد الخلفاء الراشدين.


ولكن لم يخلُ العالم الإسلامي من ظواهر إفساد العقيدة الإسلامية والتشويش على هذه الشريعة، وأقصد انتشار نظرية شهاب الدين السهروردي الذي حكم عليه علماء الدين الإسلامي بالردة والكفر وقُتل عام 588 هجرية، وقبله كان الحلاج الذي أُهدر دمه وأُحرقت جثته لنفس السبب، وغيرهم.


والشيخ محيي الدين العربي لولا أنه نفى عن نفسه تلك الأفكار التي نُسبت إليه وتبرأ منها لما خرج من مصر سالماً، ومصير الحلاج وشهاب الدين السهروردي معروفٌ.


وكتاب (الفتوحات المكية) ليس فيه أحاديث كاذبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يدّع الشيخ في هذه الفتوحات أنه كلّم الله وقال: الآن عرفتني فاسترني (أستغفر الله العظيم. كما جاء في كتاب ((المواقف)) في الموقف 30([3]). فهل كتاب (المواقف) المذكور ثمين وعظيم يقال أنه يكتب بالنور على نحور الحور، وكتاب جليل؟ ومن أرفع ما كتب في موضوعه!!


ومثال آخر من كتاب المواقف وهو الموقف 265 الذي ذكر الكاتب عن لسان الأمير أنه قال: سألت من الحق إشارة، وهذا الموقف من كتاب المواقف نقله السيد جواد المرابط في كتابه (التصوف والأمير عبد القادر) عام 1966 في دار اليقظة العربية في الصفحة 131.


أيها القارئ الكريم، السبب الذي جعلني على يقين من أن الأمير لم يؤلف كتاب ((المواقف)) هو معرفتي به، رحمه الله، من خلال أحاديث أهلي عنه منذ نشأتي، أهلي الذين عاصروه، كجدي الذي كان أقرب إليه من أكبر أولاده محمد باشا، فكانت معظم أحاديث جدي حول حياة عمه شقيق والده الذي تركه طفلاً بعد وفاة والدته في سجن أمبواز ودفنت هي في حديقة القصر، فعاش تفاصيل حياة عمه الأمير عيد القادر بكل أبعادها في دمشق بحميمية وقرب، ومن شدة محبة الأمير وإعجابه به، زوجه ابنته زينب، أي جدتي رحمها الله، لذلك أقول أن معرفتي بالأمير كأنني من معاصريه. وكم سمعت جدتي زينب تقول: كان والدي يردد أمامنا هذا البيت (عليك بشرع الله فالزم حدوده ....حيثما سار سر وإن وقف قف). وهذا البيت قرأته في كتاب ((المواقف)) الذي نُسب إليه، إنما كان إلى جانبه أبياتاً لا تمت له بصلة مناقضة له، وأيضاً أذكر أنني سمعت أن الأمير رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام بالمدينة المنورة عند مسجد الرسول، فقال له: أنتَ ولدي ومقبول عندي. هذا كل ما سمعته ولا كلمة زيادة.


قال تعالى في سورة الإسراء (لا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)([4]).


لم أسمع عنه أنه كتب كتاباً اسمه ((المواقف))، ولا أنه كان متصوفاً طرقياً مطلقاً، والإجازات التي كان يعطيها هي في كتاب صحيح البخاري، وأنه كان متمسكاً بالسنة ولا يخرج بأقواله وأعماله قيد أنملة عن شرع الله وسنة رسوله. هكذا كان جدي يقول عنه، وكان يقول أن عمي جدكم كانت أوقاته كلها مملوءة إما بالصلاة والتدريس في الجامع الأموي أو دار الحديث النووي وحل مشاكل المهاجرين الجزائريين الذين لحقوا به على دفعات، من تأمين المساكن لهم في دمشق أو شراء مزارع لهم في شيخ مسكين وحوران وفلسطين. والحقيقة كان مسؤولاً عن أربع زوجات وعشرة أولاد ذكور وستة إناث وتأمين حياتهم وطموحاتهم الكثيرة.


كان لديه ديوان أحوال شخصية لهؤلاء المهاجرين يقيد فيه الوفيات والمواليد، وحل النزاعات، وكانت كثيرة.


وأيضاً كان يحاكم من يعتدي على آخر يُوبخ ويُعاقب.


كانت جدتي تقول أن الأمير كان عادلاً ورحيماً، كما كان أثناء رئاسته للدولة في الجزائر وقيادته للجيش الذي أسسه من العدم، ومعاملة الأسرى، وكل شيء كان على هدى القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.



وكان كثير الأسفار، والتنقلات كانت في ذلك الزمن تحتاج إلى ركوب البحر والقطارات، وفي كل سنة كانت له عدد من السفرات، سافر مرتين إلى الأماكن المقدسة وفلسطين وفرنسا سافر إليها مرتين، وإنكلترا وتركيا عدد من المرات لمقابلة السلطان والمدن السورية وحينما يكون حاضراً فدار مضافته لا تخلو يوماً من الزوار من أنحاء البلاد العربية والإسلامية، هذا عدا ما ألزم به نفسه من التدريس في المساجد وقراءة صحيح البخاري ومسلم وموطأ سيدنا مالك والندوات في داره.


فمثل هذا الرجل هل باستطاعته تأليف مجلد ضخم من 1500 صفحة؟ كتاب فكري صوفي؟


كان جدي يقول لي: كنت أحضر معه معظم أعماله ودروسه، ملازماً له أكثر من أولاده الذين بعد أن تزوجوا سكنوا في دور منفصلة، أما أنا فكنت مقيماً معه في نفس الدار حتى بعد زواجي من ابنته جدتك. وكانت دروسه في صحيح البخاري ممتعة جداً لأن هذا الكتاب ثري بالأحاديث الشريفة والتفاسير القرآنية.


وسمعت أيضاً من جدتي أن داره لم تكن تخلو منهم يوماً في شهر رمضان


يفرّ أحياناً من ضوضاء المدينة وزواره الذين لم تكن داره تخل منهم يوماً على طول مدار السنة من بيروت ودمشق للسؤال عن فتوى أو شكوى من الوالي العثماني وطلب التدخل منه، فكان أحياناً يعتذر منهم للذهاب لإعطاء دروسه المعتادة، لذلك كان في شهر رمضان في السنين الأخيرة من حياته يذهب إلى مزرعته في أشرفية صحنايا، يمضي أواخر الشهر في غرفة صغيرة منعزلاً عن الناس،


يسهر الليل على نور شمعة يرتّل القرآن ويصلي وطعامه كان الحليب والتمر.

لم يكن يدخل عليه سوى الخادم الذي كان يقوم على خدمته ،قال أن الأمير كان يسهر الليل يصلي، وينام في النهار. هذا ما أذكر أنني سمعته من أهلي، ولم أسمع أبداً يشهد الله عليّ أنه كان يكتب في خلوته أو ألف كتاباً اسمه ((المواقف)) ولا أنه كان مشغولاً بتأليف كتاب، حتى هوايته المعروفة في كتابة الشعر لم يكن لديه الوقت لها، فطيلة حياته في دمشق لم ينظم سوى قصيدة في مديح دمر التي مطلعها (عج بي فديتك في أباطح دمر...) بمناسبة الانتهاء من بناء قصر دمر الذي شيده في سفح جبل على شواطئ نهر يزيد فوق صخور كانت تحيط بها الأشجار من كل جانب، يقابلها نهر بردى، قصر أشرف على بنائه أشهر المهندسين وتكاليفه كانت من تعويضات دفعها له السلطان العثماني عبد المجيد خان عن القصور التي وهبها له في مدينة بورصة. وقصيدة أخرى كتبها في مكة شطرت قبل وضعها في ديوانه وزيد عليها أبيات لأبي النواس([5])، وغير ذلك، وعدد قليل من الأبيات كان ينظمها في المناسبات لأصحابه شكر أو تعزية.

[1]- سورة الشورى، الآية 51

[2]- سورة طه، الآية 24

[3]- (المواقف)، الموقف 30

[4]- سورة الإسراء، الآية 36

[5]- الأمير عبد القادر، ديوان شعر، تحقيق الدكتور ممدوح حقي









رد مع اقتباس