قول شيخ الإسلام ابن تيمية:(وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ).
/ش/ وقولـه: ((ومن الإيمان بالله… إلخ)): هذا شروعٌ في التفصيل بعد الإجمال، و(من) هنا للتبعيض، والمعنى ومن جملة إيمان أهل السنة والجماعة
بالأصل الأول الذي هو أعظم الأصول وأساسها، وهو الإيمان بالله: أنهم يؤمنون بما وصف به نفسه… إلخ.
وقولـه: ((من غير تحريف)) متعلِّقٌ بالإيمان قبله؛ يعني أنهم يؤمنون بالصفات الإلهية على هذا الوجه الخالي من كل هذه المعاني الباطلة؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والتحريف في الأصل مأخوذ من قولهم: حرفتُ الشيء عن وجهه حرفًا، من باب ضرب؛ إذا أملته وغيرته، والتشديد للمبالغة.
وتحريف الكلام: إمالته عن المعنى المتبادر منه إلى معنى آخر لا يدلُّ عليه اللفظ إلا باحتمال مرجوحٍ، فلا بد فيه من قرينةٍ تبيِّن أنه المراد([1]).
وأما التعطيل؛ فهو مأخوذ من العطل، الذي هو الخلوُّ والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى:
(وَبِئْرٍمُّعَطَّلَة)([2]).
أي: أهملها أهلها، وتركوا وِرْدها.
والمراد به هنا نفي الصفات الإلهية، وإنكار قيامها بذاته تعالى([3]).
([1]) والتحريف يكون في اللفظ والمعنى، أما في اللفظ؛ فمثاله نصب اسم الجلالة بدل رفعه في قوله تعالى : )وَكَلَّمَاللَّهُمُوسَى تَكْلِيمً(، وأما في المعنى؛ فمثاله قولهم: )اسْتَوَى(؛ أي: استولى، ويده؛ أي: قدرته.
([2]) الحج: (45).
([3]) التعطيل قسمان: كلي؛ كما فعل نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة، وجزئي كما فعل الأشاعرة الذين يثبتون سبع صفات فقط، وينفون الباقي
................. .
فالفرق بين التحريف والتعطيل: أن التعطيل نفيٌ للمعنى الحق الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وأمّا التحريف؛ فهو تفسير النصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدلُّ عليها.
والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فإن التعطيل أعمُّ مطلقًا من التحريف؛ بمعنى أنه كلما وجد التحريف؛ وجد التعطيل؛ دون العكس، وبذلك يوجدان معًا فيمن أثبت المعنى الباطل ونفى المعنى الحق، ويوجد التعطيل بدون التحريف فيمن نفي الصفات الواردة في الكتاب والسنة، وزعم أن ظاهرها غير مرادها، ولكنه لم يُعَيِّن لها معنًى آخر، وهو ما يسمونه بالتفويض.
ومن الخطأ القول بأن هذا هو مذهب السَّلف؛ كما نسب ذلك إليهم المتأخرون من الأشاعرة(وسيأتى التعريف بهم ) وغيرهم، فإن السلف لم يكونوا يفوِّضون في علم المعنى، ولا كانوا يقرؤون كلامًا لا يفهمون معناه؛ بل كانوا يفهمون معاني النصوص من الكتاب والسنة، ويثبتونها لله عز وجل، ثم يفوِّضون
فيما وراء ذلك من كُنْهِ الصفات أو كيفيَّاتها([1])؛ كما قال مالك حين سُئِلَ عن كيفية استوائه تعالى على العرش:
((الاستواء معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ))([2]).
([1]) المفوِّضة: هم الذين يُثْبِتُون الصفات، ويفوِّضون علم معانيها إلى الله.
وأهل السنّة والجماعة يُثْبِتُون الصفات وعلم معانيها، ويفوِّضون علم كيفيتها إلى الله تعالى.
ومَن قال: أنا أثبت الصفات وأفوِّضُ علمها إلى الله؛ قلنا لـه: ماذا تعني بعلمها؟ علم المعنى؟ أم علم الكيفية؟
( 2) ذكره البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (515) عن الإمام مالك بإسناد جوَّده الحافظ في ((الفتح)) (13/407).
وورد عن ربيعة الرأي، شيخ مالك. ذكره: البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص516)، واللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (3/398).
وورد أيضًا عن أم سلمة مرفوعًا وموقوفًا.
ولكن قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/365):
((وقد رُوِيَ هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يُعْتَمَدُ عليه)).
وأما قوله:((ومن غير تكييف ولا تمثيل))؛ فالفرق بينهما أن التكييف أن يعتقد أن صفاته تعالى على كيفية كذا،أو يسأل عنها بكيف.
وأما التمثيل؛ فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين.
وليس المراد من قوله: ((من غير تكييف)) أنهم ينفون الكيف مطلقًا؛ فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف؛ إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه.
. يتبع.