أنتم.. وأين ما كنتم.
أحبتي، وخلانيّ
إن في لغتِنا من ألقِ البيان ما يفيض على جنباتها، ليحوّل رونق الحسن على صفحاتها.
وما أفصحه من أعرابي وهو يقول للحسن البصري :
" علّمني دينًا وسوطا، لا ساقطًا سقوطا، ولا ذاهبًا فروطا
ففهمها البصري حين قال له:
" أحسنتَ خير الأمور أوسطها"
ولكن ما لنا أصبحنا الآن تطالعنا جرائد سيارة، وصحف منشّرة.
مضطربة الألفاظ مفككة الأبعاض، منتشرة الأوضاع متباينة الأغراض.
وناهيكَ عن التلفاز، وما يأتي به سوى فهاهة أرجاز .
كلامٌ تنبو عن الإصغاء إليه الطباع، وتمج عن استماعه الأسماع
فسلامٌ على الضاد إن كان هذا كلام، الذي لا يبلغ المرام .
كلامٌ فيه تعسف وتحريف، ولغة كلها هفواتٌ وتخريف.
فويل للعرب، فالهول على لغتهم قد اقترب .
فإذا ضاعت لغتهم فبِمَ يفتخرون؟! فالأحسن لهم أن ينتحرون .
فواعجبًا لأمةٍ أفرادها كلامهم يتسلى به الأخرس عن كلمهِ، ويفرح الأصم بصممه.
ناهيك عن الحكّام فما لبعضٍ منهم بحماة البلاد، ولا هم بحرّاس لغة الضاد .
ومن كان في شكٍّ من قولنا، فدونه و الميدان، إن أراد أن يكون فرس رهان.
فقد قيل :
عند الامتحان، يكرم المرءُ أو يُهان .
ومع ذلك فإنّ الشمس قد تشرق في غير وقتها إذا كان الجوّ ربيعا، والنسيم رائعًا وبديعا.
وإلى حلقات حسين ــ رحمه الله ــ يتواصل الكلام.
طلب منى أن أكتب ما يلي:
"فقال لهم رسول الله ناقةَ الله وسقياها"
وقال لي:
لماذا أتت " ناقة" منصوبة؟ وما وجه نصبها؟
فقلتُ مازحًا: ومن علمكَ أستفيد يا علامة زمانك..
نظر إليّ ــ وكالعادة ذلك المدح لم يحرك فيه ساكناً ــ وقال:
لا أظنك قد نسيتَ ما قرأناه عن اسلوب الإغراء والتحذير؟
ولو كنتَ صاحب حفظٍ ودراية لعرفتَ ذلك.
ولكن لا علينا.
فإن " ناقة" هنا .. ما هي سوى مفعول به منصوب بفعل محذوف تقديره .. أحذروا ..
وكأنّ نبي الله صالح ــ على رسولنا وعليه الصلاة والسلام ــ يقول لقومه : احذروا ناقةَ الله ولا تقتلوها.
إذًا هذا الاسلوب إنما هو أسلوب تحذير.
فكلمة "ناقة" جاءت منفردةً، قائمةً بنفسها، منصوبة بغير ناصب يُرى. فتأول السياق القرآني على أنه هناك فعلٌ محذوف الذي هو " أحذروا" أو ما شابه ذلك من أفعال التحذير.
وكما تكلم أهل العلم عن التحذير فقالوا :
إن التحذير هو أسلوب تنبيه المخاطب على أمرٍ مكروهٍ ليتجنّبه.
وللتحذير هناك عدة صورٌ.
منها أن يذكر المحذَّر منه ظاهرًا دون تكراره أو عطفه على مثيله، ويحذف الفعل جوازًا ــ مثل سياقة الآية التي بين أيدينا.
ما رأيك في الذي قلته.
فضحكتُ وقلتُ : هل لي ما أقول يانابغة زمانك.
فقال لي: أغرب عن وجهي.
ولكني شعرتُ أن في اعماقه بعض الزهو .. يكاد يخفيه.