وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" أَنْجَى اللَّهُ النَّاهِينَ. وَأَمَّا أُولَئِكَ الْكَارِهُونَ لِلذَّنْبِ الَّذِينَ قَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ نَجَوْا لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَارِهِينَ فَأَنْكَرُوا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ "
انتهى من " مجموع الفتاوى " (17/ 382).
فتبين بما سبق أن الله تعالى لم يؤاخذ بالعذاب إلا الظالمين الذين اعتدوا ، أما الذين نهوهم ، والذين لم ينهوهم ولم يقعوا فيما وقعوا فيه، مع بغضهم له وإنكارهم إياه بقلوبهم : فنجوا أجمعون .
فلم يمسخ الله إلا الفرقة الأولى الظالمة ، ونجى من عداهم ، فقول السائل : إن الله لعنهم جميعا ومسخهم جميعا قول غير صحيح .
وأما لعنة الله على اليهود ، فلم تكن بسبب ما فعله أسلافهم
فإن الله تعالى لا يعاقب أحدا بذنبٍ فعله غيرُه .
وإنما لعن الله الأجيال المتلاحقة من اليهود بسبب ما فعلوه من الكفر بالله تعالى ، وعصيانه
كما تدل على ذلك الآيات الواردة في هذا .
قال تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) المائدة/ 78 – 80 .
روى الطبري في تفسيره (10/ 490) عن ابن عباس قال :
" بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة ، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن " .
ففي هذه الآيات : أن لعن هذه الأجيال من بني إسرائيل كان بسبب كفرهم بالله ورسله ، ومعصيتهم لله واعتدائهم ، وعدم تناهيهم عن المنكر ، وتولي الكثير منهم الذين كفروا .
قال السعدي رحمه الله:
" أي : طردوا وأبعدوا عن رحمة الله (عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)
أي: بشهادتهما وإقرارهما، بأن الحجة قد قامت عليهم
وعاندوها. ذَلِكَ الكفر واللعن (بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)
أي: بعصيانهم لله ، وظلمهم لعباد الله ، صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة الله ، فإن للذنوب والظلم عقوبات.
ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات ، وأوقعت بهم العقوبات أنهم : (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ )
أي: كانوا يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضا، فيشترك بذلك المباشر، وغيره الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك.
وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر -مع القدرة- موجبا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة:
منها: أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها: أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها.
ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور
ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلا.
ومنها: أن بترك الإنكار للمنكر يندرس العلم، ويكثر الجهل، فإن المعصية- مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص ، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها - يظن أنها ليست بمعصية
وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة ، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرَّم الله حلالا ؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا ؟ "
ومنها: أن السكوت على معصية العاصين ، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض ، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه ، ومنها ومنها.
فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة ، نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم "
انتهى من "تفسير السعدي" (ص 241) .
وقال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) النساء/: 46 .
وقال عز وجل : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا *
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) النساء/ 155 – 157 .
فهذه الآيات – وغيرها كثير – صريحة في أن الله تعالى لعنهم بسبب كفرهم ومعصيتم لله تعالى ، وليس بسبب ما فعله أسلافهم من المنكر ، فإن الله لا يظلم أحدا ، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
وانظر السؤال القادم
أما من آمن منهم بالله ورسله ، فأولئك مع المؤمنين ، وقد مدحهم الله تعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم
كقوله تعالى : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ *
أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) القصص/52-54 .
انظر السؤال بعد القادم
والله أعلم .