منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - فهرس القرآن وعلومة وتفسير القرآن الكريم
عرض مشاركة واحدة
قديم 2019-01-20, 15:15   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
*عبدالرحمن*
مشرف عـامّ
 
الصورة الرمزية *عبدالرحمن*
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

ثالثًا:

أما الآية التي سألت عنها، فإن الله سبحانه " يخبر عن منته على عباده، وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج؛ بل يسره غاية التيسير، فقال: ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) ؛

أي: ليس على هؤلاء جناح، في ترك الأمور الواجبة، التي تتوقف على واحد منها، وذلك كالجهاد ونحوه، مما يتوقف على بصر الأعمى، أو سلامة الأعرج، أو صحة للمريض،

ولهذا المعنى العام الذي ذكرناه، أطلق الكلام في ذلك، ولم يقيد، كما قيد قوله: ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أي: حرج (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي: بيوت أولادكم، وهذا موافق للحديث الثابت:

(أنت ومالك لأبيك)، والحديث الآخر: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) .

وليس المراد من قوله: (مِنْ بُيُوتِكُمْ) بيت الإنسان نفسه، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، الذي ينزه عنه كلام الله، ولأنه نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم من هؤلاء المذكورين، وأما بيت الإنسان نفسه فليس فيه أدنى توهم .

(أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ) : وهؤلاء معروفون .

(أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) أي: البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة، أو ولاية ونحو ذلك ...

(أَوْ صَدِيقِكُمْ) وهذا الحرج المنفي عن الأكل من هذه البيوت: كل ذلك، إذا كان بدون إذن .

والحكمة فيه معلومة من السياق، فإن هؤلاء المسمَّيْن قد جرت العادة والعرف، بالمسامحة في الأكل منها، لأجل القرابة القريبة، أو التصرف التام، أو الصداقة .

فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة، والشح في الأكل المذكور: لم يجز الأكل، ولم يرتفع الحرج، نظرا للحكمة والمعنى.

وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) فكل ذلك جائز، أكل أهل البيت الواحد جميعا، أو أكل كل واحد منهم وحده . وهذا نفي للحرج، لا نفي للفضيلة؛ وإلا فالأفضل الاجتماع على الطعام.

(فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا) نكرة في سياق الشرط، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره، سواء كان في البيت ساكن أم لا ؛

فإذا دخلها الإنسان: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: فليسلم بعضكم على بعض، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد، من تواددهم، وتراحمهم، وتعاطفهم .

فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت، من غير فرق بين بيت وبيت، والاستئذان تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه .

ثم مدح هذا السلام فقال: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) أي: سلامكم بقولكم: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ، أو : (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) ؛ إذ تدخلون البيوت، (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: قد شرعها لكم

وجعلها تحيتكم، (مُبَارَكَةً)، لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة، (طَيِّبَةً) لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله، الذي فيه طيب نفس للمحيا، ومحبة وجلب مودة.

لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ) الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) عنه فتفهمونها، وتعقلونها بقلوبكم

ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة، فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها، يزيد في العقل، وينمو به اللب، لكون معانيها أجل المعاني، وآدابها أجل الآداب، ولأن الجزاء من جنس العمل

فكلما استعمل عقله، للعقل عن ربه، وللتفكر في آياته التي دعاه إليها، زاده من ذلك... "

انتهى، من " تفسير الشيخ السعدي: (575).

رابعًا:

ونحن نعجز عن بيان بلاغة هذه الآية، وعظيم معانيها، غير أننا سنذكر لك طرفًا من لطائفها، فمن ذلك:

1- نص الله تعالى على نفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض بالتفصيل

لأن الحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو.

ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان: أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجبة.

ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجا وإتماما لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى.

2- وأما مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى، على تقدير أنه منفصل عنه: هو تعلق كليهما بالاستئذان، والدخول للبيوت، سواء كان لغرض الطعام فيها، أو كان للزيارة ونحوها، لاشتراك الكل في رفع الحرج .

وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور، فاقتران الجميع في الحكم: هو الرخصة للجميع في الأكل، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا البيوت للأكل، لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب

وكان التكسب زمانئذ بعمل الأبدان؛ فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم.

3- أنه نص على الصديق، وجعل في مرتبة القرابة، لما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء.

5- أعيدت جملة: (ليس عليكم جناح) تأكيدا للأولى في قوله: (ولا على أنفسكم) إذ الجناح والحرج كالمترادفين. وحسَّنَ هذا التأكيدَ: بُعْدُ ما بين الحال وصاحبها،

وهو واو الجماعة في قوله: (أن تأكلوا من بيوتكم)، ولأجل كونها تأكيدًا، فصلت بلا عطف.

6- وفي قوله سبحانه: (فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون).

تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) [النور: 27]

لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب، فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد، ولا يغرنه قول الناس: إذا استوى الحب سقط الأدب.

7- وفي قوله (فسلموا) ولم يذكر غيرها، لأن لفظ السلام يجمع معنيين: لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة، وتأمين بالسلام، لأنه إذا دعا له بالسلامة، فهو مسالم له، فكان الخبر كناية عن التأمين .

وإذا تحقق الأمران: حصل خير كثير، لأن السلامة لا تجامع شيئا من الشر في ذات السالم، والأمان لا يجامع شيئا من الشر يأتي من قبل المعتدي، فكانت دعاء ترجى إجابته، وعهدا بالأمن يجب الوفاء به. وفي كلمة (عليكم) :

معنى التمكن، أي السلامة مستقرة عليكم.

ولكون كلمة (السلام) جامعة لهذا المعنى، امتن الله على المسلمين بها، بأن جعلها من عند الله؛ إذ هو الذي علمها رسوله بالوحي.

8- وجملة (كذلك يبين الله لكم الآيات) تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان

لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بيانا لآيات القرآن، اتضحت به الأحكام التي تضمنتها، وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم، والعلم بما فيه كمال شأنكم.

يُنظر: التحرير والتنوير: (18/ 299 - 305).

وينظر أيضا ، للفائدة :

"روائع البيان في تفسير آيات الأحكام" (2/ 226 - 228) .

خلاصة الجواب :

تضمن القرآن لأعلى درجات الفصاحة والبيان، ومن ذلك آيات سورة النور ؛ غير أن إدراكها ، والتمرس ببلاغة القرآن ، يحتاج دربة من القارئ ، وإلماما بطرائق العرب في بيانها ، ومعرفة بأساليب البلغاء، وأسرار جمالها .

والله أعلم