منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - استشارات علمية
الموضوع: استشارات علمية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2018-11-06, 14:55   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
*عبدالرحمن*
مشرف عـامّ
 
الصورة الرمزية *عبدالرحمن*
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحكمة في تركيب شهوة المعصية في النفوس

السؤال

هل الله عز وجل يجعل العبد المؤمن مرتبطا أو ضعيفا أمام معصية ما ليظهر له ضعفه؟

الجواب

الحمد لله

إظهار ضعف الإنسان ليس هو الحكمة الأساسية المقصودة لنفسها

ولا المقصد الشرعي القائم بذاته

بل الأمر يراد لما هو أعلى وأسمى، وأقرب إلى الحكمة العامة للخلق كله، وهي حكمة "الابتلاء"، أي صراع الخير والشر، والحق والباطل، ليحق الحق عن عقل وإرادة واختيار

وليُعبد الله عز وجل عبادة حرة كما يحب سبحانه وتعالى، سواء كانت عبادة فعلية بامتثال ما يحبه الله ويرضاه، أم عبادة تركية باجتناب الشر والظلم والفسوق والعصيان

ولكن بعد معالجة نوازع الشر والعصيان المودعة في النفوس، لتكون عبادة حرة حقيقية، تختلف عن عبادة الملائكة الجبلية.

هذه هي الحكمة من خلق الإنسان ضعيفا بين يدي أسباب الهوى والشهوات، كما تلخصها لنا الآية الكريمة

وتلخص الجواب على سؤالك كله -، وهي قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الكهف/7 .

فزينة الأرض كلها وما خلقت عليه من تأثير في قلب الإنسان إنما جعلت لاختبار حسن العمل. وبعبارة أخرى : يمكننا ادعاء أن هذه الحكمة هي أحد سياقات الحكمة من خلق الدنيا كلها

كما قال عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) هود/7. وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2] .

فابتلاء "إحسان العمل" جاء بعد حرف اللام المبينة للحكمة من خلق السماوات والأرض

ولخلق الحياة والموت بجميع تفاصيلها، وهو ما يفسر لنا أيضا قوله سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12]

أي : أن حكمة خلق السماوت والأرضين السبع أن يسلم العباد لله بالوحدانية، ويتوجهوا له بالعبادة، ولكنها العبادة الطوعية الاختيارية

التي يحققها العبد بعد اعتلاج أسباب الخير والشر في نفسه وعقله، ولهذا خلق الإنسان من طين لازب، ومن نطفة أمشاج، قابلة للتغير والتعرض لكل أنواع الهوى والشهوات

وفي الوقت نفسه للعقل والحكمة والعفة،

كما قال عز وجل: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 2، 3]

وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 165]

. وقال عز وجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]

روى الإمام الطبري بسنده في "جامع البيان" (18/440)

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) يقول: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية

والهدى والضلالة، وقوله (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) يقول: وإلينا يردّون فيجازون بأعمالهم، حسنها وسيئها.

فإذا كانت الدنيا خلقت لأجل (الابتلاء والامتحان)، فإن تمام هذا الابتلاء : إنما يكون بأن توجد هذه المعاصي في دار الدنيا

وأن يوجد في هذ الدار : العتاة ، والعصاة ، والدعاة على أبواب جهنم ، الذين يزينون للناس فسقهم وفجورهم.
أليس هؤلاء هم الفتنة نفسها التي يواجهها المؤمنون الصالحون المصلحون ؟!

ومن هنا : يكون التدافع في الأرض، وينشأ من تفاصيل تلك المدافعة جميع الملاحم ، والحوادث الأرضية العظيمة!!
إذن فلا بد أن تقع الشرور الكبار

ويحصل الخير العميم أيضا، كي تستمر حكمة "الابتلاء"، على طريقة "التدافع"، وكي تبقى للدنيا ماهيتها التي وجدت لأجلها أصلا

كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) سبأ/21

كل هذه الآيات تدل على أن " الاختبار " هو السر في خلق الإنسان، وهذا الاختبار يشمل تكليف العبادة أيضا، فمن أدى العبادة - بمفهومها الشامل لكل خير - فقد فاز وربح، ومن قصر خسر بقدر تقصيره.

يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله:

"أخبر سبحانه عن خلق العالم، والموت، والحياة، وتزيين الأرض بما عليها، أنه للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا، فيكون عمله موافقا لمحاب الرب تعالى،

فيوافق الغاية التي خلق هو لها، وخلق لأجلها العالم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته، وهي العمل الأحسن، وهو مواقع محبته ورضاه "

انتهى من " روضة المحبين " (61)

ويقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله

- في تفسير قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56 - :

"التحقيق - إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة (إلا ليعبدون) أي: إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم، أي أختبرهم بالتكاليف، ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .

وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا

وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم. قال تعالى في أول سورة الكهف: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)، فتصريحه -

جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا، يفسر قوله: (ليعبدون). وخير ما يفسر به القرآن - القرآن.

ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا ، وبعثهم ثانيا :

هو جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس: (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)

وقوله في النجم: (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى).

وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يُترك سدى، أي مهملا، لم يُؤمر ولم يُنهَ، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت، أي ويجازيه على عمله،

قال تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى. ألم يك نطفة من مني يمنى) إلى قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)"

انتهى من "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (7/ 445)

وأما إظهار ضعف الإنسان ، بخلق أسباب المعصية والانحراف في قلبه ؛ فالمقصود به أن يدرك العبد حقيقة نفسه بين يدي خالقه ومولاه، وفاقته إليه

وتقصيره في جنبه، فيتخلص من عُجْبِه وخيلائه ، ويرجع إلى رشده ، بسبب ما يستشعره من تلك المعاني، فتكتمل حكمة الابتلاء.

ونحن هنا نستسمح السائل الكريم أن ننقل له كلاما مطولا بعض الشيء

من كلام الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله، يشرح فيه ما ينبغي أن يقوم في قلب المؤمن وعقله ، لفهم ما يجري في الدنيا من سُعار الشبهات

والشهوات، الأمر الذي يوقع الكثيرين في الزلل والمعصية، ولكنْ وراء ذلك حكم جليلة وعظيمة.

يقول رحمه الله

في سياق حديثه عن الحكم في وقوع المعاصي ، ونظر المؤمن لتقديرها :

" السابع : مشهد الحكمة :

وهو أن يشهد حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب، وإقداره عليه، وتهيئته أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه ، وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة ، لا يعلم مجموعها إلا الله:

أحدها: أنه يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها ، قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية : قضى له بالتوبة.









رد مع اقتباس