منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-26, 08:51   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
~أمة الله~
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية ~أمة الله~
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مشهد العجز والضعف
وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه ، وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه ، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يمينا وشمالا ، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج ، ترفعها تارة ، وتخفضها تارة أخرى ، تجري عليه أحكام القدر ، وهو كالآلة طريحا بين يدي وليه ، ملقى ببابه ، واضعا خده على ثرى أعتابه ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما ، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع ، لا يردها عنها إلا الراعي ، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء .
وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه ، من شياطين الإنس والجن ، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلا ، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم ، بل هو نصيب من ظفر به منهم .
وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقا ، ويعرف ربه ، وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور " من عرف نفسه عرف ربه " وليس هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضا "يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك " وفيه ثلاث تأويلات :
أحدها : أن من عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة ، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة ، ومن عرفها بالذل ، عرف ربه بالعز ، ومن عرفها بالجهل ، عرف ربه بالعلم ، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق ، والحمد والثناء ، والمجد والغنى ، والعبد فقير ناقص محتاج ، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله .
التأويل الثاني :أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة ، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به ، فمعطي الكمال أحق بالكمال ، فكيف يكون العبد حيا متكلما سميعا بصيرا مريدا عالما ، يفعل باختياره ، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه ؟ فهذا من أعظم المحال ، بل من جعل العبد متكلما أولى أن يكون هو متكلما ومن جعله حيا عليما سميعا بصيرا فاعلا قادرا ، أولى أن يكون كذلك .
فالتأويل الأول من باب الضد ، وهذا من باب الأولوية .
والتأويل الثالث : أن هذا من باب النفي ، أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك ، فلا تعرف حقيقتها ، ولا ماهيتها ولا كيفيتها ، فكيف تعرف ربك وكيفية صفاته ؟ .
والمقصود : أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف ، فتزول عنه رعونات الدعاوي ، والإضافات إلى نفسه ، ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء ، إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف .









رد مع اقتباس