منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-26, 08:46   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
~أمة الله~
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية ~أمة الله~
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده
وهذا من ألطف المشاهد ، وأخصها بأهل المعرفة ، ولعل سامعه يبادر إلى إنكاره ، ويقول :كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي ؟ ولا سيما ذنوب العبد ومعاصيه ، وهل ذلك إلا منقص للإيمان ، فإنه بإجماع السلف يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية .


فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب والمعاصي منه ومن غيره وإلى ترتب آثارها عليها ، وترتب هذه الآثار عليها علم من أعلام النبوة ، وبرهان من براهين صدق الرسل ، وصحة ما جاءوا به ، فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم ، في معاشهم ومعادهم ، ونهوهم عما فيه فساد ظواهرهم وبواطنهم في المعاش والمعاد ، وأخبروهم عن الله عز وجل أنه يحب كذا وكذا ، ويثيب عليه بكذا وكذا ، وأنه يبغض كيت وكيت ، ويعاقب عليه بكيت وكيت ، وأنه إذا أطيع بما أمر به شكر عليه بالإمداد والزيادة ، والنعم ، في القلوب والأبدان والأموال ، ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها ، وأنه إذا خولف أمره ونهيه ، ترتب عليه من النقص ، والفساد ، والضعف ، والذل والمهانة ، والحقارة ، وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب ، كما قال تعالى{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} وقال {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير } وقال تعالى {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} وقال تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ، والصحيح أنها في الدنيا وفي البرزخ ، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله ، فله من ضيق الصدر ، ونكد العيش ، وكثرة الخوف ، وشدة الحرص والتعب على الدنيا ، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها ، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب ، لسكرته ، وانغماسه في السكر ، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم ، فبادر إلى إزالته بسكر ثان ، فهو هكذا مدة حياته ، وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور ؟ .


فقلوب أهل البدع ، والمعرضين عن القرآن ، وأهل الغفلة عن الله ، وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر ، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} هذا في دورهم الثلاث ، ليس مختصا بالدار الآخرة ، وإن كان تمامه وكماله وظهوره : إنما هو في الدار الآخرة ، وفي البرزخ دون ذلك ، كما قال تعالى {وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك } وقال تعالى{ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون}


وفي هذه الدار دون ما في البرزخ ، ولكن يمنع من الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات ، وطرح ذلك عن القلب ، وعدم التفكر فيه .
والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ، ويقطع التفاته عنه ، ويجعل إقباله على غيره ، لئلا يشعر به جملة ، فلو زال عنه ذلك الالتفات ، لصاح من شدة الألم ، فما الظن بعذاب القلوب وآلامها ؟ ! .

  1. وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارا محبوبة لذيذة طيبة ، لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة ، لا نسبة لها إليها ، وجعل للسيئات والمعاصي آلاما وآثارا مكروهة ، وحزازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة ، قال ابن عباس: “ إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وقوة في البدن ، وزيادة في الرزق ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة سوادا في الوجه ، وظلمة في القلب ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق “ ، وهذا يعرفه صاحب البصيرة ، ويشهده من نفسه ومن غيره .


فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، قال الله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال لخيار خلقه وأصحاب نبيه{أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك }


والمراد بالحسنة والسيئة هنا النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله ، ولهذا قال " ما أصابك " ولم يقل " ما أصبت " .
فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة ، فسببه الذنوب ، ومخالفة أوامر الرب ، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها .
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالم ، لا ينكره ذو عقل سليم ، بل يعرفه المؤمن والكافر ، والبر والفاجر .


وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره ، وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل ، وبالثواب والعقاب ، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم ، ومثوبات وعقوبات عاجلة ، دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة ، كما قال بعض الناس : إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتداركه بالتوبة انتظرت أثره السيئ ، فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت ، يكون هجيراي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته ، فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا ، فجعلت كلما فعلت شيئا من ذلك حصل لك ما قال من المكروه ، لم تزدد إلا علما بصدقه وبصيرة فيه ، وليس هذا لكل أحد ، بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه ، فلا يشهد شيئا من ذلك ولا يشعر به البتة .


وإنما يكون هذا القلب فيه نور الإيمان ، وأهوية الذنوب والمعاصي تعصف فيه ، فهو يشاهد هذا وهذا ، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الأهوية والرياح ، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح ، وتقلب السفينة وتكفئها ولاسيما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح ، فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب ، إذا أريد به الخير ، وإن أريد به غير ذلك فقلبه في واد آخر .


ومتى انفتح هذا الباب للعبد انتفع بمطالعة تاريخ العالم ، وأحوال الأمم ،ومجريات الخلق ، بل انتفع بمجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس وفهم حينئذ معنى قوله تعالى {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} وقوله : {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ، ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط ، وهو عدل الله وقسطه ، وإن أجراه على يد ظالم ، فالمسلط له أعدل العادلين ، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض{ بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار} الآية .


فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات ، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها ، وإلا قهرت القوة الإيمانية ، وكان الهلاك ، كما قال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر ، كما أن الحمى بريد الموت .


فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه ، وتغير القلوب عليه ، وجفولها منه ، وانسداد الأبواب في وجهه ، وتوعر المسالك عليه ، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه . وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتي ؟ ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه ، فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال ، رأى العز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والسرور بعد الحزن ، والأمن بعد الخوف ، والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه ازداد إيمانا مع إيمانه ، فتقوى شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته ، فهذا من الذين قال الله فيهم {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون }


وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه ، وأعطاه حقه : صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها ، فنفعه الله في نفسه ، ونفع به من شاء من خلقه ، والله أعلم .









رد مع اقتباس