منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-26, 08:45   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
~أمة الله~
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية ~أمة الله~
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مشهد الأسماء والصفات

وهو من أجل المشاهد ، وهو أعلى مما قبله وأوسع .
والمطلع على هذا المشهد :معرفة تعلق الوجود خلقا وأمرا بالأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، وارتباطه بها ، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها .


وهذا من أجل المعارف وأشرفها ، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة ، فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال ، وكل صفة لها مقتضى وفعل إما لازم ، وإما متعد ، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه ، وهذا في خلقه وأمره ، وثوابه وعقابه ، كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها .


ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها ، وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال ، وتعطيل الأفعال عن المفعولات ، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله وأفعاله عن صفاته ، وصفاته عن أسمائه ، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته .


وإذا كانت أوصافه صفات كمال ، وأفعاله حكما ومصالح ، وأسماؤه حسنى ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه ، ولهذا ينكر سبحانه على من عطله عن أمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه ، وأن ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه ، وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره ، ولا عظمه حق تعظيمه ، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين ، كالأبرار والفجار ، والمؤمنين والكفار{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به ، تأباه أسماؤه وصفاته ، وقال سبحانه{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} عن هذا الظن والحسبان ، الذي تأباه أسماؤه وصفاته .


ونظائر هذا في القرآن كثيرة ، ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها .
فاسمه الحميد ، المجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملا معطلا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يثاب ولا يعاقب ، وكذلك اسمه الحكيم يأبى ذلك ، وكذلك اسمه الملك واسمه الحي يمنع أن يكون معطلا من الفعل ، بل حقيقة الحياة الفعل ، فكل حي فعال ، وكونه سبحانه خالقا قيوما من موجبات حياته ومقتضياتها ، واسمه السميع البصير يوجب مسموعا ومرئيا ، واسمه الخالق يقتضي مخلوقا ، وكذلك الرازق ، واسمه الملك يقتضي مملكة وتصرفا وتدبيرا ، وإعطاء ومنعا ، وإحسانا وعدلا ، وثوابا وعقابا ، واسم البر والمحسن ، المعطي المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها .


إذا عرف هذا ، فمن أسمائه سبحانه الغفار ، التواب ، العفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ، ولا بد من جناية تغفر ، وتوبة تقبل ، وجرائم يعفى عنها ، ولا بد لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه ، إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم الخالق ، الرازق ، المعطي ، المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع ، وهذه الأسماء كلها حسنى .
والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه ، فهو عفو يحب العفو ، ويحب المغفرة ، ويحب التوبة ، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ، ويحلم عنه ، ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته ، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك ، وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده .
وهو سبحانه الحميد المجيد ، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما .
ومن آثارهما مغفرة الزلات ، وإقالة العثرات ، والعفو عن السيئات ، والمسامحة على الجنايات ، مع كمال القدرة على استيفاء الحق . والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها ، فحلمه بعد علمه ، وعفوه بعد قدرته ، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته ، كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك ، لست كمن يغفر عجزا ، ويسامح جهلا بقدر الحق ، بل أنت عليم بحقك ، قادر على استيفائه ، حكيم في الأخذ به .


فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم ، وفي الأمر ، تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد ، وتقديرها : هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال . وغاياتها أيضا : مقتضى حمده ومجده ، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته .


فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة ، والآيات الباهرة ، والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته ، واستدعاء محبتهم له ، وذكرهم له ، وشكرهم له ، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى ، إذ كل اسم فله تعبد مختص به ، علما ومعرفة وحالا ، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر ، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر ، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم ، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع ، أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم ، أو التعبد بأسماء التودد ، والبر ، واللطف ، والإحسان عن أسماء العدل ، والجبروت ، والعظمة ، والكبرياء ونحو ذلك .


وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله ، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن ، قال الله تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ، ودعاء الثناء ، ودعاء التعبد ، وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ، ويثنوا عليه بها ، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها .
وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته .
فهو عليم يحب كل عليم ، جواد يحب كل جواد ، وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال ، عفو يحب العفو وأهله ، حيي يحب الحياء وأهله ، بر يحب الأبرار ، شكور يحب الشاكرين ، صبور يحب الصابرين ، حليم يحب أهل الحلم ، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة ، والعفو والصفح خلق من يغفر له ، ويتوب عليه ويعفو عنه ، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ، ليترتب عليه المحبوب له المرضي له ، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب .
فربما كان مكروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب
والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع : محبوب يفضي إلى محبوب ، ومكروه يفضي إلى محبوب ، وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه .


والثالث :مكروه يفضي إلى مكروه ، والرابع : محبوب يفضي إلى مكروه ، وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه ، إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق ، ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها لا تكون إلا محبوبة للرب مرضية له . والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له .


فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له ، موصلة إلى الإحسان ، والثواب المحبوب له أيضا . والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له ، موصلة إلى العدل المحبوب له ، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل ، فاجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر ، لما فيهما من كمال الملك والحمد ، وتنوع الثناء ، وكمال القدرة .


فإن قيل : كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه .


قيل :هذا سؤال باطل ، لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، والذي يقدر في الذهن وجوده شيء آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب ، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم بلا علم ، بل قد يكون مبغوضا للرب تعالى لمنافاته حكمته ، فإذا حكم الذهن عليه بأنه محبوب له ، كان نسبة له إلى ما لا يليق به ، ويتعالى عنه .
فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التأمل ، فإنه مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، ولو أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف .
وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كتاب ، أو يستوعبه خطاب ، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة تطلع على ما وراءها ، والله الموفق المعين .









رد مع اقتباس