منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-26, 08:44   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
~أمة الله~
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية ~أمة الله~
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مشهد التوفيق والخذلان

وهو من تمام هذا المشهد وفروعه ، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده وانتفاعه به ، وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك ، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك ، فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه ، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا ، فيطيعه ويرضيه ، ويذكره ويشكره بتوفيقه له ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنهبخذلانه له ، فهو دائر بين توفيقه وخذلانه ، فإن وفقه فبفضله ورحمته ، وإن خذله فبعدله وحكمته ، وهو المحمود على هذا وهذا ، له أتم حمد وأكمله ، ولم يمنع العبد شيئا هو له ، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه ، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله ؟


فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه ، علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس وكل لحظة وطرفة عين ، وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى ، لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرش توحيده ، ولخرت سماء إيمانه على الأرض ، وأن الممسك له هو من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فهِجِّيرَى قلبه ودأب لسانه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك ، ودعواه : يا حي يا قيوم ، يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك .


ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه ، كما يشهد ربوبيته وخلقه ، فيسأله توفيقه مسألة المضطر ، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف ، ويلقي نفسه بين يديه ، طريحا ببابه مستسلما له ، ناكس الرأس بين يديه ، خاضعا ذليلا مستكينا ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ونشورا .

والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد ، بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه ، مريدا له ، محبا له ، مؤثرا له على غيره ، ويبغض إليه ما يسخطه ، ويكرهه إليه ، وهذا مجرد فعله ، والعبد محل له ، قال تعالى{ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له ، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله ، لا يمنعه أهله ، ولا يضعه عند غير أهله ، وذكر هذا عقيب قوله : {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} ثم جاء به بحرف الاستدراك فقال {ولكن الله حبب إليكم الإيمان}.



يقول سبحانه لم تكن محبتكم للإيمان وإرادتكم له ، وتزيينه في قلوبكم منكم ، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك ، فآثرتموه ورضيتموه ، فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي ، ولا تقولوا حتى يقول ، ولا تفعلوا حتى يأمر ، فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم بمصالح عباده منكم ، وأنتم لولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان ، فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم ، ولا تقدمتم به إليها ، فنفوسكم تقصر وتعجز عن ذلك ولا تبلغه ، فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك ولهلكتم وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون ، ولا تظنوا أن نفوسكم تريد لكم الرشد والصلاح كما أردتم الإيمان ، فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم ، وكرهت إليكم ضده لما وقع منكم ، ولا سمحت به أنفسكم .


وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثل : ملك أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا ، وكتب معه إليهم كتابا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب ومجتاحهم ، ومخرب البلد ، ومهلك من فيها ، وأرسل إليهم أموالا ومراكب وزادا وعدة وأدلة ، وقال :ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة ، وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه ثم قال لجماعة من مماليكه :اذهبوا إلى فلان ، فخذوا بيده واحملوه ولا تذروه يقعد ، واذهبوا إلى فلان كذلك وإلى فلان ، وذروا من عداهم ، فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي ، فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم ، فلم يتركوهم يقرون ، بل حملوهم حملا ، وساقوهم سوقا إلى الملك ، فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم ، وأسر من أسر .

فهل يعد الملك ظالما لهؤلاء ، أم عادلا فيهم ؟ نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم ، إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه ، بل ذلك فضله يؤتيه من يشاء .

وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة ، والخذلان بأنه خلق المعصية .

ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم ، وردوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة .

وقابلهم القدرية النفاة ، ففسروا التوفيق بالبيان العام ، والهدى العام ، والتمكن من الطاعة والإقبال عليها ، وتهيئة أسبابها ، وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة ، وتمكن من الإيمان .


فالتوفيق عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين ، إذ الإقدار والتمكين والدلالة والبيان قد عم به الفريقين ، ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم ، والكفار بخذلان امتنع به الإيمان منهم ، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلما .

والتزموا لهذا الأصل لوازم ، قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ، ولم يجدوا بدا من التزامها ، فظهر فساد مذهبهم ، وتناقض قولهم ، لمن أحاط به علما ، وتصوره حق تصوره ، وعلم أنه من أبطل مذهب في العالم وأردئه .

وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فلم يرضوا بطريق هؤلاء ، ولا بطريق هؤلاء ، وشهدوا انحراف الطريقين عن الصراط المستقيم ، فأثبتوا القضاء والقدر ، وعموم مشيئة الله للكائنات ، وأثبتوا الأسباب والحكم ، والغايات والمصالح ، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في ملكه ما لا يشاء ، أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته ، أو أن يكون شيء من أفعالهم واقعا بغير اختياره وبدون مشيئته ، ومن قال ذلك فلم يعرف ربه ، ولم يثبت له كمال الربوبية .

ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح ، وأن يخلق شيئا سدى ، وأن تخلو أفعاله عن حكم بالغة لأجلها أوجدها ، وأسباب بها سببها ، وغايات جعلت طرقا ووسائل إليها ، وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة بالغة ، وتلك الحكمة صفة له قائمة به ، ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر والحكمة في الحقيقة .

فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين ، إلا من حق تتضمنه مقالاتهم ، فإنهم يوافقونهم عليه ، ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى ، ولا يبطلون ما معهم من الحق لما قالوه من الباطل ، فهم شهداء الله على الطوائف ، وأمناؤه عليهم ، حكام بينهم ، حاكمون عليهم ، ولا يحكم عليهم أحد منهم ، يكشفون أحوال الطوائف ، ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعرف الفرق بينه وبين غيره ، ولم يلتبس عليه ، وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته ، ليسوا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا ، بل ممن هم على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه ، ومعرفة بما عند الناس ، والله الموفق .









رد مع اقتباس