منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-26, 08:41   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
~أمة الله~
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية ~أمة الله~
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مشهد التوحيد
وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، وأن الخلق مقهورون تحت قبضته ، وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، فالقلوب بيده ، وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد ، وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها ، وهو الذي هداها وزكاها ، وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، هذا فضله وعطاؤه ، وما فضل الكريم بممنون ، وهذا عدله وقضاؤه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .


قال ابن عباس رضي الله عنه :”الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده .

وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام (إياك نعبد وإياك نستعين ) علما وحالا ،فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية ، ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية ، فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، والهدى والضلال ، والسعادة والشقاء كل ذلك بيد الله لا بيد غيره ، وأنه الذي يقلب القلوب ، ويصرفها كيف يشاء ، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه ، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه ، وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها ، وأرقها وأصفاها ، وأشدها وألينها من اتخذه وحده إلها ومعبودا ، فكان أحب إليه من كل ما سواه ، وأخوف عنده من كل ما سواه ، وأرجى له من كل ما سواه ، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب ، فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان ، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات ، فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه ، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء ، فينساق كل رجاء تبعا لرجائه .

فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب ، والباب الذي دخل إليه منه توحيد الربوبية ، أي باب توحيد الإلهية هو توحيد الربوبية .

فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية ، ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية ، كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر ، ويحتج عليهم به ، ويقررهم به ، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية .

وفي هذا المشهد يتحقق له مقام ( إياك نعبد ) قال الله تعالى {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} أي فأين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله ، وعن عبادته وحده ، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ، ولا خالق سواه ، وكذلك قوله تعالى{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون } فتعلمون أنه إذا كان هو وحده مالك الأرض ومن فيها ، وخالقهم وربهم ومليكهم ، فهو وحده إلههم ومعبودهم ، فكما لا رب لهم غيره ، فهكذا لا إله لهم سواه { قل من ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون** قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه } الآيات ، وهكذا قوله في سورة النمل: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون**أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون }إلى آخر الآيات .

يحتج عليهم بأن من فعل لهم هذا وحده فهو الإله لهم وحده ، فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه ، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلها آخر ؟

ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية أإله مع الله فعل هذا ؟ حتى يتم الدليل ، فلا بد من الجواب بلا ، فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله ، فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه ؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة ، كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقرارهم وشهادتكم .

ومن قال : المعنى هل مع الله إله آخر ؟ من غير أن يكون المعنى " فعل هذا " فقوله ضعيف لوجهين :
أحدهما : أنهم كانوا يقولون : مع الله آلهة أخرى ، ولا ينكرون ذلك .
الثاني : أنه لا يتم الدليل ، ولا يحصل إفحامهم وإقامة الحجة عليهم إلا بهذا التقدير أي فإذا كنتم تقولون : إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله ، فكيف تجعلون معه إلها آخر لا يخلق شيئا وهو عاجز ؟ وهذا كقوله :{أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} وقوله : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وقوله :{أفمن يخلق كمن لا يخلق} وقوله :{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} وقوله :{واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون}وهو كثير في القرآن ، وبه تتم الحجة كما تبين.

والمقصود أن العبد يحصل له هذا في المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب ، وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم ، وأنه لا عاصم من غضبه وأسباب سخطه إلا هو ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته ، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه ، فموارد الأمور كلها منه ، ومصادرها إليه ، وأزمة التوفيق جميعها بيديه فلا مستعان للعباد إلا به ، ولا متكل إلا عليه ، كما قال شعيب خطيب الأنبياء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .










رد مع اقتباس