منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-07-26, 08:37   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
~أمة الله~
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية ~أمة الله~
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة
فأما مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة فمشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ، ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها ، فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية لم تترق عنها إلى درجة الإنسانيةفضلا عن درجة الملائكة ، فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر ، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها .

فمنهم من نفسه كلبية ، لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها ، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ، ولا يسمح لكلب بشيء منها وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق : ميتة أو مذكى ، خبيث أو طيب ، ولا يستحي من قبيح ، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك ، وإن منعته هرك ونبحك .

ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف ، كلما زيد في علفه زيد في كده ، أبكم الحيوان وأقله بصيرة ، ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يحمله معرفة ولا فقها ولا عملا ، ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه ، وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضع ذكرها .
ومنهم من نفسه سبعية غضبية همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته ، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه .
ومنهم من نفسه فأرية فاسق بطبعه مفسد لما جاوره ، تسبيحه بلسان الحال : سبحان من خلقه للفساد .
ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات كالحية والعقرب وغيرهما ، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر والجمل القدر ، والعين وحدها لم تفعل شيئا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب ، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة وهو أعزل من سلاحه فلدغته كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه ، فإما عطب وإما أذى ، ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت ، فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح كالحية إذا قابلت درعا سابغا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف ، فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعا متحصنا لابسا أداة الحرب مواظبا على أوراد التعوذات والتحصينات النبوية التي في القرآن والتي في السنة .

وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام عند الإنسان وفي داره ، أو أنها تحاربه ، وهو كما اعتمدوه ، وقد وقع لنا ولغيرنا من ذلك في المنام وقائع كثيرة فكان تأويلها مطابقا لأقوام على طباع تلك الحيوانات ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرا تنحر فكان من أصيب من المؤمنين بنحر الكفار ، فإن البقر أنفع الحيوانات للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما فيها من السكينة والمنافع والذل بكسر الذال فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية ، والجواميس كبارهم ورؤساؤهم ، رأى عمر بن الخطاب كأن ديكا نقره ثلاث نقرات فكان طعن أبي لؤلؤة له ، والديك رجل أعجمي شرير .


ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها ، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه ، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه ، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله.
ومنهم من هو على طبيعة الطاوس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش وليس وراء ذلك من شيء .
ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان، وأغلظه كبدا .
ومنهم من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث وعلى طبيعة القرد .
وأحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسا ، وأكرمها طبعا وكذلك الغنم ، وكل من ألف ضربا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه ، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى فإن الغاذي شبيه بالمغتذى .
ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما تورث آكلها من شبه نفوسها بها ، والله أعلم .
والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى مثل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك البتة









رد مع اقتباس