منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الحضارة الفارسية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-04-26, 13:48   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
فتاة مميزة
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية فتاة مميزة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

و- إدارة المعركة
1- الحشد
طبَّق الفرس مبدأ الحشد في حروبهم بحيث كانت الوسائل والقوى متناسبة مع أهداف القتال. ويذكر الطبري في مواضع مختلفة من تاريخه أرقامًا لأعداد جيوش الفرس التي أُعِدَّت لهذه الحروب، يَشُكُّ الباحث بصحتها بسبب المبالغة بها، منها قوله: "إنّ الملك ازدشير بهمن "غزا الرومية في ألف ألف مقاتل"(81). بينما يذكر أعداد جيش الفرس بقيادة رستم الذي واجه العرب في القادسية: "إن أهل فارس كانوا عشرين ومائة ألف، معهم ثلاثون فيلاً"(82).
وعرف الفرس أيضًا "النفير العام" في مملكتهم، ولعل هذا النفير كان يطلق عندما كانت تتعرَّض مملكتهم لأخطار دول الجوار مثل الترك والروم والعرب. وكان يشمل الاستنفار قوى فارس وولايات الأطراف. ويذكر الطبري أن سابور "ذا الاكتاف" لما استشعر خطورة الروم باحتلالهم طيسبون "كتب إلى من في الآفاق من جنوده يعلمهم الذي لقي من لليانوس ومن معه من العرب، ويأمر من كان فيهم من القواد، أن يُقْدِمُوا عليه في من قبلهم من جنوده، فلم يلبث أن إجتمعت إليه الجنود من كل أُفُق"(83).

2- نظام الخميس والكراديس
إعتمد الفرس في حروبهم نظام الخميس والكراديس، فقد ذكر الطبري أنّ قائدهم رستم رتّب جيشه يوم القادسية "مقدمة وطلائع ومجنبتين ومجردة ورجالة"(84). وكانت أقسام هذا الجيش تتألف من كراديس وصف مشهدها الطبري بقوله "وتكتّبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء"(85)، أقسام هذا الجيش ونظم كل كردوس في صفوف متنوعة فوقفت الخيالة في الصفوف الأولى يليها الفيلة ثم المشاة.

3- تكتيك الصدم
إستخدم الفرس تكتيك الصدم قديمًا في القرن السادس قبل الميلاد، ويذكر ايريل اموريز ذلك بقوله: "حاول الفرس إنشاء تكتيك حقيقي للصدمة بأن وضعوا في صفوف القتال عربات مسلحة بالمناجل الطويلة، كما إستخدموا الهجَّانة المسلحة"(86) لخرق صفوف العدو وترهيب خيولهم.
وشكَّل سلاح الفيالة في ما بعد دروع جيش فارس في مختلف أقسامه. وكان هذا السلاح حاسمًا في المعركة وقادرًا على إحداث عنصر الصدم الذي وصفه الطبري في عرضه لمعركة القادسية بقوله: "لما تكتّبت الكتائب بعد الطراد، حمل أصحاب الفيلة عليهم، ففرّقت بين الكتائب، فابذعرّت الخيل"(87).

4- مقر القيادة
كان قائد الجيش ملكًا أو من يكلّفه بالقيادة، يجلس على سرير يوضع في قلب الجيش في مكان مناسب، وقد أشار ابن قتيبة إلى ذلك بقوله: "وأن يرتاد للقلب مكانًا مشرفًا ويلتمس وضعه فيه"(88). ويضيف كريستنسن أنه "كان يلتفّ حول هذا العرش فرقة من الجند كان عليها أن تدافع عنه حتى الموت"(89).

5- الكمين
إعتمد الفرس في القتال نظام الكمائن، ويذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار أنه قرأ في "الآيين" وهو كتاب من كتب الفرس، مبادئ الكمين الناجح ويلخصها بما يأتي: "أن ينتخب للكمين من الجند أهل جرأة... وليس بهم أنين ولا سعال، ويختار لهم من الدواب مالا يصهل... ويختار لكمونهم مواضع لا تغشى... وأن يكون إيقاعهم كضريم الحريق..."(90).

6- البيات
هو عمل يهدف إلى الإيقاع بالعدو ليلاً، ويشرح إبن قتيبة ما دوَّنَهُ الفرس في كتاب الأيين تفاصيل عملية البيات فيقول: "ينبغي للمبيتين أن يفترصوا البيات إذا هبَّت ريح... فأنه أجدر ألاّ يُسْمَع لهم حس. وأن يتوخى بالوقعة نصف الليل. وأن يصير جماعة من الجند وسط عسكر العدو وحوله... وليُعْلَم إنما يحتاج في البيات إلى تحيير العدو وإخافته..."(91). ويشير الطبري إلى عملية بيات ناجحة نفذها بهرام ملك الفرس في بلاد الترك لقتل خاقان بقوله: "فسار إلى خاق بهرام في العدة الذين كانوا معه، فبيَّتهُ وقتل خاقان بيده"(92).

7- الأعمال الهندسية
عرف الفرس عمليات الدعم الهندسي في حروبهم، وتنوَّعت أشكالها في عمليات الدفاع والهجوم كافة. ومن أنواع هذا الدعم، عمليات التجسير التي نُفِّذَت لتسهيل عبور الموانع المائية على جسور عائمة على قوارب وفق ما نقل كريستنسن بأن "الجيش الإيراني كان يعبر الزّاب على جسر من القوارب"(93). ويذكر الطبري أن كسرى أنوشروان "أمر بإعادة كل جسر قُطِع أو قنطرة كُسِرَت"(94)، في إشارة إلى أنّ الجسور كانت خشبية وحجرية. ويصف الطبري عملية تجسير ميدانية نُفِّذَت في اثناء عمليات القتال يوم القادسية بقوله :"أراد رستم العبور، أمر بسَكْر العتيق بحيال فارس... فباتوا ليلتهم حتى الصباح يسكِّرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقًا"(95).
ومن الأعمال الهندسية المعروفة لدى فارس "الخنادق"، ويشير الطبري إلى ذلك ما قاله في وصفه لوقعة جلولاء عن تخندق الفرس :"فإحتفروا الخندق... خندقوا وتحصنوا في خندقهم"(96). واستخدم الفرس طريقة جديدة لحمايتهم "باستخدام قنافذ حديدية مربعة الرؤوس تلقى على الأرض لتجرح حوافر الجياد"(97). والواقع أنّ الفرس اتقنوا استخدام هذه "القنافذ"، وزرعوها في حقول منظَّمة، "وأحاطوا بخندقهم الحسك من الخشب إلاّ طُرُقِهم... ورموا حوله حسك الحديد لكي لا يقدم عليهم الخيل"(98).

واستعمل الأكاسرة الموانع الطبيعية لعرقلة تقدم العدو ووقف مسيره فقد كانوا "يفتحون السدود في الأراضي التي يخصبها الري، فيغرق الوادي ويوقف تقدّم العدو"(99).
ويبدو أنه كان في جيوش الفرس وحدات متخصِّصة لتقديم هذا الإسناد الهندسي، إستعملها الأكاسرة في بناء الحصون والقلاع والجسور. ويذكر الطبري وحدة الفعلة التي كلَّفها كسرى بناء حصن المشقَّر بقيادة أحد أساورته حين نصحه: إنّ هؤلاء الفعلة لا يقيمون بهذا الموضوع إلاّ أن تكون معهم نساء فإن فَعَلْتَ ذلك تمّ بناؤك"(100).

رابعاً: التعبئة النفسية والتوجيه المعنوي
تعتبر التعبئة النفسية والتوجيه المعنوي أهم عوامل النصر في الحرب. ومن هذا المنطلق عمل أزدشير على إقامة نظام حربي يجعل من المحاربين طبقة مقرّبة منه، وأقدم على تحريض الأمة بشحنة انفعال "لإحياء الإمبراطورية الشرقية التي قضى عليها الإسكندر"(101)، وحماية حدودها في الشمال والغرب والشرق.
والواقع أنّ ملوك فارس، كما يقول تنسر، "ميّزوا رجال الجيش لأن وظيفتهم القتال، وجعلوهم أعلى درجة من باقي الجماعات، كما ألزموا المهنة أن يؤدوا لرجاله التحية وأن يسجدوا لهم"(102). واتخذ الأكاسرة تدبيرًا إستثنائيًا في إدارتهم قضى بخلع لقب "ملك" على أصحاب المقاطعات التي كانت في موقع اشتباك دائم مع العدو لتمييزهم عن باقي المرازبة، ومكافأة لهم لدفاعهم عن دولتهم، كما هي حال أصحاب الثغور الأربعة وملوك الحيرة وفق ما جاء في كتاب تنسر: "لا يجوز أن يطلق لقب الملك على أحد من غير أهل بيتنا عدا أصحاب الثغور"(103).

وكان كبار القادة في الجيش أحد ركائز تكوين السلطة السياسية في فارس، فقد أعطى القانون حق انتخاب الملك لرؤساء رجال الدين والجيش والكُتّاب. وكان يجري الإنتخاب "بأن الملك كان يكتب ثلاث نسخ بخطِّه ويُسلِّم كل واحدة منها إلى رجل أمين يعتمد عليه، يعطي الأولى إلى رئيس الموابذة والثانية لرئيس الكُتّاب والثالثة إلى كبير الأصبهبذين"(104).
ويبدو أنَّ الاكاسرة كانوا واثقين من جيشهم، وبخاصة سلاح الفرسان والأساورة الذين تلقُّوا تربيتهم العسكرية منذ الصغر، ويبلغ مدى الثقة بقوتهم وولائهم وكفاءتهم وإرتفاع معنوياتهم حين يَعْدُل كسرى "قائدًا من أساورته، يقال له وهرز، بألف أسوار"(105)، أو حين يدوِّن تنسر "بأن ألف رجل منا يغلبون عشرين ألفًا من الأعداء أيًا كانوا"(106).
وكانت معنويات الجيش المرتفعة ترتبط بالنظم والشرائع الفارسية التي سُنّت لتتناسب مع سياسة الدولة الحربية، فنجد أن القانون "يبيح تعدُّد الزوجات ذلك أن المجتمعات الحربية في حاجة ماسة إلى كثرة الأبناء، فالذكور منهم ذوو فائدة اقتصادية لآبائهم وحربية لملوكهم"(107). والواقع أنّ هذه السياسة الإجتماعية ساهمت في تكوين المجتمع الحربي في فارس، فهي تبدأ بتنظيم قواعد الإنجاب وتعليم أولاد الطبقات غير الموسرة على ركوب الخيل والرمي بالقوس، ثم إتمام التدريب في المدارس العليا على "الجري مسافات طويلة، وركوب الخيل الجامحة، وتَحَمُّل جميع تقلبات الجو القاسية، والعيش على الطعام الخشن، السباحة، وعبور الأنهار من دون أن تبتل ملابسهم ودروعهم"(108).
ومن هذا المنطلق تمت تنشئة مجتمع فارسي يعتز بنفسه، ويتعلَّق بوطنه بقيم وفضائل ومناقبية سجَّلها ديورانت مقارَنَةً مع اليونان: "أنّ من العسير علينا أن نجد في تاريخهم فارسيًا قد استؤجر ليحارب الفرس، على حين أنّ أيّ إنسان كان يسعه أن يستأجر اليوناني ليحاربوا اليونان"(109).

خامساً: معاملة الأسرى
تضاربت الأخبار حول القواعد التي اتبعها ملوك الفرس وقادتهم تجاه الأسرى الذين وقعوا بين أيديهم في حروبهم مع الأعداء، فكانت تعتمد أحيانًا النظرة الإنسانية ومروءة الفروسية، وتبلغ أحيانًا أخرى حدود القسوة والعنف والقتل والإبادة.
وفي هذا السياق يحرص تنسر على إعطائنا الصورة الراقية والانسانية لسلوك ملوك الفرس في حروبهم فيقول: "لم يُنْسَبْ قط لملوكنا القتل والغارة والغدر وسوء الخلق، والكفر بالدّين، فإذا خالف هذا ملكان أو قاما لحماية الدّين، فقطعا دابر أصحاب الفساد بالغارة والقتل، فإنهما لم يجيزا استعباد السبايا ولم يتخذاهم أرقاء بل عمّرا بهم المدن"(110).
لقد أفاد الفرس من الأسرى كطاقة منتجة في الدولة بتوظيف خبراتهم الهندسية في البناء، ويشير الطبري إلى أنّ "خماني" إمرأة دارا "حين أغزت بلاد الروم سبي لها منها بشر كثير وحملوا إلى بلادها، فأمرت من فيهم من بنّائي الروم، فبنوا لها في كل موضع من حيز مدينة اصطخر بنيانًا على بناء الروم منيفًا معجبًا..."(111). واشار الطبري أيضًا إلى أنّ سابور "حاصر ملكًا كان بالروم، يقال له اليانوس بمدينة انطاكية، فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه وأسكنهم جندي سابور. وذكر أنه أخذ اليانوس ببناء شاذروان تستر، على أن يجعل عرضه ألف ذراع، فبناه الرومي بقومٍ أشْخَصَهُم إليه من الروم"(112).

وأفاد الفرس من أسرى الحرب في استصلاح الأراضي وزرع البور منها أو الأراضي التي أَخْرَبَها الأعداء، ويشير الطبري إلى أن سابور "أسر قيصرًا من الروم وأبقى عليه من أفْلت من رجاله، فغرس قيصر بالعراق الزيتون بدلاً مما عقره من نخل العراق ولم يكن يعهد بالعراق الزيتون قبل ذلك"(113). ويضيف الطبري "أنه أخذ قيصر بنقل التراب من أرض الروم إلى المدائن وجندي سابور حتى يرم به ما هدم منها".
إعتمدت دولة الفرس سياسة جديدة في التعاطي مع الأسرى نظرًا إلى ازدياد عددهم وحاجة الدولة إلى كفاءاتهم في المجالات الزراعية والصناعية والحربية. وفي هذا الإطار أنشأ الأكاسرة قرى و"مستعمرات" تُنْقَل إليها الأمم وأهل البلاد المهزومة ويتم تنظيمها في وحدات عسكرية يستعملها الفرس في حروبهم. ويشير المسعودي الى أن سابور "غزا بلاد الجزيرة وآمد وغيرها من بلاد الروم، فنقل خلقًا من أهلها وأسكنهم بلاد السوس وتستر وغيرها من كور الأهواز فتناسلوا وقطنوا تلك الديار، فمن ذلك الوقت صار الديباج التستري من أنواع الحرير يعمل بتستر والخز بالسوس..."(114). ويضيف الطبري: "أن كسرى أعظم القتل في أمة يقال لها البارز وأجلى بقيتهم عن بلادهم، وأسكنهم مواضع من بلاد مملكته، وأذعنوا له بالعبودية وإستعان بهم في حروبه. وأمر فأُسِرَتْ أمة أخرى يقال لها صول... وأمر بهم فَقُتِلوا، ما خلا ثمانين رجلاً من كماتهم وإستحياهم وأمر بإنزالهم شهرام فيروز يستعين بهم في حروبه. وإن أمة يقال لها إبخز، وأمة يقال لها بنجر، وأمة يقال لها بلنجر، وأمة يقال لها الاّن تمالئوا على غزو بلاده، وجّه إليهم جنودًا فقاتلوهم وأصطلموهم ما خلا عشرة آلاف منهم أُسِروا، فأُسْكِنوا أذربيجان وما والاها..."(115).

سادساً: المراسم العسكرية
إتبعت فارس، كما هو الحال في الجيوش، نظمًا للمراسم العسكرية، ووضعت قواعد لتكريم الملوك ومكافأة القادة الأبطال ومعاقبة المنهزمين منهم. وقد خُلِّدَت هذه الإحتفالات في النقوش التي عثر عليها وأهمّها "النقوش الساسانية في كردستان شمال قصر شيرين (نقش بايكولي) ومجموعة من الكتابات القصيرة في دربند"(116).
وتحفظ المصادر التاريخية أخبار موكب الملك في أثناء تَحرُّكِه من قصره بمهابة وجلال وقوة، وفي هذا الإطار يصف الجاحظ عُدَّة الملك في خروجه لسفر أو نزهة بقوله: "من حق الملك، إذا خرج لسفر أو نزهة أن لا يفارقه... قيود للعصاة، وسلاح لأعداء وحماة يكونون من ورائه وبين يديه..."(117). ويتوسَّع كريستنسن في وصفه لموكب الملك البرتي بقوله: "إذا سار إلى الريف تبعه ألف جمل تحمل أمتعته، ومائتا عربة تحمل سراريه، ،ألف فارس عليهم الدروع وعدد عظيم من الجند بسلاحهم، إنه يبدو على رأس فرقته يوم المعركة حسن الوجه مديد القامة،... وكان الملك إذا ذهب إلى الصيد أحاط به جماعة كبيرة من حملة الحراب ومن الحرس"(118). ويصف الطبري أيضًا في موضع آخر مشهدًا للمراسم التي تقدم للملك في إستعراضه لحرسه بقوله: "وكان من السُنّة إذا ركب الملك، أن يقف له حرسه سماطين، عليهم الدروع والبيض والترسة والسيوف وبأيديهم الرماح، فإذا حاذى بهم وضع كل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود"(119).

وكانت عروض الجيش العسكرية تقام بمناسبات عديدة ومنها الأعياد، ويشير المسعودي إلى عرض أقيم لأبرويز في بعض الأعياد "وقد صُفَّت له الجيوش والعدد والسلاح، فيما صُفّ له ألف فيل، وقد أحدق به خمسون ألف فارس دون الرجّالة، فلما أبصرت به الفيلة سجدت له فما رفعت رؤوسها وبسطها لخراطيمها حتى جُذِبَت بالمحاجن"(120). وفي هذا السياق يستنتج الباحث ضخامة هذا العرض وأهميته حيث بلغت الأعداد خمسين ألف فارس عدا الرجالة، بينما صف ألف فيل، كما يلفت حسن التنظيم والتدريب حين نجد الفرسان تحدق بالملك والفيلة تسجد له.
وكان ملوك الفرس يستعرضون جيوشهم قبل مسيرهم للحرب لإثارة الحمية والتحريض للقتال، ويشير الطبري إلى أنّ اسفنديار إبن ملك الفرس بشتاسب "تولّى عرض الجند وتمييزهم... ثم سار بهم نحو عساكر الترك"(121).
ومن الأهمية بمكان الإشارة الى استعراض الأكاسرة للوحدات المميزة التي يتكل عليها في المهمات الصعبة، ويشير كريستنسن "أنه كان للفرسان الأرمن الذين يحاربون تحت الراية الإيرانية موضع رعاية خاصة. وكانوا حين يدخلون المدائن.... يستعرض الملك فرقهم"(122).

سابعاً: المكافآت والعقوبات
إعتمدت فارس في إدارة جيوشها نظمًا عسكرية تكافئ المجلّي الذي يساهم في صنع أمجاد الدولة، وتكرّم الرجال الكبار وترفع مراتبهم، كما تُعاقِب المسيء وتُخْفِضُ درجاته. ويشير الجاحظ في "كتاب التاج" إلى نظام منح المكافآت للذين يقدِّمون لفارس بطولات وأعمالاً جليلة، ومن مظاهر ذلك تشريفهم بخلع ملكية فاخرة لأن "من أخلاق الملك أن يخلع على من أدخل عليه سرورًا في توكيد مُلْكِه،... ومن العدل أن يكون معها جائزة وصلة وترتيب، أو ولاية أو إقطاع أو إجراء أرزاق أو فكّ أسير..."(123). ووفق هذا النّظام "تَسَلَّم القائد الأرمني مانويل من الملك سابور الثاني تشريفًا خاصًا خلعة ملكية وفراء من السنور..."(124).
وكان من علامات تمييز القادة منحهم الألقاب وترفيع رتبهم مكافأةً لأعمالهم الباهرة. ويشير الطبري إلى مكانة "مهرنرسي" لدى الملك حين أغزاه بلاد الروم بمهمة "لم يكن يقوم بمثلها إلاّ مهرنرسي... الذي كان معظّمًا عند جميع ملوك فارس... وكان لمهرنرسي ولد أسمه كارد صاحب الجيش الأعظم، واسم مرتبته بالفراسية (أسطران سلار) وهي مرتبة فوق الأصبهبذ"(125).
وكان ملوك الفرس يمنحون مكافآت للفرق المحاربة بعد الظفر تقديرًا لتضحياتها وتشجيعًا لها. ويُروى أنّ أبرويز كافأ فرقة رومية تابعة "لموريق ملك الروم" بعثها لنصرته "بأن فَرَّقَ في جنود الروم عشرين ألف ألف وصرفهم إلى موريق"(126).
وكان من مزايا التكريم زيارة ملوك الفرس رجالهم وتشريفهم، واعتبر الجاحظ هدف الزيارة من أخلاق الملوك "لمن خُصّ بالتكرمة منهم وآثروه المنزلة ورفع المرتبة، فَقَلَّ ملك سأله وزيره أو صاحب جيشه أو أحد عظمائه زيارته إلاّ أجابه إلى ذلك، لا سيما إذا علم أن غرضه في ذلك الزيادة في المرتبة والتنويه بالذكر. وأما زيارة التعظيم فإنها لا تقع بسؤال ولا بإرادة المزور، وهي أفضل درجات الأشراف"(127).
ولكن زيارات الملوك لرجالهم لم تكن فحسب من باب التشريف والتعظيم والتكرمة، فقد كانت ترتدي صورة تفقُّد أنحاء فارس وفرق الجيوش والأساورة "فمن لم يكن له من يسار قوّاه بالدواب والعدّة، وأجرى لهم ما يقوِّيهم"(128). وكانت ترافق هذه الزيارات إجراءات تعظيم وتكريم للملك ولمن يزورون، فكانت "توغر ضياعه وتوسم خيله... ويأتيه خليفة صاحب الشرطة في كل يوم مع ثلاثمائة راكب ومئة راجل، فإن رَكِبَ كانت الرجالة مشاة أمامه والرُكْبَان خلفه"(129).

وكانت الإحتفالات العامة بمناسبة انتصار الجيوش قيمة معنوية يستحقها الملك وخاصته ومكافأة لفرق الجيش وقادتها. فإذا ما أتى الملك خبرًا بالنصر والظفر، "أمر أن يُتَّخَذ له طعام... وأمر الخاصة والعامة بالحضور، وقامت الخطباء أولاً بالتهنئة له والتحميد لله تعإلى بالفتح عليه والنصر له. ثم قام الموبذ فتكلَّم، ثم الوزراء، ثم مدَّ الناس أيديهم إلى الأطعمة ..."(130).
وتبلغ نشوة انتصار الجيوش وعظمة مناسبتها، أن يُخَلِّد ملوك الفرس صور حروبهم وثمرة ظفرهم في لوحات تمثل حفلة استسلام القادة الرومان في استعراض استوحى كريستنسن تفاصيله "من نقش بغرب مدينة سابور يمثل انتصار ملك إيران، ويبدو سابور ممتطيًا جوادًا... وأمامه الأمبراطور راكعًا، وعلى اليمين واليسار وقف الفرسان والمشاة الإيرانيون في صفين متقابلين وهم يمثلون الفرق الحربية لمختلف الشعوب بأسلحتهم المتفاوتة"(131).
وبالمقابل، لم تغفل النظم الإيرانية التي شرعت لمنح المكافآت للقادة والفرق العسكرية، أن تسنَّ القوانين لمعاقبة الخائن أو الفاشل والمهزوم منهم. وكان للملوك الساسانيين شغف بالعدالة، كما يقول أزدشير: "يجب على الملك أن يكون فائض العدل فإن في العدل جماع الخير وهو الحصن الحصين من زوال المُلْك"(132). ومن هذا المنطلق إهتم الأكاسرة بتنظيم القضاء واشترطوا على من يكون في منصب القاضي الإحاطة بعلوم المعرفة بالعلم والدين والشريعة، "فالموبذان وهو القيم بأمور الدين ومعناه قاضي القضاة، وهو رئيس الهرابذة ومعناهم القوام بأمور الدين والقضاة والمتصرفون بالأحكام"(133).
وكان القضاء العسكري يشكِّل فرعًا من القضاء، ويشير كريستنسن إلى أن القضاء العسكري "نيط بقاضٍ خاص هو سپادادور"(134)، ثم يضيف القول بوجود محكمة عليا تتألف من "المجلس الأعلى، أي جمعية العظماء رئيسها الموبدان موبد، وهي المحكمة التي يظهر أن لها ولاية القضاء في جرائم الخيانة العظمى".

ويبدو أن القضاء العسكري كان محيطًا وجامعًا لقواعد الضبط والربط والتراتبية العسكرية ومرجعًا للعدالة ورادعًا لمن تخوّله نفسه مخالفته. وفي هذا الإطار يفرض القانون على رجال الجيش "أن يحترموا أهل الدرجات، وأن يحترموا بعضهم بعضًا وأن يحتشموا، إذ لو ألقي الحبل للناس على الغارب، لإتبع كل منهم هواه"(135).
ويفرض قانون القضاء العسكري عقوبات زاجرة على من يرتكب جرائم العصيان والخيانة والغش، ويجعل تنسر "الجريمة بين الفرد والملك حين يعصى أو يخون أو يغش، وكان كل من يعصى الملوك أو يفر من القتال لا يأمن على حياته أبدًا. وسنَّ الملك تشريعًا جديدًا هو أن يؤخذ من هذه الطائفة بعضهم ويقتل لإحداث الرهبة حتى يعتبر به الآخرون"(136). ولعل أوضح الأحكام ما نفذ بحق القائد الفارسي "بهرام بجوبين" الذي "حمل الى هرمز من الأموال والسلاح" بعد إنتصاره على ملك الترك ثم فراره الى الترك خوفًا من هرمز نفسه، وقد نُفِّذ حكم الموت بحق بهرام بمؤامرة نفذتها خاتون إمرأة ملك الترك، دسَّت لبهرام مَنْ قَتَلَهُ"(137). وهناك حُكْمٌ آخر فرض بحق القادة المهزومين حين "كتب كسرى الى قواد الجند الذين إنهزموا أمام هرقل ملك الروم، يأمرهم أن يَدُلُّوه على كل رجل منهم ومن أصحابهم ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فأحرجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه وطلب الخيل لنجاة أنفسهم"(138)، ويتضح من هذه الرواية معرفة القادة بقساوة العقاب وخوفهم على مصيرهم وعلمهم بقرب حتفهم نتيجة للخيانة والتقصير.

ثامناً: الاعلام والرايات
إتخذ الفرس علمًا عظيمًا لدولتهم وشعارًا لسلطانهم وصفه الطبري "بالعلم الأكبر الذي كان يسمونه درفش كابيان"(139). ويروي المسعودي أسطورة تؤرخ لإتخاذ هذا العلم بقوله: "إنّه من جلد يأتزر به حداد إسمه كاوك، رَفَعَهُ على رمح معلنًا الثورة بوجه طاغية فارسي إسمه الضحاك، وأصبح هذا العلم الذي أخذ من فوطة كاوه علمًا لملوك إيران"(140). ويصف المسعودي هذا العلم بدقة بقوله: "كانت راية الفرس من جلود النمور طولها إثنا عشر ذراعًا في عرض ثمانية أذرع. وكانت الراية العظمى مرصّعة بالياقوت واللؤلؤ وأنواع الجواهر"(141). وكان "درفش كابيان" يرفع حين كان يخوض الجيش معارك فاصلة، أو تدهم فارس أمور كبيرة تستدعي خروج الملك على رأس جيشه، أو يوكل قيادته إلى أحد أبنائه، إلاّ أنّ الطبري يشير إلى وجود هذه الراية عندما كان هذا الجيش بقيادة أحد القواد الفرس الصناديد "جوذرز" منذ عصر الملك كيخسرو حين "دفع إليه العلم الأكبر... وزعموا أن ذلك العلم لم يكن دفعه إلى أحد من القواد قبل ذلك، وإنما كانوا يسيِّرونه مع أولاد الملوك إذا وجَّهُوهم في الأمور العظام"(142). وفي "القادسية"، نجد يزدجرد يرسل قائده رستم لمواجهة المسلمين ويخاطبه: "أنت رجل أهل فارس اليوم، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يَأْتِهم مثله منذ ولي أزدشير"(143).










رد مع اقتباس