الشبهة الثالثة عشر :
قال النسفي في قوله تعالى : ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))]الملك16[ أي :من ملكوته في السماء,لأنها مسكن ملائكته,ومنها منزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه,فكأنما قال :أأمنتم خالق السماء وملكه,أو لاأنهم]المشركين[ كانوا يعتقدون التشبيه ,وأنه في السماء,وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه ,فقيل لهم على حسب اعتقادهم : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان))(1).
والجواب عليه :
هذا تحريف لكتاب الله تعالى,فقد حرّف هذه الآية بتحريفين فاضحين
أما التحريف الأول : فهو تأويل قوله تعالى : ((مَنْ فِي السَّمَاءِ)) بمن ملكوته في السماء,يعني أن الله تعالى ليس في السماء بل ملكوته في السماء ,وهذا تحريف محض ,لأنه خارج عن لغة العرب ولا يقتضيه سياق هذه الآية ألبتة ,فإن كلمة((من)) اسم موصول بممعنى(الذي)والمراد هو الله تعالى وكلمة(في) بمعنى(على) و(السماء) هو(العلو) فكل ما علا فهو سماء,فكلمة(في) ليست للظرفية,و((السماء)) ليس المراد منها الفلك والجسم,بل المراد جهة العلو.
فمعنى هذه الآية الكريمة عند سلف هذه الأمة وأئمة السنة : أما تخافون الله الذي هو على السماء العالي على خلقه وفوق عباده أن يرسل عليكم حاصبا ,وأن يخسف بكم الأرض.
ثم سياق هذه الآية وكلمة(من) الموصولة,وكلمة(يرسل)وكلمة(يخسف )مع كثرة تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفطرة جميع بني آدم عليها كلها تدل دلالة قاطعة على أن تأويل النسفي لهذه الآية تحريف وهمي,كما تدل على أن الصحيح الحق الصريح هو أن الله تعالى في جهة العلو فوق العالم عال على خلقه أجمعين.
وأما التحريف الثاني : وهو قول النسفي : إن هذه الآية محمولة على زعم المشركين من المشبهة : أن الله تعالى فوق السماء,فقال الله تعالى لهم :أنتم أيها المشركون المشبهون تعتقدون أن الله تعالى في السماء,فلم لا تخافونه.
أقول(2) :قصد النسفي أن عقيدة كون الله تعالى في السماء ,من العقائد الفاسدة للمشبهة المشركين,وليست هذه العقيدة من العقائد الصحيحة للموحدين المسلمين !!.
وانظر أيها المسلم كيف حرف المصنف معنى هذه الآية !! حتى جعل العقيدة السلفية-أي العلو لله تعالى-عقيدة للمشبهة والمشركين,فقد حكم على عقيدة جميع الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وأئئمة هذا الدين-وهي عقيدة علو الله تعالى على خلقه-بأنها عقيدة المشبهة والمشركين.
وقد رد عليه العلامة الألوسي المفسر حيث قال :
((وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء,فكأنه قيل :أأمنتم من تزعمون أنه في السماء,وهو متعال عن المكان !! وهذا في غاية السخافة ,فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض الجهلة,كما لا يخفى على المنصف))(3)
ثم ذكر الألوسي عدة نصوص لأئمة الإسلام على إقرار الصفات لله تعالى ولا سيما صفة العلو له تعالى,وقال((وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى)).
أقول(4) : يعني الألوسي :أن معنى الآية عند السلف أأمنتم الله الذي في السماء أي في العلو,بأن المراد من قوله(من)هو الله تعالى لا غير.
ثم قال الألوسي أيضا ((وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب ,وتأويله بما أوّلَ به الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب))(5).
وهذا كلام في غاية الإنصاف لمن فهمه(6).(أ)
وهذه جملة من تفسيرات العلماء للآية :
- قال محمد بن يزيد المبرد (286 هـ) في كتابه المقتضب: (والسؤال عن كل ما يعقل بـ"مَن" كما قال عز وجل: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض}. فـ"مَن" لله عز وجل)
- قال الطبري (310 هـ) في تفسيره : {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وهو الله.
- قال ابن أبي زَمَنِين (399هـ) في تفسيره : {من في السماء} يعني نفسه.
قال أبو بكر محمد الصبغي (342 هـ) : (قد تضع العرب «في» بموضع «على» قال الله عز وجل: {فسيحوا في الأرض}، وقال {لأصلبنكم في جذوع النخل} ومعناه: على الأرض وعلى النخل ، فكذلك قوله: {في السماء} أي على العرش فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم) الاسماء و الصفات للبيهقي
قال البيهقي في الأسماء والصفات (2 :165): « ومعنى قوله في هذه الأخبار "من في السماء" أي فوق السماء على العرش كما نطق به الكتاب والسنة ».
قال أبو مظفر السمعاني (489 هـ) في تفسير الآية: أأمنتم ربكم.
بل وقد قال ابن فورك الأشعري: « إعلم أنه ليس يُنكر قولُ من قال: إنّ الله في السماء. لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به، وهو قوله: ) أأمنتم من في السماء( ومعنى ذلك أنه فوق السماء » [مشكل الحديث وبيانه 392 ط: دار عالم الكتب].
---------------
(1)مدارك التنزيل وحقائق التأويل (4/22) للنسفي.
(2)الكلام لصاحب كتاب(الكلمات الحسان في بيان علو الرحمان) للشيخ عبد الهادي بن حسن وهبي.
(3)روح المعاني(29/15).
(4) والكلام للشيخ عبد الهادي بن حسن وهبي.
(5)التنبيهات السنية(108-111).
(6)بيان تلبيس الجهمية(2/75).
(أ) إلى هنا ينتهي النقل من كتاب(الكلمات الحسان في بيان علو الرحمان).