الشبهة الحادية عشر :
قال الجويني : ((فإن استدلوا-يعني أهل السنة-بظاهر قوله تعالى(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)]طه5[ فالوجه معارضتهم بآي يساعدونا على تأويلها : منها قوله تعالى((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))]الحديد4[ ...فنسألهم عن معنى ذلك ,فإن حملوه على كونه معنا بالإحاطة والعلم ,لم يمتنع حمل الاستواء على القهر والغلبة))(1)
والجواب عليه :
قال ابن قدامة رحمه الله : قلنا نحن لم نتأول شيئا وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقة كان أو مجازا ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية المجاز دون الحقيقة كاسم الراوية و الظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلا يحتاج إلى دليل وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعي وحقيقة لغوية كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج إنما ظاهرها العرف الشرعي دون الحقيقة اللغوية.
وإذا تقرر هذا فالمتبادر إلى الفهم من قولهم الله معك أي بالحفظ و الكلاءة ولذلك قال الله تعالى فيما أخبر عن نبيه إذ يقول لصاحبه(( لا تحزن إن الله معنا التوبة)) 40 وقال لموسى(( إنني معكما أسمع وأرى)) طه 46 ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم ولم يكن ذلك موجبا لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له
فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه فلم يكن تأويلا ثم لو كان تأويلا فما نحن تأولنا وإنما السلف رحمة الله عليهم الذي ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه فإن ابن عباس والضحاك ومالكا وسفيان وكثيرا من العلماء قالوا في قوله وهو معكم أي علمه ثم قد ثبت بكتاب الله والمتواتر عن رسول الله وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها وهو قوله(( ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ))(المجادلة 7) ثم قال في آخرها ((إن الله بكل شيء عليم)) فبدأها بالعلم وختمها به ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم و أنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه.
وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم فقد اتفق فيها هذه القرائن ودلالة الأخبار على معناها ومقالة السلف وتأويلهم فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى(2)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ((ولا يحسب الحاسب أنَّ شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر من قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وقوله صلى الله عليه وسلم: (( إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبل وجهه)) ونحو ذلك فإن هذا غلط، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة؛ كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأََرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .
فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) .
وذلك أن كلمة "مَعَ" في اللغة إذا أُطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين وشمال، فإذا قُيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك؛ فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.
هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [15] دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم. وهذا معنى قول السلف: أنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [16].
ولما قال النبي لصاحبه في الغار: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [17] كان هذا أيضا حقًا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع، والنصر والتأييد.
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} وكذلك قوله لموسى وهارون: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي، فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف أنا معك أو أنا هنا، أو أنا حاضر ونحو ذلك. ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فيختلف باختلاف المواضع.
فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فأما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها وإن امتاز كل موضع بخاصية فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها.))(3)
((فبهذا الجمع والتوفيق بين نصوص العلو، وبين نصوص المعية تلتئم النصوص، وتنسجم، وتفسر بعضها بعضاً، لا تتنافر ولا تتضارب، ولله الحمد والمنة))(4).
وهذا الذي كان عليه سلف الأمة من أهل القرون المفضلة
قال الحافظ ابن عبد البر - وهو يناقش نفاة العلو-: "وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله"(5).
قال الشيخ محمد أمان جامي رحمه الله : ((وهذا الكلام من ابن عبد البر لا يعني إلا الإجماع، وإذا أضفناه إلى ما تقدم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكلام تلميذه ابن القيم، وكلام من نقلنا كلامهم من الأئمة والعلماء، إن مجموع ذلك يفيد ضرورة أن هذا المفهوم هو المفهوم الوحيد الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل أن تظهر فرق أهل الكلام التي فرقت المسلمين بآرائها وفلسفتها، ولقد كان المسلمون في عافية من شرهم.))(6)
وقال ابن رجب الحنبلي((وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أن المراد علمه، وكل هذا قصدوا به رد قول من قال إنه تعالى بذاته في كل مكان"7
يتبع.........
(1)الإرشاد للجويني(ص113-114).
(2)ذم التأويل(ص45-46).
(3)مجموع الفتاوى(5/231)
(4)الصفات الإلهية في الكتاب والسنة للعلامة محمد أمان جامي رحمه الله.
(5) التمهيد 7/139.
(6) الصفات الإلهية للشيخ محمد أمان جامي رحمه الله.
(7) فتح الباري لابن رجب 2/331-332.