الشبهة الخامسة : قولهم : لو كان الخالق فوق العرش لكان حامل العرش حاملا لمن فوق العرش فيلزم احتياج الخالق للمخلوق.
والرد على هذه الشبهة السفسوطائية من أوجه :
الأول : هؤلاء النفاة كثيرا ما يتكلمون بالأوهام والخيالات الفاسدة ويصفون الله بالنقائص ولآفات ويمثلونه بالمخلوقات بل بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات فكل ما يضيفونه إلى أهل الإثبات الذين يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص والعيوب وأن يكون له في شيء من صفاته كفو أو سمي فما يضيفونه إلى هؤلاء من زعمهم أنهم يحكمون بموجب الوهم والخيال الفاسد أو أنهم يصفون الله بالنقائص والعيوب أو أنهم يشبهونه بالمخلوقات هو بهم أخلق وهو بهم أعلق وهم به أحق فإنك لا تجد أحدا سلب الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال إلا وقوله يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك من النقائص والعيوب ولمثيله بالمخلوقات وتجده قد توهم وتخيل أوهاما وخيالات فاسدة غير مطابقة بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش محتاجا إلى العرش كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجا إلى كرسيه(1),وكما يحتاج الإنسان إلى السطح أوالسرير .وهذا(تشبيه له بالمخلوق الضعيف العاجز الفقير))(2)وقياس فاسد لأن((قياس الله الخالق لكل شيء الغني عن كل شيء الصمد الذي يفتقر إليه كل شيء بالمخلوقات الضعيفة المحتاجة عدل لها برب العالمين ومن عدلها برب العالمين فإنه في ضلال مبين))(3)
وهؤلاء الجهمية دائما يشركون بالله ,ويعدلون به,ويضربون له الأمثال(4).فإنه كلامهم هذا وأمثاله عدل بالله,وإشراك به,وجعل أنداد له ,وضرب أمثال له :فكلامهم في علو الله يوجب لهم أنهم جعلوا مثل هذا العلو : يجمع من التمثيل لله والعدل به ابتداءا,ومن جحد علوه المستلزم لجحود ذاته انتهاءا,ظانين أن هذا تنزيه لله وتقديس.(5)
أولا يعلمون أن الله يحب أن نثبت له صفات الكمال وننفي عنه مماثلة المخلوقات وأنه { ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله فلا بد من تنزيهه عن النقائص والآفات ومماثلة شيء من المخلوقات وذلك يستلزم إثبات صفات الكمال والتمام التي ليس فيها كفو لذي الجلال والإكرام
وبيان ذلك هنا أن الله مستغن عن كل ما سواه وهو خالق كل مخلوق ولم يصر عاليا على الخلق بشيء من المخلوقات بل هو سبحانه خلق المخلوقات وهو بنفسه عال عليها لا يفتقر في علوه عليها إلى شيء منها كما يفتقر المخلوق إلى ما يعلو عليه من المخلوقات وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش ولحملة العرش فإنما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق المخلوق حمل ما شاء أن يحمله من عظمته وغيرها فهو بقوته وقدرته الحامل للحامل والمحمول فكيف يكون مفتقرا إلى شيء وأيضا فالمحمول من العباد بشيء عال لو سقط ذلك العالي سقط هو والله أغنى وأجل وأعظم من أن يوصف بشيء من ذلك(6)
قال ابن القيم رحمه الله : ((واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجا إلى ما يحمله أو يستوي عليه بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه فهو الغنى عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى بل كان سبحانه ولا عرش ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرض ولا غيره بوجه ما))(7)
وهو السلام على الحقيقة سالم***من كل نقص وتمثيل (8)
الوجه الثاني :لا نسلم أن من حمل العرش يجب أن يحمل ما فوقه إلا أن يكون ما فوقه معتمدا عليه,وإلا فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها,وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها, والسماء فوق الأرض وليست محتاجة إليها وكذلك العرش فوق السموات وليس محتاجا إليها فإذا كان كثير من الأمور العالية فوق غيرها ليس محتاجا إليها فكيف يجب أن يكون خالق الخلق الغني الصمد محتاجا إلى ما هو عال عليه وهو فوقه مع أنه هو خالقه وربه ومليكه وذلك المخلوق بعض مخلوقاته مفتقر في كل أموره إليه فإذا كان المخلوق إذا علا على كل شيء غني عنه لم يجب أن يكون محتاجا إليه فكيف يجب على الرب إذا علا على كل شيء من مخلوقاته وذلك الشيء مفتقر إليه أن يكون الله محتاجا إليه؟!))(9).
---------
(1)دراء تعارض العقل والنقل(7/19).
(2) بيان تلبيس الجهمية(2/126).
(3) بيان تلبيس الجهمية(2/125).
(4)بيان تلبيس الجهمية-2/126).
(5)بيان تلبيس الجهمية(2/283) بتصرف يسير.
(6)درء التعارض(7/19-20).
(7) بدائع الفوائد(2/136).
(8)الكافية الشافية(ص247).
(9) بيان تلبيس الجهمية(2/144).