السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بعد أن رأينا كيف بدأ الجمع الرسمي بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، حيث تكفل بهذه المهمة الإمام المحدث الزهري ، وقبل ان نواصل مسيرة التدوين بودي ان انقل ترجمة قصيرة حتى تتعرفوا على هذا العلم الشامخ ، جبل الحديث و أمير الحفاظ :
الزهري (58 - 124 ه = 678 - 742 م) : محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن مهاجر بن الحارث بن زهرة، من بنى زهرة بن كلاب، من قريش، أول من دون الحديث، وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء.
تابعي، من أهل المدينة، و هو عالم و فقه و أديب الحفاظ ، أخذ الحديث عن ابن عمر بن الخطاب وسهل بن سعد وأنس بن مالك ومحمود بن الربيع وسعيد بن المسيب وأبي أمامة بن سهل وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين ( رضي الله عنهم )، وقد بذل جهده في جمع الروايات عن سير النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وأحاديثه؛ حتى لقي في طلب العلم عناء ونصبًا؛ كما يدل عليه قول علماء الحديث و الرجال : '' إنه كان يطوف علَى بيوت الأنصار في المدينة، ويغشَى كل بيت منها، ويسأل عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسيرته كلَّ مَن يلقاه ـ من نساء ورجال وشيوخ وشباب ـ ؛ حتى كان يسأل العواتق في خدورهن عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله ويكتبه''.
وحدث عنه عقيل ويونس والزبيدي وصالح بن كيسان ومعمر وشعيب ابنا أبي حمزة والأوزاعي والليث ومالك ( ابن انس صاحب المذهب المعروف ) وابن أبي ذئب وعمرو بن الحارث وإبراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة وأمم سواهم وروى أبو صالح عن الليث قال:'' ما رأيت عالما قط أجمع من الزهري يحدث في الترغيب فتقول لا يحسن إلا هذا وإن حدث عن العرب والأنساب قلت لا يحسن إلا هذا وإن حدث عن القرآن والسنة فكذلك ''
روى إسحاق المسيبي عن نافع أنه عرض القرآن على الزهري.
قال الليث قال الزهري :'' ما صبر أحد على العلم صبري ولا نشره أحد نشري '' قال الامام الخليفة عمر بن عبد العزيز: '' لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري ''. قال الامام مالك بن انس : '' بقي بن شهاب وماله في الدنيا نظير ''
'' وإن ما كتبه الزهري وحده بلغ فيما رواه معمر إن الدفاتر من عِلْم الزهري حُمِلَت علَى الدواب بعد قتل الوليد وكانت في خزانته ''.
قال الامام علي بن المديني [ و هو شيخ البخاري ] في كتابه " العلل " ص: 17 ما نصه : '' نظرت فإذا الاسناد [ اسناد الحديث ] يدور على ستة، فلأ هل المدينة ابن شهاب الزهري ت (124) ولاهل مكة عمرو بن دينار ت (126)، ولاهل البصرة قتادة بن دعامة الدوسي ت (117)، ويحيى بن أبي كثير ت (132)، ولاهل الكوفة أبو إسحاق السبيعي ت (127)، وسليمان بن مهران الاعمش ت (148)، ثم صار علم هؤلاء الستة إلى أصحاب الاصناف ممن صنف، فلأهل المدينة مالك بن أنس، ومحمد بن إسحاق، ومن أهل مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وسفيان بن عيينة، ومن أهل البصرة سعيد بن أبي عروبة، وأبو عوانة الوضاح بن خالد، وشعبة بن الحجاج، ومعمر بن راشد، ومن أهل الكوفة سفيان بن سعيد الثوري، ومن أهل الشام عبد الرحمن الاوزاعي، ومن أهل واسط هشيم بن بشير''.
قال هشام بن عمار أنا الوليد بن مسلم عن سعيد أن هشام بن عبد الملك [ الخليفة الأموي ]سأل الزهري أن يملي على بعض ولده شيئا فأملي عليه أربعمائة حديث وخرج الزهري فقال:'' أين أنتم يا أصحاب الحديث '' فحدثهم بتلك الأربعمائة ثم لقي هشاما بعد شهر أو نحوه فقال للزهري:'' أن ذلك الكتاب ضاع '' فدعا بكتاب فأملاها عليه ثم قابل بالكتاب الأول فما غادر حرفا واحدا. [ الله أكبر على هذا الحفظ رحمه الله و جزاه الله خيرا ]
[ انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1: 102 ووفيات الاعيان 1: 451 وتهذيب التهذيب 9: 445 وسير النبلاء 4: 112].
ثم شاع التدوين في الجيل الذي عاصر جيل الزهري و الذي جاء من بعده فبدأ ترتيب وتدوين الأحاديث وجمع الشتات في ديوان واحد على شكل فقهي وأبواب ومباحث فظهر التأليف في الحجاز واليمن والعراق ،مصر والشام .وأشهر علماء هذه المرحلة هم :
(1) عبد الملك بن جريج (80 ـ 150 هـ ) وكتبه تسمى كتب الأمانة من كثرة صحتها ، وكتب كتاباً سماه الجامع ـ السنن.
(2) سعيد بن أبي عروبة في البصرة (80 ـ 156 هـ ) قال الإمام الذهبي (عالم أهل البصرة أول من صنف السنن النبوية)، ألف كتاباً في الطلاق.
(3) محمد بن أبي ذئب ( ت 158 هـ ) عالم أهل المدينة وإمامهم ألف كتاب الموطأ مثل موطأ مالك ويسمى بالسنن.
(4) عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي (88 ـ 156 ) هـ وهو تلميذ الزهري فقيه الشام جمع الأحاديث في كتابه السنن.
(5) معمر بن راشد فقيه اليمن وتلميذ الزهري (95 ـ 153 )ألف كتابه الجامع وضمنه الصنعاني في آخر كتابه.
(6) شعبة بن الحجاج (83 ـ160 ) في العراق،البصرة.
(7) سفيان الثوري (97 ـ 161 ) في الكوفة جمع 30 ألف حديث كان يحفظها ، ألف كتاب الجامع الصغير و الجامع الكبير .
(8) حماد بن سلمة (90ـ 160 ) ألف كتابه المصنف.
(9) الليث بن سعد (94 ـ 175 ) بمصر،وهو إمام حجة كثير التصانيف يعد في طبقة الإمام مالك في الفقه.
(10) مالك بن أنس (93 ـ 179 ) بالمدينة ، كتب الموطأ الذي يعتبره الكثير من العلماء ( كالإمام الشافعي و غيره ) أصح كتاب بعد القرآن الكريم.
وهؤلاء الأئمة كما تلاحظون كانوا في عصر واحد لا يدري أيهم أسبق في التدوين ، وكان منهجهم في التدوين هو جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلطا بأقوال الصحابة والتابعين، مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم نسجا على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة على رأس المائتين ( 200 هجرية) ، فألفت المسانيد، وهي مشتقة من كلمة '' أسند أو السند '' و منهج المسانيد ان تجمع أحاديث وآثار كل صحابي على حدة مع أسانيدها المختلفة وان تعدد الموضوع ، وربما يروى فيها الحديث الواحد نفسه روايات عديدة حسب التابعين وتابعيهم الذي نقلوه عن الصحابي [ رضي الله عنه ] ولهذا فهي مرتبة على هذا الاساس، و لم يذكر فيها انواع الحديث ، ومن أشهر هذه المسانيد:
1 مسند أبى داود سليمان بن داود الطيالسى 204
وهو أول مسند صُنِّف وقد جمعه عنه بعض حفاظ خراسان وهو مطبوع فى مجلدة كبيرة طبعة دار المعرفة وقد رتبه الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتى على الكتب والأبواب الفقهية وسماه منحة المعبود فى ترتيب مسند الطيالسى أبى داود جزءان فى مجلدة طبع على نفقة المؤلف وتصحيحه 1372 الناشر المكتبة الإسلامية بيروت.
2 مسند أبى بكر أحمد بن عمرو البزار 299
وله مسندان المسند الصغير والمسند الكبير المعلل وهو المسمى البحر الزخار يبين فيه الصحيح من غيره ويتكلم فى تفرد بعض رواة الحديث ومتابعة غيره عليه وقد طبع منه عدة مجلدات بتحقيق الدكتور محفوظ الرحمن زين الله طبعة مؤسسة علوم القرآن ببيروت مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة 1409.
وقد اعتنى بالمسند الكبير الإمام نور الدين على بن أبى بكر الهيثمى 807 فصنف فى زوائده كتابا سماه كشف الأستار عن زوائد البزار وهو مطبوع فى أربع مجلدات طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمى 1404
3 مسند أبى عبد الرحمن بَقِى بن مَخْلَد الأندلسى 276
وقد روى فيه عن 1300 صحابى ورتبه على أبواب الفقه ويُعد من أوسع المسانيد فهو أكبر من مصنف ابن أبى شيبة ومصنف عبد الرزاق ولم يطبع إلا مقدمته ولم يُعثر على مخطوطاته
4 مسند أبى بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدى 219
وهو من شيوخ الإمام البخارى ومسنده مطبوع فى مجلدتين بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمى طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
5 مسند أبى سعيد عثمان بن سعيد الدارمى 280
وهو مسند كبير يقع فى جزئين وقد طبع أكثر من مرة منها طبعة بتحقيق السيد عبد الله هاشم يمانى فى مجلدتين 1386 ومنها طبعة دار القلم بتحقيق الدكتور مصطفى ديب البغا 1417 ويطلق بعض العلماء على مسند الدارمى اسم السنن
6 مسند أبى محمد عبد بن حميد بن نصر الكِشِّى 249
وله مسندان كبير وصغير ومسنده خال عن مسانيد كثير من مشاهير الصحابة وقد طبع المنتخب من مسند عبد بن حميد فى مجلدتين.
7 مسند أبى محمد الحارث بن محمد بن أبى أسامة التميمى 282
وتوجد منه مختارات بعنوان المنتقى مخطوط بدار الكتب المصرية حديث 1259 مجاميع كما يوجد العوالى المستخرجة من مسند الحارث فى المكتبة الظاهرية مجموع 101/16 وقد خرج الحافظ ابن حجر العسقلانى زوائده وزوائد مسانيد الأئمة أبى داود الطيالسى والحميدى وابن أبى عمر العدنى ومُسَدَّد وأحمد بن منيع وأبى بكر بن أبى شيبة وعبد بن حميد على الصحاح الستة ومسند أحمد فى كتاب سماه المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية وطبعت النسخة المسندة من الكتاب فى تسع عشرة مجلدة طبعة دار العاصمة الرياض 1419
ومن أشهر تلك المسانيد:
مسند أبى عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى 240
وأوله مسند العشرة المبشرين بالجنة وفيه زيادات ولده عبد الله ويسير من زيادات أبى بكر القَطِيعى الراوى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ويشتمل على ثمانية وعشرين ألفا وأربعمائة وأربعة وستين حديثا ( 28464).
وأشهر طبعات المسند الطبعة الميمنية فى ست مجلدات ولم يشترط الإمام أحمد فى مسنده جمع الحديث الصحيح ففيه الصحيح وغيره وقد ألف الحافظ ابن حجر العسقلانى كتابه المسمى القول المُسَدَّد فى الذب عن المسند رد فيه على من زعم وجود أحاديث موضوعة فى المسند وهو مطبوع فى جزء صغير عدة طبعات منها طبعة بتحقيق عبد الله محمد الدرويش بدار اليمامة دمشق 1405
وقد اعتنى العلماء بمسند الإمام أحمد فقد رتبه بعض الحفاظ الأصبهانيين على الأبواب الفقهية منهم الحافظ ناصر الدين بن رزيق ورتبه الحافظ محمد بن أبى محمد بن عبد الله المقدسى الحنبلى على حروف المعجم وممن رتبه أيضا على الموضوعات الفقهية الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا فى كتاب سماه الفتح الربانى لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى وعلى هامشه كتاب بلوغ الأمانى من أسرار الفتح الربانى وهو مطبوع فى إحدى عشرة مجلدة طبعة دار إحياء التراث العربى.
وعلى أية حال فإن المسانيد لم تقتصر على جمع الحديث الصحيح بل احتوت على الأحاديث الضعيفة أيضا مما يجعل من الصعوبة الإفادة منها إلا من قبل المتخصصين فى الحديث وعلومه وكذلك فإن طريقة الترتيب فى المسانيد تجعل من الصعوبة أيضا الوقوف على أحاديث حكم معين لأنها لم ترتب على أبواب الفقه.
وكان منهج هؤلاء مزج الصحيح وهو ما ثبت صحته بغيره إذ لم يكن قد عرف إلى هذا العصر تقسيم الحديث إلى ما تعارفوا عليه من صحيح وحسن وضعيف.