[ALIGN=CENTER]
الشبهة الثالثة : المــكــــــــــان[/ALIGN]
وإذا عرفت الجواب عن الشبهة السابقة (( الجهة )) ، يسهل عليك فهم الجواب عن هذه الشبهة ، وهو أن يقال :
إما أن يراد بالمكان أمر وجودي ، وهو الذي يتبادر لأذهان جماهير الناس اليوم ، ويتوهمون أنه المراد بإثباتنا لله تبارك وتعالى صفة العلو .
فالجواب : أن الله تعالى منزه على أن يكون في مكان بهذا الاعتبار ، فهو تعالى لا تحوزه المخلوقات ، إذ هو أعظم وأكبر ، بل قد وسع كرسيه السماوات والأرض ، وقد قال تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمنه ) ، وثبت في (( الصحيحين )) و غيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( يقبض الله بالأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ )) .
وأما أن يراد بالمكان أمرٌ عدمي وهو ما وراء العالم من العلو ، فالله تعالى فوق العالم ، وليس في مكان بالمعنى الوجودي ، كما كان قبل أن يخلق المخلوقات .
فإذا سمعت أو قرأت عن أحد الأئمة و العلماء نسبة المكان إليه تعالى . فاعلم أن المراد به معناه العدمي ، يريدون به إثبات صفة العلو لله تعالى ، والرد على الجهمية والمعطلة الذين نفوا عنه سبحانه هذه الصفة ، ثم زعموا أنه في كل مكان بمعناه الوجودي ، قال العلامة ابن القيِم في قصيدته (( النونية )) (2/ 446-447 المطبوعة مع شرحها (( توضيح المقاصد )) طبع المكتب الإسلامي ) .
والله أكبر ظاهـر مـا فوقـه***شيء وشأن الله أعظم شـان
والله أكبر عرشه وسع السمـا***والأرض والكرسي ذا الأركان
وكذلك الكرسي قد وسع الطبا***ق السبع والأرضيين بالبرهان
والله فوق العرش والكرسي ***لاتخفى عليه خواطر الإنسـان
لاتحصروه في مكان إذ تقـو***لوا : ربنا حقاً بكـل مكـان
نزهتموه بجهلكم عن عرشـه***وحصرتموه في مكـان ثـان
لا تعدموه بقولكـم : لاداخـل***فينا ولا هو خارج الأكـوان
الله أكبـر هتكـت أستاركـم***وبدت لمن كانت لـه عينـان
والله أكبر جل عن شبه وعن***مثل وعن تعطيل ذي الكفران
إذا أحطت علماً بكل ما سبق ، استطعت بإذن الله تعالى أن تفهم بيسر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، والآثار السلفية التي ساقها المؤلف رحمه الله في هذا الباب الذي بين يديك (( مختصره )) أن المراد منها إنما هو معنى معروف ثابت لائق به تعالى ألا وهو علوه سبحانه على خلقه ، واستواؤه على عرشه ،على ما يليق بعظمته ، وأنه مع ذلك ليس بجهةٍ ولا مكان ، إذ هو خالق كل شيء ، ومنه الجهة والمكان ، وهو الغني عن العالمين وأن من فسرهما بالمعنى السلبي ، فلا محذور منه ، إلا أنه مع ذلك لا ينبغي إطلاق لفظة الجهة والمكان ولا إثباتهما ، لعدم ورودهما في الكتاب والسنة ، فمن نسبهما إلى الله فهو مخطئ لفظاً إن أراد بها الإشارة إلى صفة العلو له تعالى ، وإلا فهو مخطئ أيضاً إن أراد به حصره تعالى في مكان وجودي ، أو تشبيهه تعالى بخلقه .
وكذلك لا يجوز نفي معناهما إطلاقاً إلا مع بيان المراد منهما لأنه قد يكون الموافق للكتاب والسنة ، لأننا نعلم بالمشاهدة أن النفاة لهما إنما يعنون بهما نفي صفة العلو لله تعالى من جهة ، ونسبة التجسيم والتشبيه للمؤمنين بها ، ولذلك ترى الكوثري في تعليقاته يدندن دائماً حول ذلك ، بل يلهج بنسبة التجسيم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كل مناسبة ، ثم تابعه على ذلك مؤلف (( فرقان القرآن )) في مواطن منه ، قال في أحدها( ص 61 ) أن ابن تيمية شيخ إسلام أهل التجسيم ! ( ومن يضلل الله فما له من هادٍ ) .
واتهام أهل البدع وأعداء السنن أهل الحديث بمثل هذه التهم قديم ، منذ أن نشب الخلاف بينهم في بعض مسائل التوحيد والصفات الإلهية ، وسترى في ترجمة الإمام أبي حاتم الرازي رحمه الله تعالى قوله :
(( وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر ، وعلامة الجهمية أن يسموا أهل السنة مشبهة ، وعلامة القدرية ( المعتزلة ) أن يسموا أهل السنة مجبرة ، وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية )) .
وأن افتراءهم على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال بعد أن روى قوله صلى الله عليه وسلم (( ينزل الله إلى السماء الدنيا ...)) كنزولي هذا ، معروف ، وقد بيّن بطلان هذه الفرية شيخي في الإجازة الشيخ راغب الطباخ في بعض أعداد مجلة المجمع العلمي بدمشق ، ثم صديقنا العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار في كتابه (( ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية )) .
ومن أسوأ ما افتراه بعضهم على الإمام شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري ماذكره الحافظ المؤلف في ترجمته من (( تذكرة الحفاظ )) (3/358) :
(( لما قدم السلطان ألب أرسلان (( هراة )) في بعض قدماته ؛ اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه ، ودخلوا على أبي إسماعيل ، وسلموا عليه وقالوا : ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه ، فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك ، وكانوا قد تواطئوا على أن حملوا معهم صنماً من نحاس صغيراً ، وجعلوه في المحراب ، تحت سجادة الشيخ ، وخرجوا ، وقام إلى خلوته ، ودخلوا على السلطان ، واستغاثوه من الأنصاري لأنه مجسم ، وأنه يترك في محرابه صنماً يزعم أن الله على صورته (!) وإن بعث السلطان يجده ، فعظم ذلك على السلطان ، وبعث غلاماً ومعه جماعة، فدخلوا الدار ، وقصدوا المحراب ، فأخذوا الصنم ، ورجع الغلام بالصنم ، فبعث السلطان من أحضر الأنصاري ، فأتى ، فرأى الصنم والعلماء ، والسلطان قد اشتد غضبه ، فقال السلطان له : ما هذا ؟! قال : هذا صنم يعمل من الصفر شبه اللعبة . قال لست عن هذا أسألك . قال : فعمّ تسألني ؟ قال : إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا ، وأنك تقول أن الله على صورته ! فقال الأنصاري بصولة وصوت جهوري : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) . فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه ، فأمر به فأُخرج إلى داره مكرماً ، وقال لهم أصدقوني – وهددهم – فقالوا : نحن في يد هذا الرجل في بلية من استيلاءه علينا بالعامة ، فأردنا أن نقطع شره عنا ! فأمر بهم ، ووكل ( لعله : فكل )[1] بكل واحد منهم ، وصادرهم )) .
وختاماً أنقل إلى القراء الكرام فصلاً نافعاً من كلام الإمام أبي محمد الجويني في آخر رسالة (( الإستواء والفوقية )) في تقريب هذه المسألة إلى الأفهام بمعنى من علم الهيئة والفلك لمن عرفه قال :
(( لا ريب أن أهل العلم حكموا بما اقتضته الهندسة ، وحكمها صحيح لأنه ببرهان ، لا يكابر الحسن فيه بأن الأرض في جوف العالم العلوي ، وأن كرة الأرض في وسط السماء كبطيخة في جوف بطيخة ، والسماء محيطة بها من جميع جوانبها ، وأن سفل العالم هو جوف كرة الأرض ، وهو المركز ، وهو منتهى السفل والتحت ، وما دونه لا يسما تحتاً ، بل لا يكون تحتاً ويكون فوقاً ، بحيث لو خرق المركز وهو أسفل العالم إلى تلك الجهة لكان الخرق إلى جهة فوق ، ولو نفذ الخرق إلى جهة السماء من تلك الجهة الأخرى لصعد إلى جهة فوق [2] .
وبرهان ذلك أنا لو فرضنا مسافراً سافر على كرة الأرض من جهة المشرق إلى جهة المغرب ، وامتد مسافراً لمشى مسافراً على الكرة إلى حيث ابتدأ المسير ، وقطع الكره مما يراه الناظر أسفل منه ، وهو في سفره هذا لم يبرح الأرض تحته ،والسناء فوقه ، فالسماء التي يشاهدها الحس تحت الأرض هي فوق الأرض ، لا تحتها ، لأن السماء فوق الأرض بالذات ، فكيف كانت السماء كانت فوق الأرض من أي جهة فرضتها . قال :
(( وإذا كان هذا جسم – وهو السماء – علوها على الأرض بالذات فكيف من ليس كمثله شيء
وعلوه على كل شيء بالذات كما قال تعالى ( سبح اسم ربك الأعلى ) وقد تكرر في القرآن المجيد ذكر الفوقية ( يخافون ربهم من فوقهم ) ... لان فوقيته سبحانه وعلوه على كل شيء ذاتي له ، فهو العلي بالذات ، والعلو صفته اللائقة به ، كما أن السفول والرسوب والانحطاط ذاتي للأكوان عن رتبة ربوبيته وعظمته وعلوه . والعلو و السفول حد بين الخالق والمخلوق، يتميز به عنه هو سبحانه عليّ بالذات ، وهو كما كان قبل خلق الأكوان ، وما سواه مستقل عن الذات ، وهو سبحانه العلي على عرشه ، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج الأمر إليه ، فيحيي هذا ، ويميت هذا ، ويمرض هذا ، ويشفي هذا ، ويعز هذا ويذل هذا ، وهو الحي القيوم ، القائم بنفسه ، وكل شيء قائم به .
فرحم الله عبداً وصلت إليه هذه الرسالة ، ولم يعاجلها بالإنكار ، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل [ وأطراف ] النهار ، وتأمل النصوص في الصفات ، وتأمل بعقله في نزولها ، وفي المعنى الذي نزلت له ، وما الذي أريد بعلمها من المخلوقات ؟ ، ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفة الرب تعالى بها ، والتوجه إليه منها ، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها ، كما يليق بجلاله وعظمته ، بلا تأويل ولا تعطيل ، ولا تكيف ولا تمثيل، ولا جمود ولا وقوف . وفي ذلك بلاغ لمن تدبر ، وكفاية لمن استبصر ، إن شاء الله تعالى )) .
وقال رحمه الله تعالى وأثابه خيراً مبيناً أثر هذه العقيدة الطيبة في قلب المؤمن بها:
العبد إذا أيقن أن الله تعالى فوق السماء ، عال على عرشه بلا حصر ولا كيفية ، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه ، صار لقلبه قبلة في صلاته وتوجهه ودعاءه ، ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه ؛ فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده ، ولكن لو عرف بسمعه وبصره وقدمه ، وتلك بلا هذا [ الإيقان ] معرفة ناقصة ، بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء ، فإذا دخل في الصلاة وكبّر ؛ توجه قلبه إلى جهة العرش ، منزهاً ربه تعالى عن الحصر مفرداً له ، كما أفرده بقدمه وأزليته ، عالماً أن هذه الجهات من حدودنا ولوازمنا ، ولا يمكننا الإشارة إلى ربنا في قدمه وأزليته إلا بها ، لأننا محدثون ، والمحدث لا بد له من إشارته إلى جهة ، فتقع تلك الإشارة إلى ربه ، كما يليق بعظمته ، لا كما يتوهم هو من نفسه ، ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه ، هو معهم بعلمه وسمعه وبصره ، و إحاطته وقدرته ومشيئته ، و ذاته فوق الأشياء ، فوق العرش ، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أو التوجه أشرق قلبه ، واستنار ، وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان ، وعكسته أشعة العظمة على عقله وروحه ونفسه ، فانشرح لذلك صدره ، وقوي إيمانه ونزه ربه عن صفات خلقه من الحصر والحلول ، وذاق حينذاك شيئاً من أذواق السابقين المقربين ، بخلاف من لا يعرف وجهة معبوده ، وتكون الجاذبة[3] راعية الغنم أعلم بالله منه ، فإنها قالت : (( في السماء )) ، عرفته بأنه على السماء ، فإن (( في )) تأتي بمعنى (( على )) ، فمن تكون الراعية أعلم بالله منه لكونه لا يعرف وجهة معبوده ، فإنه لا يزال مظلم القلب ، لا يستنير بأنوار المعرفة والإيمان .
و من أنكر هذا القول فليؤمن به ، وليجرب ولينظر إلى مولاه من فوق عرشه بقلبه ، مبصراً من وجه ، أعمى من وجه ، مبصراً من جهة الإثبات والوجود والتحقيق ، أعمى من جهة التحديد والحصر والتكيييف ، فإنه إذا عمل ذلك وجد ثمرته إن شاء الله تعالى ، ووجد نوره وبركته ، عاجلاً وآجلاً ، ( ولا ينبئك مثل خبير ) ، والله سبحانه الموفق والمعين )). اهـ
وفي هذا كفاية لمن اراد الهداية .