منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - دراسات في القانون الجنائي الدولي
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-10-14, 09:29   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
abbes8
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية abbes8
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

ثامنا: الدعوى المرفوعة على حسين حبري "بينوشيه الإفريقي"
في فبراير/شباط 2000 وجهت محكمة سنغالية تهمة ارتكاب التعذيب إلى حسين حبري، دكتاتور تشاد السابق المقيم في المنفى، ووضعته تحت الإقامة الجبرية في منزله، وكانت تلك أول مرة تتهم فيها إحدى المحاكم في دولة إفريقية شخصاً من دولة إفريقية أخرى بارتكاب الفظائع.

حسين حبري ،بينوشيه الافريقي
وقد ظل حسين حبري يحكم تشاد منذ عام 1982 حتى عام 1990، وهو العام الذي خلعه فيه الرئيس الحالي إدريس ديبي، فاضطر إلى الفرار إلى السنغال. ومنذ سقوط حبري وأبناء تشاد يحاولون إحالته إلى العدالة، فقامت "الرابطة التشادية لضحايا القمع السياسي والجريمة" بتجميع المعلومات الخاصة بكل فرد من الضحايا البالغ عددهم 792، وهم من تعرضوا لوحشية حبري، آملين الانتفاع بما سجلوه عن هذه الحالات في رفع الدعوى القضائية على حبري. وفي عام 1992 أصدرت لجنة تقصي الحقيقة تقريراً يتضمن اتهام نظام حبري بارتكاب 40 ألف جريمة من جرائم القتل السياسي، و200 ألف حالة من حالات التعذيب. ولما كان عدد كبير من كبار المسؤولين في حكومة ديبي، ومن بينهم ديبي نفسه، ضالعين في جرائم حبري، فإن الحكومة الجديدة لم تطلب من السنغال تسليمه إليها.
وفي عام 1999، تقدمت "الرابطة التشادية لنصرة حقوق الإنسان والدفاع عنها ـ وعينها على السابقة القانونية المتمثلة في حالة بينوشيه ـ بطلب إلى منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" ترجو فيه مساعدتها في إحالة حبري إلى العدالة في السنغال. وقام الباحثون في منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" بزيارة تشاد مرتين، واطلعوا على الوثائق التي أعدتها رابطة الضحايا المذكورة في عام 1991 واستفادوا منها، عاملين في الخفاء، خشية قيام المسؤولين التشاديين بإبلاغ حبري الذي قد يفر إثر ذلك من السنغال؛ واجتمع الباحثون بالضحايا والشهود، ساعين للحصول على كل ما من شأنه توثيق الجرائم التي ارتكبها حبري. وفي غضون ذلك قامت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان"، دون إحداث ضجة، بتنظيم تآلف من المنظمات غير الحكومية التشادية والسنغالية والدولية، تدعيماً للشكوى، وكان من بينها "الاتحاد الدولي لجمعيات حقوق الإنسان"، ومنظمة "الحقوق الدولية" (إنتررايتس)، إلى جانب مجموعة من المحامين السنغاليين الذين يمثلون مصالح الضحايا. وكان من بين من رفعوا الدعوى باعتبارهم أفراداً سبعة أفراد تشاديين، وأرملة فرنسية راح زوجها ضحية نظام حبري وكذلك رابطة الضحايا المذكورة.
وتقدم الشاكون بالدعوى الجنائية التي رفعوها إلى محكمة داكار الإقليمية، والتي يتهمون فيها حبري رسمياً بارتكاب التعذيب وجرائم ضد الإنسانية، كما حضر العديد منهم إلى السنغال خصيصا لهذا الغرض. أما تهم التعذيب فكانت تستند إلى القانون السنغالي الخاص بالتعذيب، وكذلك إلى "اتفاقية مناهضة التعذيب" التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1984، والتي صادقت عليها السنغال في عام 1987. كما أشارت هذه الجماعات أيضاً إلى التزامات السنغال بموجب القانون الدولي القائم على العرف، والتي تقضي برفع الدعوى على المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وفي مستندات القضية المرفوعة إلى قاضي التحقيق، قدمت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان"، وغيرها من المنظمات، البيانات التفصيلية الخاصة بسبع وتسعين حالة من حالات القتل السياسي، و142 حالة تعذيب، و100 حالة "اختفاء"، و736 حالة اعتقال تعسفي، قامت بتنفيذ معظمها "إدارة التوثيق والأمن" التابعة لحسين حبري، والتي كانت تلقي الرعب في القلوب، إلى جانب تقرير أعده فريق طبي فرنسي عام 1992 عن التعذيب في ظل نظام حبري، وكذلك تقرير "لجنة تقصي الحقيقة" التشادية. كما قدمت المنظمات أيضاً الوثائق التي تبين كيف وضع حبري "إدارة التوثيق والأمن" تحت إشرافه المباشر، وعين فيها موظفين من أقرب أصدقائه، وألزمها برفع تقاريرها إليه بصورة منتظمة. كما قدمت المنظمات أيضاً الشهادة التي أدلى بها، بعد حلف اليمين، اثنان من السجناء السابقين؛ وكانت اللجنة المذكورة قد أمرتهما بحفر قبور جماعية لدفن خصوم حبري. ووصف اثنان من الشاكين كيف تعرضا لأسلوب من أساليب التعذيب الواسعة الانتشار، وهو الذي يُسمَّى "أربعة عشر"، وفيه يُشدُّ وثائق السجين بتقييد أطرافه الأربعة خلف ظهره مما يعطل الدورة الدموية ويتسبب في الشلل.
وعشية رفع الدعوى قابل ممثلو المنظمات غير الحكومية والشاكون وزير العدل السنغالي الذي أكد لهم أنه لن يحدث أي تدخل سياسي في عمل القضاء. وكانت القضية مرفوعة باعتبارها شكوى تتخذ صفة الادعاء الشخصي، وسارت إجراءاتها بسرعة مذهلة. فأحال القاضي ملف القضية أولاً إلى المدعي العام طلباً لمشورة غير ملزمة؛ وكان المدعي العام قد أُبلغ بضرورة الإسراع حتى لا تتاح الفرصة لحسين حبري للفرار من البلد، وكذلك حتى يدلي الضحايا بأقوالهم قبل عودتهم إلى تشاد، ومن ثم أصدر مشورته، التي يوافق فيها على إقامة الدعوى، في غضون يومين فقط. وفي اليوم التالي أدلى الضحايا بشهادتهم أمام القاضي في جلسة مغلقة ـ وهو ما كانوا ينتظرونه من تسع سنوات! وعندها أمر القاضي باستدعاء حبري يوم 3 فبراير/شباط 2000، وأعلنه بتهمة "التواطؤ لارتكاب التعذيب"، وأمر بوضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله. كما أمر بفتح التحقيق مع أشخاص تحدد أسماؤهم فيما بعد بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والاختفاء، والأعمال الوحشية؛ بمعنى أنه يستطيع فيما بعد توجيه هذه التهم إلى حبري أو إلى غيره من الأشخاص.
وسوف يواصل القاضي الآن التحقيق الذي يقوم به في القضية، وربما قام بزيارة إلى تشاد في غضون ذلك. وقد قام حبري بتوكيل بعض المحامين لإعداد الدفاع عنه، في حين تستمر منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" وشركاؤها في إجراء المزيد من البحوث، بعد أن انتفت الحاجـة الآن إلى التكتم. وقد تعقد محاكمة حبري إما في أواخر عام 2000 أو في عام 2001.
ويعتبر إقدام السنغال على السماح بالسير في إجراءات القضية عملاً فريداً إذ ربما تقاعست عنه بلدان كثيرة. فالسنغال بلد ذا تقاليد ديموقراطية، يتمتع القضاء فيها بدرجة عالية من الاستقلال بالمقارنة بغيره في إفريقيا؛ وهي تعتز بأنها كانت أول دولة في العالم تصادق على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، كما كان لها دورها البارز في مجال الحقوق الدولية. وعلى الرغم مما قيل من استثمارات حبري الكبيرة في الصناعة السنغالية، فلم تكن هناك جماعات ضغط قوية تعمل لصالحه، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
وقال ريد برودي، من منظمة "مراقبة حقوق الإنسان"، الذي عمل في قضية بينوشيه وقضية حبري: "إن قضية بينوشيه قد أكدت من جديد مبادئ القانون الدولي التي تقضي بأن بلداً ما يستطيع محاكمة مرتكب جريمة التعذيب، بغض النظر عن مكان ارتكابها، وأنه لا حصانة من المحاكمة حتى لرئيس دولة سابق؛ ولكنها أظهرت لنا أيضاً أن هناك بلداناً يمكن تطبيق هذه المبادئ السامية فيها عملياً، ولنا أن نعد السنغال اليوم من بين هذه البلدان".
تاسعا: هل يلزم أن يكون المتهم موجوداً في دولة الادعاء؟
يتوقف ذلك على القوانين الخاصة بكل بلد، وعلى الغرض من إقامة الدعوى، وإمكان تسليم المتهم آخر الأمر؛ ويجب أن نذكر أن بينوشيه كان موجوداً في وطنه شيلي عندما بدأت إجراءات إقامة الدعوى ضده في إسبانيا.
وهل تشترط قوانين دولة الادعاء حضور المتهم؟ لا تتطلب بلدان كثيرة وجود المتهم بارتكاب الجريمة في البلد قبل الشروع في التحقيق؛ ولكن معظم البلدان تحظر إجراء المحاكمة في غياب المتهم. كما يعتمد هذا، إلى حد ما، على أساس الاختصاص القضائي. ففي الحالات التي يكون فيها الاختصاص القضائي قائماً على جنسية المتهم (أساس الاختصاص القضائي القائم على "الجنسية السلبية") مثلاً، تسمح فرنسا وإيطاليا بإجراء المحاكمة غيابياً. وهذا هو ما حدث عندما قُدِّم ضابط بحري أرجنتيني يدعى ألفريدو أستيز للمحاكمة في فرنسا، بتهمة المشاركة في تعذيب راهبتين فرنسيتين في الأرجنتين، فأُدين بهذه التهمة وحُكم عليه بالسجن المؤبد رغم أنه لم يكن في فرنسا. ولكن هاتين الدولتين أنفسهما تتطلبان أن يكون المتهم بارتكاب الجريمة موجوداً في الإقليم التابع لكل منهما في الدعاوى القائمة على الاختصاص القضائي العالمي.
وإذا كانت بعض البلدان تسمح بإجراء المحاكمات الغيابية، فإن منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" تعتقد أن الإنصاف يقتضي حضور المتهم في المحكمة أثناء محاكمته حتى يمكنه تقديم دفاعه. فإذا قُبض على متهم بعد إجراء محاكمة أدين فيها غيابياً، فيجب في هذه الحالة إلغاء حكم الإدانة وإجراء محاكمة جديدة تماماً له.
وعلى الضحايا بطبيعة الحال أن ينظروا فيما يمكن أن يعود عليهم من رفع الدعوى على فرد غير موجود بشخصه في دولة الادعاء؛ أما الفائدة العملية لذلك فقد تعتمد على إمكان الحكم بتسليمه. ولكن رفع الدعوى قد تكون له أيضاً قيمة رمزية، أو قد تضع قيوداً على انتقالاته وأسفاره المعتزمة، أو قد تتيح تجميد حساباته في المصارف الدولية وغير ذلك من الأرصدة.
تسليم الأشخاص
إذا كان المتهم غير موجود في دولة الادعاء، فلابد من السعي لاحتجازه؛ والأسلوب التقليدي في هذه الحالة هو طلب تسليمه، وإن كانت هناك بدائل مثل ترحيل أحد الأجانب إلى البلد التي يحمل جنسيتها؛ وذلك ما فعلته بوليفيا عندما رحلت كلاوس باربي، المشهور باسم "سفاح ليون" في الحرب العالمية الثانية، إلى فرنسا لمحاكمته.
وتسليم الأشخاص هو المصطلح الذي يطلق على قيام إحدى الدول بتقديم طلب إلى دولة أخرى بتسليم شخص إليها زاعمة أنها تتمتع بالحق في محاكمته.
ولا تقوم بعض الدول بتسليم الأشخاص إلا بناءً على معاهدة تسليم معقودة مع دولة أخرى، ولذلك فلابد من التأكد من وجود مثل هذه المعاهدة بين البلدين؛ ولو أن بلداناً كثيرة توافق على تسليم الأشخاص حتى دون وجود مثل تلك المعاهدة، استناداً إلى مبدأ المعاملة بالمثل ـ أي تلبية كل من الدولتين لطلبات الدولة الأخرى. ومن ناحية أخرى نجد أن الدستور في بلدان كثيرة يحظر تسليم أحد مواطنيها حتى في حالة وجود معاهدة معقودة لتسليم الأشخاص.
وإذا كان الواقع العملي يتفاوت من حالة إلى أخرى، خصوصاً بناءً على أحكام المعاهدات المعقودة، فإن تسليم الأشخاص عادة ما يتبع قواعد متماثلة، وهي:
1- التجريم المزدوج: ومعناه اشتراك البلدين في تجريم عمل ما، أي ضرورة النص على تجريم الأفعال التي يزعم ارتكابها في قوانين كل من الدولة التي تطلب تسليم الشخص والدولة التي تتلقى الطلب. وتحدد معظم معاهدات تسليم الأشخاص الجرائم التي يسمح فيها بتسليم الأشخاص. ولكن بعض المعاهدات الأخرى تشير فحسب إلى فئات من الجرائم أو إلى مستوى العقوبة (ولنقل، على سبيل المثال، تلك الجرائم التي يُعاقب مرتكبها بالحبس سنة واحدة على الأقل).
وفي قضية بينوشيه فسر مجلس اللوردات هذه القاعدة بحيث تنص على ضرورة اعتبار أفعال بينوشيه من الجرائم في بريطانيا في الوقت الذي ارتكبت فيه، لا في الوقت الذي تلقت فيه بريطانيا طلب تسليم بينوشيه. ولم تصبح جريمة التعذيب خارج إقليم البلد (أي التعذيب المرتكب "في المملكة المتحدة أو في غيرها"، انظر ما تقدم) من الجرائم التي تسري عليها عالمية الاختصاص القضائي في المملكة المتحدة إلا في عام 1988، أي بعد أن أدمجت المملكة المتحدة "اتفاقية مناهضة التعذيب" في نصوص قوانينها، في حين أن معظم حالات التعذيب التي ارتكبت في ظل حكم بينوشيه قد وقعت قبل هذا التاريخ؛ ومن ثم فإن مجلس اللوردات قد قلل كثيراً من عدم الجرائم التي تجيز تسليم بينوشيه إلى إسبانيا.
2- عبء الأدلة: تلتزم الدولة التي تطلب تسليم الشخص إليها، في الأحوال العادية، بتقديم أدلة إثبات مبدئية ضد المشتبه فيه قبل تسليمه، وهو ما يضمن عدم القبض على الأشخاص وتسليمهم دون توافر الأدلة اللازمة. ولكن بعض المعاهدات لا تنص على هذا الشرط، إذ تكتفي الاتفاقية الأوربية الخاصة بتسليم الأشخاص، مثلاً، وهي التي استندت إليها إسبانيا عندما طلبت من بريطانيا تسليم بينوشيه إليها، بالنص على تقديم إجراءات الاتهام الرسمية. والواقع أن الاتفاقية تنص بصورة محددة على أنه "ليس من الضروري... إبلاغ المحكمة... بالأدلة الكافية التي تبرر محاكمة ذلك الشخص".
3- استثناء "الجرائم السياسية": لا تقوم معظم البلدان بتسليم المشتبه في ارتكابه "جريمة سياسية"؛ أما معايير البت فيما يعتبر من "الجرائم السياسية" فهي تتفاوت، وإن كانت تتضمن بصورة عامة التمرد على الحكومة القائمة، وما يتصل بذلك من الجرائم. أما الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، والتعذيب، وإبادة الجنس وجرائم الحرب فليست من الجرائم السياسية. بل إن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تنص صراحة على أن هذه الجريمة لا تعتبر جريمة سياسية فيما يتعلق بتسليم الأشخاص. وتنص "اتفاقية مناهضة التعذيب" على مثل هذا ضمناً، إذ تستوجب إدراج التعذيب في قائمة الجرائم التي يجوز فيها تسليم الأشخاص فيما بين الدول الأطراف في معاهدات تسليم الأشخاص.
4- مبدأ التخصيص: لا يجوز للدولة التي تطلب تسليم شخص ما أن تحاكمه وتعاقبه إلا على الجرائم التي استندت إليها الدولة الأخرى في تسليمه إليها. ففي حالة بينوشيه مثلاً طلبت إسبانيا تسليم الجنرال إليها لاتهامه بجرائم الإرهاب والإبادة الجماعية واحتجاز الرهائن والتعذيب. ولكن مجلس اللوردات لم يسمح بتسليم بينوشيه إلا استناداً إلى تهمة التعذيب والتآمر على ارتكاب التعذيب بعد ديسمبر/كانون الأول 1998. فإذا تم تسليم بينوشيه إلى إسبانيا، فلا يجوز محاكمته إلا على هاتين الجريمتين.
مشكلة الإثبات في القضية
من الصعوبات الكأداء في إقامة الدعوى في الجرائم المرتكبة خارج إقليم الدولة صعوبة جميع الأدلة؛ إذ لن نجد الضحايا ومعظم الأدلة في دولة الادعاء بل في البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم، ومن ثم فإن الإثبات في القضية سوف يقتضي نقل الضحايا والشهود والوثائق إلى دولة الادعاء، مما قد يتسبب في مصاعب مالية هائلة وبعض قضايا الأمن، إلى جانب بعض المشاكل الثقافية واللغوية والقانونية. فإذا كانت حكومة البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم تعارض إقامة الدعوى، فسوف تزداد هذه العراقيل شدة.
والمعروف عن منظمات حقوق الإنسان أنها عادة ما تفتقر إلى التجربة والخبرة اللازمتين لتجميع الأدلة المقبولة شكلاً، أو حتى في محاولة تحديد هوية مرتكبي الجرائم من الأفراد. والتحقيق المطلوب لإثبات المسؤولية الفردية عن انتهاك محدد يختلف تماماً عن التحقيق اللازم لتوثيق مسؤولية الدولة. أو بتعبير آخر قد يكون من اليسير نسبياً إثبات تعرض شخص ما للتعذيب في حجز الشرطة، ولكن تحديد أسماء جميع الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية القانونية عن التعذيب، سواء من قاموا به بأنفسهم أو كانوا من المتواطئين فيه، قد تكتنفه صعوبات أكبر.
قوانين التقادم
إذا كانت قد انقضت عدة سنوات على ارتكاب الجريمة، فربما نشأت مشكلة تتعلق بقوانين التقادم؛ ذلك أن معظم الدول لديها قوانين تنص على عدم جواز محاكمة مرتكبي جريمة ما إذا انقضى على ارتكابها عدد معين من السنوات ـ 3 أو 10 أو 15، أو أي عدد آخر على حسب البلد والجريمة. والظاهر أن القانون الدولي القائم على العرف لا يقر قوانين التقادم بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وقد صادقت 43 دولة على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بعدم سريان قوانين التقادم على جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. وقد قطعت المحاكم الفرنسية والبلجيكية بعدم جواز تطبيق قوانين التقادم على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية تحديداً. كما أنه يجوز لنا أن نقول إن شروط قوانين التقادم تعتبر "معطلة" (أي غير سارية) ما دام المتهم يتمتع فعلياً بما يقيه سيف العدالة؛ ومع ذلك فإن القضاة المحليين يقومون أولاً بالنظر في القانون الوطني، فإذا وجدوا أن الحد الزمني المنصوص عليه في القانون الذي ينطبق على الدعوى المرفوعة قد فات، فإن بلداناً كثيرة قد ترفض الدعوى شكلاً.
ولكن قد يكون من الأيسر تجنب قاعدة التقادم في حالات "الاختفاء" مثلاً؛ فإعلان الأمم المتحدة بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري ينص على أن "الأفعال التي تشكل اختفاءً قسرياً تعتبر جريمة قائمة ما دام مرتكبوها يستمرون في إخفاء مصير ومكان وجود الأشخاص الذين اختفوا، وطالما استمر الغموض الذي يكتنف مصيرهم ومكان وجودهم". وهذا منطقي، إذ إن عدم الإقرار باحتجاز الشخص المعتقل، أو عدم الإفصاح عما آل إليه مصيره أو عن مكان وجوده، تعتبر من الأركان الأساسية في جريمة "الاختفاء". وقد حكمت المحاكم في شيلي والأرجنتين مؤخراً بأن طابع الاستمرارية الذي تتسم به جرائم "الاختفاء" معناه أن هذه الجرائم تظل قائمة حتى بعد صدور العفو العام الذي يحظر رفع الدعوى في الجرائم التي ارتكبت قبل تاريخ محدد. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لما كان الرأي السائد هو أن "الاختفاءات" قد تؤدي إلى شكل من أشكال التعذيب النفسي لأحباء الشخص "المختفي"، مما قد يعتبر أساساً قانونياً لتطبيق بعض الأحكام الواردة في "اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب"، وهي الأحكام الخاصة بضرورة "محاكمة الشخص أو تسليمه"؛ وهكذا فإن القاضي الذي نظر في طلب تسليم بينوشيه قال إنه على الرغم من قيام مجلس اللوردات بتحديد التهم الموجهة إليه وقصرها على التعذيب والتآمر لارتكاب التعذيب بعد ديسمبر/ كانون الأول 1988، فإن أعضاء النيابة العامة الإسبانية قد يسعون لإثبات أن مقصد بينوشيه من جعل خصومه "يختفون" قبل عام 1988، وعدم الإفصاح عن مكان وجودهم بعد ذلك، كان إنزال التعذيب النفسي المستمر بأقاربهم.
الحصانة
يكاد يكون من المؤكد أن تنشأ مسألة الحصانة الحكومية عن رفع الدعوى على مرتكب أي جريمة من الجرائم التي "ترعاها" الدولة في مجال حقوق الإنسان. فقد يدفع المتهم بالحصانة التي يتمتع بها باعتباره من المسؤولين حالياً، أو من المسؤولين العموميين، أو باعتباره دبلوماسياً، أو باعتباره رئيساً حالياً أو سابقاً للدولة. ولكن الحصانة، مهما تكن، تنتمي للدولة لا للمتهم، ولذلك فمن حق الدولة أن تتنحى عنها، بل يجب الضغط عليها حتى تتنحى عنها.
ويكاد يكون من المؤكد أن الرئيس الحالي لدولة ما، أو الدبلوماسي المعتمد في بعثة رسمية، سوف يعتبر ذا حصانة تمنع اعتقاله في أي بلد أجنبي (ولو أن ذلك لا ينطبق على المحاكم الدولية، مثل المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الخاصة برواندا، والمحكمة الجنائية الدولية في المستقبل). فالحصانة المذكورة تستند إلى مكانة الشخص لا إلى فئة الأفعال المرتكبة؛ وهكذا رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الأوروبية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 لمحاكمة لوران كابيلا، رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية، أثناء زيارته لتلك الدولتين.