الناصر محمد قلاوون، العصر الذهبي لدولة المماليك
يجدر الإشارة إلى أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون قد تولى الحكم ثلاث فترات غير متعاقبة .[/align]
الناصر محمد ابن قلاوون – الفترة الأولى
16 من المحرم 693هـ
18 من ديسمبر 1293م
المماليك والصراع على الحكم:
لم يكن المماليك يؤمنون بمبدأ وراثة الحكم، وإنما كانت السلطة دائمًا للأمير الأقوى، الذي يستطيع أن يحسم الصراع على السلطة لصالحه، ويتصدى لأي محاولة للخروج عليه، ولكن أسرة "قلاوون" استطاعت أن تكسر هذه القاعدة، وتخرج عن ذلك السياق؛ فقد ظل "قلاوون" وأولاده وأحفاده يحكمون دولة المماليك لأكثر من قرن من الزمان، برغم كل ما تعرضوا له من مؤامرات وانقلابات، يتبعها اغتصاب للسلطة، بيد أن هؤلاء المغتصبين لم يستقروا في الحكم طويلاً؛ إذ سرعان ما كان يتم عزلهم لتعود السلطة مرة أخرى إلى أسرة "قلاوون"، ولعل هذا ما كان يحدث دائمًا عقب وفاة كل سلطان.[31]
فبعد وفاة السلطان "قلاوون" تولى ابنه الأكبر "خليل" أمور السلطة، ولكنه كان خلاف أبيه؛ فقد اتسم بالحدة والغلظة، وكان قاسيًا متعجرفًا في معاملة مماليكه؛ مما أثار عليه النفوس، وأوغر ضده الصدور، غير أنه استطاع بشجاعته أن يطرد الصليبيين من "عكا"، وأن يحقق حلم أبيه بوضع خاتمة للحروب الصليبية التي دامت قرنين من الزمان.
لكنه لم يستمتع طويلاً بالنصر؛ فما لبث أن تآمر عليه بعض أمراء المماليك، وانتهزوا فرصة خروجه يومًا للصيد، فانقضوا عليه وقتلوه.
* "الناصر محمد" والطريق إلى العرش:
وهكذا أصبح الناصر محمد بن قلاوون سلطانًا على مصر بعد مقتل أخيه؛ فجلس على العرش وهو لا يزال في التاسعة من عمره في 16 من المحرم 693هـ- 18 من ديسمبر 1293م.
واختير الأمير "كتبغا" نائبًا للسلطنة، فأصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، بينما لا يملك السلطان الصغير من السلطة إلا اللقب الذي لم يدم له أيضًا أكثر من عام؛ فقد استطاع "كتبغا" أن يقنع الخليفة العباسي بعدم أهلية "الناصر" للحكم لصغر سنه، وأن البلاد في حاجة إلى رجل قوى يهابه الجند وتخشاه الرعية، فأصدر الخليفة مرسومًا بخلع "الناصر" وتولية "كتبغا" مكانه.
* سلطنة "كتبغا" أحداث عصيبة ونهاية مفجعة:
اقترنت مدة سلطنة "كتبغا" بأحداث شتى أثارت ضده الشعب، وجعلته يكرهه؛ فقد اشتد الغلاء، وارتفعت الأسعار، ونقص ماء النيل، وعم الوباء، وكثرت المجاعات، ولم يستطع السلطان أن يتصدى لكل تلك الكوارث، برغم الجهود التي بذلها.
وقد أغرى ذلك الأمير "لاجين" بانتزاع السلطة والاستيلاء على العرش، بعدها استدعى "الناصر محمد" وطلب منه السفر إلى "الكرك".
وسعى السلطان "لاجين" إلى التقرب من الناس عن طريق تخفيف الضرائب، كما حرص على تحسين صورته بين الرعية من خلال أعمال البر والإحسان التي قام بها، فحظي بتأييد الشعب له، خاصة بعد أن انخفضت الأسعار وعم الرخاء، وعمد "لاجين" إلى إظهار تقديره للعلماء، ونفوره من اللهو، وأحسن السيرة في الرعية. ولكن عددًا من الأمراء تآمروا عليه، فقتلوه وهو يصلى العشاء مساء الخميس (10 من ربيع الآخر 698هـ- 16 من يناير 1299م).
* العودة إلى العرش:
أصبح الطريق خاليًا أمام السلطان "الناصر محمد" للعودة إلى عرشه من جديد، واستقر الرأي على استدعاء "الناصر" فذهبت وفود من الأمراء إليه، وعاد "الناصر" إلى مصر، في موكب حافل، فلما دخل القلعة وجلس على العرش، جدد الأمراء والأعيان البيعة له، ولم يكن عمره يتجاوز الرابعة عشرة آنذاك، ولم يكد السلطان "الناصر" يتولى مقاليد الحكم حتى جاءت الأخبار بتهديد المغول لبلاد الشام، فخرج إليهم على رأس جيشه حتى وصل إلى دمشق. ولكن المغول تظاهروا بالانسحاب، وانخدع بذلك السلطان والأمراء؛ فتراخى الجيش، وخمد حماس الجنود، ولم يشعروا إلا وقد انقض عليهم المغول، وألحقوا بهم هزيمة منكرة؛ فرجع السلطان يجر أذيال الهزيمة، ولكنه لم يلبث أن أخذ يعد العدة للقاء المغول، ومحو عار الهزيمة التي لحقت به.
* الناصر محمد من نصر إلى نصر:
وعاد "المغول" مرة أخرى إلى الشام؛ فخرج إليهم السلطان بجنوده، والتقى الجيشان بطرق "مرج الصفر" بعد عصر السبت (2 من رمضان 702 هـ- 20 من إبريل 1302م)، وبرغم قوة "المغول" وكثرة عددهم فإن انتصار الجيش المصري في ذلك اليوم كان ساحقًا، وأظهر الجنود من الشجاعة والفروسية ما يفوق كل وصف.
وعاد السلطان في مواكب النصر، وعمت الفرحة أرجاء البلاد، وقد أدى هذا النصر إلى تحقيق نوع من الأمن والاستقرار الداخلي للبلاد، وأعاد إلى الدولة هيبتها وقوتها، خاصة أمام الأعراب الذين دأبوا على الإغارة على المدن والقرى والقيام بعمليات السلب والنهب والقتل، دون أن يجدوا من يتصدى لهم، وقد أرسل إليهم السلطان عدة حملات، حاصرتهم في الطرق والجبال؛ حتى قضوا عليهم وكسروا شوكتهم، وتخلص الناس من شرورهم.
وفي العام نفسه توج الناصر انتصاراته بهزيمة الصليبيين الذين كانوا قد نجحوا في الاستيلاء على جزيرة "أرواد" أمام ساحل مدينة "طرابلس" وأخذوا يهددون منها سواحل الشام، فأرسل السلطان حملة بحرية إلى تلك الجزيرة، استطاعت أن تحقق نصرًا عظيمًا على الصليبين؛ فقتلوا منهم نحو ألفين، وأسروا نحو خمسمائة آخرين، كما غنموا مغانم كثيرة.[32]
* التآمر على السلطان:
ولكن الأمور لم تسير بالسلطان الناصر على النحو الذي كان يتمناه، فبالرغم من حب الشعب لسلطانه وتعلقه به، فإن الأميرين (بيبرس الجاشنكير، وسلاد) راحا يضيقان على السلطان بعد أن اتسع نفوذهما، وقويت شوكتهما؛ فسعيا إلى التخلص منه، وحاصراه برجالهما في القلعة، ولكن جموع الشعب خرجت غاضبة ثائرة؛ فاضطروا إلى استرضاء السلطان، وشعر السلطان "الناصر" بالضيق؛ فخرج من مصر، واتجه إلى "الكرك" في شوال 708هـ- إبريل 1309م، وقرر ترك السلطنة والإقامة في "الكرك".[33]
وأصبح "بيبرس" سلطانًا على البلاد، إلا أن حركة المعارضة له أخذت تزداد يومًا بعد يوم، ونوافذ الأمراء على السلطان "الناصر" يطالبونه بالرجوع إلى العرش.
وبدأ "الناصر" يعد العدة لاسترداد عرشه، فلما علم "بيبرس" بذلك خلع نفسه من السلطنة، وأرسل كتابًا إلى الناصر يطلب منه الصفح، وأخذ ما استطاع أن يحمله من خزائن الدولة ليهرب به، لكنه فوجئ بالعامة وقد اجتمعوا عليه يريدون الفتك به؛ فأخذ يلقى إليهم بما معه من أموال، وينثر عليهم الذهب، ولكن العامة تركوا ذلك كله وراحوا يطاردونه، ففر إلى الصعيد.
* السلطان الثالث والعصر الذهبي لدولة المماليك:
عاد الناصر ليجلس على عرشه من جديد للمرة الثالثة في مستهل (شوال 709هـ: مارس 1310م)، وقد شهدت هذه الفترة من حكم السلطان الناصر- والتي استمرت نحو 32 سنة- ازدهارًا كبيرًا في مختلف النواحي، وكانت من أزهي الفترات في تاريخ الدولة المملوكية؛ فقد تمتعت مصر خلالها برخاء واستقرار كبيرين، فضلاً عن اتساع النفوذ الخارجي لسلطان مصر؛ فقد كان هو الذي يعين أشراف "مكة"، وامتدت سلطته إلى "المدينة"، وخطب ملوك اليمن وده، وصار اسمه يذكر في مساجد طرابلس وتونس، وأصبحت له علاقات ودية بالدول المسيحية في قلب أوروبا، كما أرسل مساعداته إلى سلطنة الهند الإسلامية ضد المغول الذين اشتدت إغارتهم على "الهند".[34]
* من مظاهر النهضة الحضارية والعمرانية في عصر "الناصر":
كما شهدت البلاد في عهد نهضة حضارية وعمرانية كبيرة؛ فقد اهتم ببناء العمائر الفخمة، فشيد "القصر الأبلق" و"مسجد القلعة"، واهتم بإنشاء الميادين العظيمة مثل: "ميدان الناصر"، وأقام "خانقاة" كبيرة للصوفية، شيد حولها عددًا من القصور، وأنشأ البساتين الجميلة، ولا تزال تلك المنطقة من ضواحي القاهرة، تحمل اسم "الخانكة" حتى الآن.
واهتم "الناصر" بشق الترع، وإقامة الجسور والقناطر، وإنشاء الخلجان؛ فحفر خليجًا امتد من القاهرة إلى "سرياقوس" مخترقًا أحياء القاهرة، وأقام عليه القناطر الكثيرة، مثل قناطر السباع، وأنشأ عدداً من البساتين منها بستان "باب اللوق"، كما أعاد حفر خليج الإسكندرية وتطهيره، ليستمر فيه الماء العذب طوال العام، وما زال هذا الخليج موجودًا حتى الآن، وإن تغير اسمه ليصبح "ترعة المحمودية".[35]
الخلاصة :
بعد مصرع الأشرف تولى أخوه السلطان الناصر محمد ابن قلاوون سنة 693هـ / 1293م . وتاريخ هذا السلطان المملوكي يدعو إلى الدهشة فقد تولى السلطنة ثلاث مرات ، تخللها نجاح أميرين مملوكين في انتزاع السلطنة منه في فترتين ، فقد نجح العادل زين الدين كتبغا ثم المنصور حسام الدين لاجين في تولي السلطنة دون الناصر لمدة أربع سنوات ( 694هـ - 698هـ ) .
رحيل السلطان "الناصر محمد":
وفي شهر ذي الحجة 741 هـ- يونيو 1341م، مرض السلطان الناصر مرضا شديدًا، ظل يقاسى شدته وآلامه حتى توفي بعد أحد عشر يومًا عن عمر بلغ سبعة وخمسين عامًا.[56]
ووصف المقريزي جنازة السلطان الناصر وصفاً مأثراً فقال : إنها وقعت بالليل ولم يسر ورائها سوى عدد قليل من امراء مصر ، وبذلك لم يشترك الشعب في توديع سلطانه الذي حباه بعطفه ومحبته ، كما لم تراع في تكفينه ومواراته التراب مراسم الإحترام والإجلال الائقين بسلكان عظيم مثل الناصر محمد ، تمتعت البلاد في عهده بكل أنواع الراحة والطمأنينة .. ويظهر أن ذلك العمل كان بتدبير بعض أمراء مصر الذين نقموا على الناصر شدته معهم .
أهم الآثار التي ترجع لعهد الناصر محمد ابن قلاوون – الفترة الأولى :
* لم يترك أي أثر خلال الفترة الأولى
أهم الآثار من عهد الناصر محمد
أهم الآثار التي ترجع لعهد الناصر محمد ابن قلاوون – الفترة الثانية :
· مدرسة الناصرية - مدرسة كراسنقرية - مدرسة الجمالية - إحياء المسجد الأزهر - إحياء مسجد الحاكم .
إحياء مسجد الصالح طلائع - · مسجد طيبرس .
أهم الآثار التي ترجع لعهد الناصر محمد ابن قلاوون – الفترة الثالثة :
· مدرسة طيبرسية - · زاوية الحمصي - · جامع الجاكي - · قصر القلعة - · قناة المياه (aqueduct )
· مدرسة السعيدية - · خانقاه أرسلان - · جامع القلعة - · جامع الأمير حسين - · مدرسة الملكية - · مدرسة الجاولية - · مقبرة أردوتجين - · مدرسة مهندارية .
· مدرسة بكتمرية - · جامع الخزاني - · جامع الماز - · جامع البرقية - · جامع قوزان - · جامع ساروجا - · مدرسة أقبغجية - · مقبرة تاشتمر - · قصر بشتاك .
· خانقاه قوان - · خانقاه سرياقوس - · جامع بشتاك - · جامع أيدمر .
السلاطين من أبناء الناصر محمد بن قلاوون
ظل ملك مصر في بيت الناصر محمد ابن قلاوون مدة 43 سنة ، وبلغ عدد أولائك السلاطين الذين تولوا العرش بعد وفاة الناصر محمد إلى نهاية المماليك البحرية 12 سلطاناً : توارث خلال العشرين عاما الأولى بعد وفاته 8 من أولاده متعاقبين ، ثم حكم بعد ذلك 4 من أحفاده .
أولاً : ظروف البلاد بعد وفاة الناصر محمد
بعد وفاة الناصر سنة 741 دخلت دولة المماليك البحرية في طور جديد من نظم الحكم ، وذلك بسبب كثرة عدد السلاطين الذين أعتلوا العرش ، وصغر سنهم ، وبسبب ظهور نفوذ الأتابكة بشكل جلي ، واشتداد التنافس بين الأمراء على النفوذ ، وجعلهم ألعوبة في أيديهم ، يعزلونه أو يبقونه على العرش حسب مشيئتهم .. وكان مصير أولائك السلاطين الخلع ثم النفي أو القتل ، وكان نفيهم في العادة إلى قوص أعظم مدن الوجه القبلي إذ ذاك أو إلى الكرك بالشام ، وأحياناً يظل بعضهم بقلعة الجبل على أن يمنع من الإتصال بالناس .. وبذلك ضعفت الدولة المملوكية واضطربت أحوالها وكثرت الفتن والقلاقل في جميع الأرجائها ...
سلاطين مصر من أبناء الناصر محمد :
سيف الدين أبو بكر ابن الناصر
تولى بعد وفاة الناصر ابنه سيف الدين أبو بكر سنة 741هـ / 1341م ، وتولى قوصون منصب ( أتابك ) ، وسرعان ما دب النزاع بينهما ، ونجح قوصون في قتل سيف الدين بعد ثلاثة أشهر من الحكم . فخلفه أخوه علاء الدين كرجك .
علاء الدين كجك ابن الناصر
كان علاء الدين كجك طفلاً في السابعة تقريباً ، وأصبح قوصون أيضاً أتابكاً ، وما لبث أن خلع السلطان بعد خمسة أشهر وولى ، أخاه أحمد الناصر .
أحمد الناصر
ما لبث أن خشي السلطان أحمد الناصر على حياته من قوصون فرحل إلى الكرك وأراد أن يتخذها مقراً له ، ولكن أمراء المماليك لم يرضوا عن تصرفه فعزلوه وولوا أخاه اسماعيل سنة 743هـ .
إسماعيل ابن الناصر
بدأ عهده بالزحف إلى الكرك والقضاء على أخيه أحمد الناصر . توفي إسماعيل سنة 746هـ .
شعبان ابن الناصر
بعد وفاة إسماعيل خلفه أخوه شعبان الذي خاف على نفوذه من أخويه حاجي وحسين فألقى بهما في السجن ، فثار عليه أمراء المماليك وخلعوه ، وولوا أخاه حاجى سنة 747هـ .
المظفر حاجى ابن الناصر
والذي بدأ عهده بقتل أخيه شعبان ، فثار أنصاره عليه وقتلوه بعد عام واحد من توليه السلطنة . فخلفه الناصر حسن ابن قلاوون .
يتبــــــــــــــــــع............