مطر وملائكة
وفي ليلة بدر أنزل الله مطرا خفيفا على المسلمين ثبت به الأرض من تحتهم، بينما كان المطر شديدا على معسكر المشركين، وغشي المسلمين في هذه الليلة نعاسٌ، ملأ النفوس طمأنينة، والأجساد راحة واسترخاء، وكانت حالة نفسية عجيبة وهي في حقيقتها مدد من الله تعالى لهم، ثم أوحى الله تعالى إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا، وألقى الله الرعب في قلوب الذين كفروا، ثم قلل الله تعالى عدد المشركين في أعين المسلمين، وقلل عدد المسلمين في أعين المشركين، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في منامه قلة لا قيمة لهم، ولا وزن.
وأثارت مسألة اشتراك الملائكة في بدر، أسئلة كثيرة، اختلفت حولها الآراء حول اشتراك الملائكة في القتال، غير أن ما تطمئن إليه النفس المسلمة أن مهمة الملائكة كما يشير صريح القرآن أنها كانت لتثبيت المسلمين في القتال، وليس لقتال المشركين، وذكر "ابن جرير الطبري" في تفسيره أن الروايات التي وردت في قتال الملائكة في بدر حريةٌ بألا تنقل، كما أن "ابن كثير" لم يذكر إلا رواية واحدة فقط رغم كثرة المرويات في هذا الشأن، كما أن عدد من قتلتهم الملائكة غير معروف ولا محدد، وإذا تتبعنا أسماء المقتولين في بدر لوجدنا أن غالبية من قتلهم أسماؤهم معروفة.
نصر وتمكين
"لئن كنا نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد فما بالله من طاقة".. كلمة حق قالتها "قريش" وصدقتها أحداث بدر، فعندما أصبح يوم 17 رمضان رحلت قريش إلى أرض المعركة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فوظف الظروف الطبيعية في أرض المعركة لصالحه، فسبق قريش إلى الميدان، وجعل الشمس في ظهره، أما قريش فكانت الشمس في أعينها.
حفز النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على القتال بعبارة قوية لا تحمل أي تردد أو خوف فقال: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فقال "عمير بن الحمام": "بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟!"، ثم سأل "عوف بن الحارث" النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا عجيبا فقال: "يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "غمسه يده في العدو حاسرا"؛ فنزع "عوف" درعا كانت عليه فقذفها ثم قاتل حتى استشهد.. كانت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم تسري في نفوس المسلمين بطريقة عجيبة، تفوق في تأثيرها من يمتلكه الكفار من عدد وعدة.
وعلى الطرف الآخر حاول أبو جهل أن يبث روحا في جنوده بالتوجه إلى الله بالدعاء!! فقال: "اللهم أقطعنا الرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم" فاستجاب الله ونصر المسلمين!!
كانت نصيحة الاستخبارات المكية التي قام بها "عمير بن وهب" ألا تقاتل قريش المسلمين، وقال لهم: "البلايا تحمل المنايا، نواضح (إبل) يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم".. ولكن إرادة الله سبقت.
بدأ القتال بمبارزة كان النصر فيها حليف المسلمين، فحمي القتال، وقتل 70 من المشركين، وأسر مثلهم، وكان من بين القتلى أئمة الكفر: "أبو جهل" و"عتبة وشيبة ابنا ربيعة" و"أمية بن خلف"، و"العاص بن هشام بن المغيرة". أما المسلمون فاستشهد منهم 14 رجلا، 6 من المهاجرين، و8 من الأنصار.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجثث المشركين فجمعت في بئر. ومن روائع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مراعاته لمشاعر أصحابه، والرفق بهم، وتقدير بعض ظروفهم الخاصة، فيروى أن المسلمين كانوا يسحبون جثة عتبة بن ربيعة لرميها في القليب (البئر)، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم تغيرا في وجه ابنه "حذيفة" فسأله عن سبب حزنه، فقال حذيفة: "يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك"، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير.
يسألونك عن الأنفال لا الأسرى
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة في بدر 3 أيام، لتحقيق عدة أهداف عسكرية ونفسية، منها مواجهة أي محاولة من المشركين لإعادة تجميع الصفوف والثأر للهزيمة، وهو ما يفرض استمرار بقاء الجيش المسلم في حالة تأهب واستعداد لأي معركة محتملة؛ لأن من الأسباب التي تصيب الجيوش المنتصرة بانتكاسات هو أن يسري بين الجنود أن العمليات العسكرية والحرب قد توقفت، فتهبط الروح المعنوية إلى أدنى مستوياتها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجنب المخاطرة بانتصاره، إضافة إلى أن البقاء في أرض المعركة هذه الفترة يتيح للجيش المسلم القيام بإحصاءات دقيقة عن خسائره وخسائر عدوه، وبعث رسالة نفسية إلى الجيش المهزوم أن النصر لم يكن وليد المصادفة.
كان من أهم الأمور التي أثيرت بعد بدر قضيتان مهمتان، هما "الأنفال" و"الأسرى"، وقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الأنفال التي ساءت فيها أخلاقهم كما يقول "عبادة بن الصامت"، إذ تنازع الناس في الغنائم من يكون أحق بها؟! فنزعها الله تعالى منهم وجعلها له تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم عاتبهم بغير عتاب كما جاء في بدايات سورة الأنفال بأن ذكرهم بضرورة إصلاح ذات بينهم، وذكّرهم بصفات المؤمن الحق التي يجب أن يتحلوا بها وينشغلوا بتحقيقها في أنفسهم قبل السؤال عن الغنائم، ثم مضت 40 آية من الأنفال، قبل أن يبين الله حكم تقسيمها، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بالتساوي بين الصحابة، وأعطى بعض الذين لم يشهدوا القتال لبعض الأعذار مثل عثمان بن عفان الذي كان مع زوجته رقية في مرضها الذي ماتت فيه، وأعطى أسر الشهداء نصيبهم من الغنائم.
أما الأسرى، فلم يسأل الصحابة فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغالبية العظمى كانت تميل إلى أخذ الفداء باستثناء "عمر بن الخطاب" و"سعد بن معاذ" اللذين كانا يحبذان الإثخان في القتل، لكسر شوكة الكفر فلا يقوى على محاربة الإيمان.
استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في أمر الأسرى، فأيدوا الفداء، إلا أن القرآن الكريم أيد الإثخان في القتل، لكن روعة الإسلام أن القرآن لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع عن القرار الذي اتخذ بعد الشورى حتى لا يصير الإعراض عن الشورى سنة في الإسلام، وأن يكون من قواعد التشريع الإسلامي أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا يُنقض، وإن ظهر أنه كان خطأ.
ومن روعة الإسلام أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء بعض الأسرى أن يقوموا بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهو إدراك لأهمية العلم الذي يساوي الحرية والحياة.
من مراجع الموضوع:
الطبري: تاريخ الرسل والملوك ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار المعارف ـ القاهرة (1968).
ابن هشام – السيرة النبوية – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة – الطبعة الثانية – 1997.
صفي الدين المباركفوري – الرحيق المختوم – دار الوفاء – المنصورة – بدون تاريخ.
علي محمد الهلالي – السيرة النبوية – دار التوزيع والنشر الإسلامية – القاهرة – الطبعة الأولى – 2001.
محمد رشيد رضا – تفسير المنار – الهيئة العامة للكتاب – القاهرة – بدون تاريخ.
سيد قطب – في ظلال القرآن – دار الشروق – القاهرة – الطبعة التاسعة – 1980.