السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كانت جمعية العلماء المسلمين تخوض معاركها الإصلاحية ضد الإستدمار الفرنسي وأذنابه، وضد دعاة الطرقية والدجالين والمشعوذين في أرجاء القطر الجزائري، وهذا لم يمنعها من الاهتمام والمشاركة بما يجري في العالم الإسلامي، وخاضت لذلك معارك ضد تيارات التغريب والمسخ في بلدان المشرق والمغرب، تجلى ذلك في الردود المتنوعة و تنبيه الناس وقراء صحفها ومجلاتها إلى مخاطر عملاء الاستعمار ودعاة الغزو الثقافي المباشر، الذي تزعمه خريجي مدارس التبشير أمثال سلامة موسى وهدى شعراوي، وأصحاب مجلة (المقتطف) وجريدة (المقطم): (يعقوب صروف، وأمين شميل، وشبلي شميل، وشاهين مكاريوس)، وأضرابهم ممن وهبوا أنفسهم للمحتل وثقافته، ومارسوا التبشير بثقافته وحضارته والتشكيك بهوية الأمة وحضارتها وقيمها وحتى كتابها، وهذا نموذج من رد الإمام ابن باديس على مقال نشر بمجلة (المقتطف) لصاحبها الدكتور يعقوب صرُّوف ( 1852-1927م ):
ما هكذا عهدنا أدب صروف
وقفت في جزء فيفري الماضي من مجلة "المقتطف" الكبرى على مقال من قلم تحريرها تحت عنوان " مفاخر الكلدانيين " جاء فيه قول كاتبه: " ...لقد جاء في بعض الخرافات العربية القديمة أن عاصفة من الرمل طمرت مدينة عاد فأصبحت بعد العاصفة ولا عين لها ولا أثر".
لا نشك أن كاتب المقال ليس مسلما كما لا نرتاب أنه لا يجهل أن قصة عاد من قصص القرآن [ الكريم ] فتعبيره عنها بالخرافة من سوء الأدب الذي ما عهدنا في الدكتور صروف الذي كان في علمه وفلسفته وشدة تحقيقه ديِّنًا صحيح التدين محترما لكتب الأديان الأخرى غير المسيحية، هذا من الوجهة الأدبية، وأما من الوجهة العلمية فإن الحكم على قصة مشهورة متواترة عند أمة بأنها خرافة بدون بحث ولا تدليل ليس من شان العلماء المحصلين.
ثم – بعد هذا- نقول في تحقيق هذه القصة القرآنية : إن القرآن العظيم كما يسلك في أدلته العقلية أقرب طريق وأوضحه كذلك يسلك في تذكيره أصدق المواعظ وأبلغها، وأنه كان يخوف العرب أن يحل بهم ما حل بالأمم قبلهم، ولقد خلت أمم قبلهم كثيرة جاءتهم رسلهم بالبّينات فكذبوا فأخذهم الله بالعذاب الشديد ، ولكن القرآن [ الكريم] كان يذكرهم ويخوفهم بمن هم قرب الأمم إليهم ممن كانوا في أرضهم العربية قد تواترت لديهم أخبارهم، ومثلت أمامهم آثارهم من قوم عاد سكان الأحقاف وقوم ثمود سكان الحجر.
وقد كان للتذكير بأحوال تلك الأمم التي هي في أرضهم ومن جنسهم ابلغ الأثر في نفوسهم كما كان من حديث عتبة بن ربيعة الذي رواه أصحاب السير: تلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم حم فصلت إلى قوله تعالى { صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود } [ سورة فصلت: 13 ]: فامسك عتبة بيده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف، وما كان محمد الرجل العظيم والمصلح الحكيم والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليجعل تذكيره الذي يريد التأثير به على سامعيه مما لا حقيقة له، ولو انه خاطبهم بما لا يعرفونه من أخبار تلك الأمم وتيقنوه لأسرعوا إلى تكذيبه فيما يقول، فسكوتهم – وهم أسرع الناس إلى مجادلته بالباطل- دليل قاطع على أن القصة كانت عندهم مما هو معلوم بالقطع من تواتر الخبر، ومشاهدة الأثر.
مجلة الشهاب: غرة ذي القعدة 1348هـ
الجزء الثالث المجلد السادس
(6/177).