من هذا التمهيد نصل إلى نتيجة مؤداها أن انكسار مشاريعنا القومية والاجتماعية ونشوء أنساق جديدة من القيم السياسية والاجتماعية وتدهور عمليات النهوض والتنمية، ارتبطت دائماً بالاحتكاك الغربي. ولعل في نموذج الانفتاح الاستهلاكي على الغرب في عهد الرئيس المصري أنور السادات على وجه التحديد مايقوم هنا كدليل قوي على مانقول.
ومن هنا أيضاً كان إدراك الغرب لأهمية فهم المجتمعات التي يقاتلها أو يتعامل معها دون أن تطول فترات التمهيد للاستغلال الاقتصادي، العسكري والسياسي. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن يسبق افتراس مصر من قبل الاحتلال البريطاني عام 1882 قيام الحملة الفرنسية في بداية القرن التاسع عشر، بوضع مؤلف "وصف مصر" الذي مثل الأداة المرجعية لكل عمليات النهب الاقتصادي والاجتماعي الذي عاشته مصر طوال الفترة السابقة لثورة 1952. وعليه عرفنا طوال المائتي عام الأخيرة من تطور الأمة العربية الإسلامية، أنه يسبق الاحتلال العسكري الغربي دائماً محاولات فهم واختراق لعقل الأمة من خلال نشاط العلماء والمؤسسات العلمية الغربية، أي أن "احتلال الوطن" كان يسبقه بانتظام - وكأنه قانون ثابت لتطور مجتمعنا العربي والإسلامي خلال تلك الفترة - احتلال "العقل العربي والإسلامي".
ومن ثم فإن مايسمى بالاحتكاك العلمي للغرب اليوم بمؤسسات وهيئات البحث العلمي والثقافي في الوطن العربي والإسلامي يخفي خلفه أغراضاً سياسية مبرمجة تهدف إلى احتلال العقل العربي والإسلامي والوجدان الثقافي أولاً، تمهيداً لاحتلال الوطن ثانياً ومنع قيام الوحدة الإسلامية والعربية.ليس معنى هذا أن هذه النتيجة تنسحب على جل أشكال الاحتكاك العلمي والثقافي مع الغرب، إن هذا يكون في تصورنا حكماً منافياً للواقع، لأن مايتم وفق خطط قومية وبرامج وسياسات مدروسة داخل بعض الأقطار العربية الإسلامية لا مؤاخذة عليه مادام قد أدرك وخطط ووعى حجم وأبعاد هذا الاحتكاك. إلا أن ما ندينه، وننبه إليه هو ذلك النوع العشوائي من الاحتكاك العلمي مع الغرب والذي يخفي خلفه سياسات متضاربة ومصالح ضيقة لدى بعض الأفراد أو الهيئات، والتي يستثمرها بوعي الغرب، وتحديداً (الولايات المتحدة، ومن ثم إسرائيل) في مرحلة مابعد حرب عام 1991، خير استثمار فيتغلغل في صمت ويتقدم بشكل مبرمج وبنوايا مسبقة لهزيمة العقل العربي واحتلاله تمهيداً لاحتلال الوطن.
وهنا يثار سؤال: أليس هناك فارق بين الغرب وبين إسرائيل في مسألة الاحتلال العقلي هذه؟ وهنا تقدم المعلومات المتاحة حتى الآن الإجابة بنفسها بدون حاجة إلى تنظير يربط بين إسرائيل والولايات المتحدة في مجال الاختراق الثقافي والعقلي ليس اليوم (1999) فحسب بل ومنذ سنوات طويلة مضت. ففي دراسة هامة لكولن نورمان منشورة في مجلة Science الأمريكية بالعدد (215) في 5/2/1982 ( ص 639) كشف بالأرقام للدور التاريخي الذي تلعبه وكالة التنمية الأمريكية منذ بداية التطبيع بين مصر وإسرائيل في مجال الربط والدعم المادي بين علماء مصر وإسرائيل وأنها في عامين فقط دعمت المشاريع المشتركة بين علماء مصر وإسرائيل في مجال الزراعة والبحث العلمي بـ 15 مليون دولار من خلال ثلاثة مشاريع كبرى(11)، ولعل هذا هو السر في التدهور المتتالي للزراعة المصرية في عهد وزيرها الحالي (د. يوسف والي) الذي يتولى هذه الوزارة منذ 17 عاماً وكان -وهذا هو الخطير - المشرف على هذه المشاريع عام 1982 وفقاً للمجلة الأمريكية السابق الإشارة إليها وكان وقتها يعمل وكيلاً لوزارة الزراعة المصرية(!!) فهل هي مصادفة أن يصبح بعدها وزيراً لأهم مجال اقتصادي مصري ولقرابة العقدين من الزمان؟! والنماذج عديدة للغاية وخطيرة(12).
هذا بالإضافة إلى الدور الهام الذي تقوم به الجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة ومؤسسات فورد فونديشن الأمريكية، وهيئة المعونة الأمريكية ومعهد الـ "إم أي تي" الأمريكي والمركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة من الدول العربية ومراكز البحوث الأمريكية في بلدان المنطقة، وأيضاً ماتقوم به المؤسسات الأوروبية الكبرى (مثل: فريدرش ايبرت وهانز زيدال، فريدرش نومن الألمانية) من ربط بين العلماء والمثقفين اليهود ونظرائهم من العرب تحت دعوى التعاون العلمي والبحوث المشتركة والممولة; من هنا فإن العلاقة وطيدة بين الاحتكاك العلمي الغربي بالمنطقة العربية والإسلامية وبين الدور الصهيوني واليهودي بداخله، خاصة في تلك المجتمعات التي تغيب فيها رقابة الدولة القطرية على السياسات الثقافية والفنية والعلمية بإجمال وتتركها للعشوائية الفردية التي ازدهرت في السبعينات والثمانينات والتسعينات ولعل في دراسة "النموذج المصري" أو في التدليل عليه وفي رصد تناميه في ظل مايسمى بنظام العولمة الجديد الذي صارت (المعلومات) فيه ذات قيمة عظمى لصانع القرار الغربي تجاه منطقتنا خير معين على ذلك.
ثانيا: التحدي الداخلي (تناحر المسلمين فيما بينهم وفرقتهم)
إن التشرذم السياسي والاقتصادي والثقافي الراهن بين بلاد الإسلام يمثل أحد أبرز العوائق أمام وحدة المسلمين وعزتهم في المستقبل. ولقد كان أغلب قادة أمتنا من المفكرين والعلماء مدركين لهذه الحقيقة منذ قرون من الزمان ولعل الأقرب إلى الذهن هنا ما سبق وقدمه السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده والشيخ حسن البنا وصولاً إلى الإمام الخميني(رحمه الله).
وإذا ما تأملنا حركة التاريخ العالمي - والإسلامي بخاصة - سوف نلحظ هذا التحدي بارزا وعارضاً لنفسه أمام سياسات الفرقة أو كما سماها المفكر الإسلامي الراحل (د. كليم صديقي) سياسات (التفسيخ والكفر) الذي لابد أن تواجهها سياسات (التوحيد والعزة) والتي تأتي الثورة الإسلامية في إيران على قمتها.
إن وحدة المسلمين وتحديدا وحدة قوى حركة الإحياء الإسلامي تشكل خاصية ملازمة للخطاب السياسي عند كبار علماء الإسلام خلال هذا القرن سواء من أهل السنة أو الشيعة وفي طليعة هؤلاء يأتي الإمام الخميني وذلك لأنه أدرك بوعيه وإيمانه أهمية الوحدة وضرورتها الحياتية لكل المسلمين، ونجده يقول في هذا الصدد أنه إذا كان "هدفنا هو الإسلام - فإنه لا يتحقق إلا بوحدة المسلمين في كل أرجاء العالم والاتحاد مع جميع الدول الإسلامية للوقوف صفاً واحدا في وجه الصهيونية وإسرائيل وكل الدول الاستعمارية". وجاء ذلك بمناسبة مرور عام على انتفاضة 15 خرداد - 5 يونيو 1962 في إيران إبان حكم الشاه المقبور. ومن وجهة نظره هذه الوحدة لابد "وأن تسودها قيمة العدالة" وكذلك هو يطلب من الجميع التعاون فيما بينهم لبسط العدالة الإسلامية التي هي الطريق الوحيد لسعادة الأمة(13).
وقد أوصى جميع مسلمي العالم بالاتحاد في وجه الطواغيت ويرى أن النداء هو أدق الأساليب "يا أيها المسلمون في كل أرجاء العالم، أيها المستضعفون الرازحون تحت سيطرة الظالمين: انهضوا وتعاضدوا متحدين ودافعوا عن الإسلام وعن مقدراتكم ولا تهابوا ضجيج الطواغيت، فهذا القرن بإذن اللّه القادر، قرن غلبة المستضعفين على المستكبرين وغلبة الحق على الباطل"(14).
ولم يجد حرجا في مد يده بالمساندة لجميع جبهات التحرير بالعالم الإسلامي "إني أمد يدي بحرارة إلى كافة المسلمين الذين ينتهجون سبيل التحرر من نير الاستعمار، ويعملون في سبيل الاستقلال السياسي الصحيح، وكسر سلاسل الأسر الاجنبي"(15).
وصرح أيضا "نحن نشارك جميع المظلومين في العالم ونساعد ونؤيد جميع المظلومين بالعالم" ويؤكد على قوله في تحديد معسكر الأعداء وفي مساندة جبهات التحرر: "اني أكرر مساندتي لجميع الحركات والجبهات والمجموعات التي تناضل لأجل التحرر من مخالب القوى العظمى اليسارية واليمينية"(16).
ثالثاً: التحدي الدخيل (الكيان الصهيوني في فلسطين)
الكيان الصهيوني المزروع في قلب أنبل مقدساتنا الإسلامية في فلسطين التي باركها اللّه بمسجدها الأقصى وسلالة الأنبياء والأولياء الأطهار الذين عاشوا بها أو مروا عليها، يمثّل واحداً من أكبر عوائق نهضة المسلمين وعزتهم في القرن العشرين، وسيظل هذا الكيان السرطاني (على حد تعبير الإمام الخميني) في المستقبل، أحد أبرز العوائق الاستراتيجية التي تحول دون تقدم الأمة الإسلامية ورقيها.
إن خريطة الواقع السياسي والثقافي الصهيوني داخل فلسطين تؤكد أننا أمام أبلغ وأعظم لحظات اكتمال المشروع الإسرائيلي في فلسطين، وأن ليس هناك أي تحولات حقيقية تتطلب التلاعب بها أو الحوار معها لكي ننفذ إلى هذا الكيان فنحقق مطالبنا بدلا من الجلوس على الرصيف وفقا لأحدث الابتكارات اللفظية للكاتب الصحفي المصري الراحل لطفي الخولي الذي قاد تحالف كوبنهاجن إلى أن سقط رغم أنه كان من كبار الداعين للكفاح المسلح ضد إسرائيل!!
وهذه هي حقيقة الواقع الصهيوني بأرقام باردة:
1- حجم ميزانية وزارة الدفاع عن عام 1999 هي 9/8 مليار دولار بنصيب 5و16% من الميزانية العامة مع ملاحظة أن هذه الميزانية للدفاع عن سكان لايزيد عددهم على 5 ملايين... ومع جبهات عربية كلها تقريبا صامتة إما وفق اتفاقات رسمية أو بفعل القوة المفروضة.
2- إسرائيل تحتل المرتبة الخامسة بين دول العالم في تصدير أسلحة الدمار الشامل (والقول لصحيفة جورنادو جنيف الدولية يوم 19/10/1997).
3- حصلت إسرائيل منذ عام1948 على 84 بليون دولار من الولايات المتحدة الأمريكية فقط.
4- في السجون الإسرائيلية قرابة الـ 25 ألف معتقل فلسطيني يتعرضون لعمليات تعذيب جسدي ونفسي بشع (منظمة العفو الدولية97).
5- اليمين الإسرائيلي يحوز على 76 نائبا من 120 نائبا هم أعضاء الكنيست وما يسمى بـ"اليسار" الداعي للحوار المزعوم لايمثل سوى 4 مقاعد!!
6- برنامج دعاة السلام وحوار الصهاينة يستبعد القدس و80% من الضفة والجولان ومياه جنوب لبنان من أي مفاوضات سياسية قادمة، أما برنامج تكتل "الليكود" فحدث ولا حرج حيث لا يقبل سوى بـ 70% يردها من الضفة لعرفات ويردها متفرقة ووفق تغلغل استيطاني عسكري بين القرى والمدن (يعني تركها يكون أفضل من إعطائها) والمحصلة من هذا جميعه سقوط اتفاق "أسلو" وتوابعه (فعلى أي أساس يكون الحوار الثقافي أو السياسي حتى بين المؤمنين بهذا الـ "أوسلو".
7- عدد الفلسطينيين في الداخل 2و3 مليون، وعددهم خارج فلسطين 5 ملايين وملف اللاجئين من الملفات المرفوض الحوار حولها حتى مع دعاة السلام (حزب العمل وحركة السلام الآن وغيرها) فإلى أين سيذهب هؤلاء؟ وعلى أي أساس سيتم الحوار إلا إذا كان هؤلاء أحد ملفاته!!
8- عدد المستوطنات الإسرائيلية يصل إلى 303 مستوطنات داخل الضفة وغزة وهي تزداد توسعا وهي مبنية وفق تصور هندسي وعسكري عدواني دقيق!!
9- أعلن مثقفو حزب العمل الإسرائيلي وهم من أصدقاء (لطفي الخولي وعبد المنعم سعيد وأدونيس وغيرهم من دعاة الحوار الوهمي) عام 1996 برنامج حزبهم الاستراتيجي حتى عام 2000 والذي ورد فيه مايلي:
أ - القدس موحدة عاصمة إسرائيل وتحت سيادة إسرائيل (القدس الكبرى ثلث الضفة).
ب - نهر الأردن هو الحدود الأمنية الشرقية لإسرائيل - إن إجراءات الفصل بين إسرائيل وتجمعات العرب تتم استجابة لاحتياجات الأمن الإسرائيلي والحفاظ على الهوية اليهودية.
جـ - السيادة على خور الأردن وشمال غرب البحر الميت والمنطقة الممتدة بين بيت لحم والخليل ومناطق أخرى حيوية لأمن إسرائيل.
د - الإبقاء على كل المستوطنات القائمة تحت السيطرة الإسرائيلية.
فعلى أي أساس إذن سيتم "الحوار" ومع من إذا كان دعاته الفعليون والحركيون والذين ذهبوا إلى (كوبنهاجن) و"القاهرة" وتل أبيب هم أصحاب الرؤية السابقة؟ وهل سيحتج علينا البعض مرة أخرى ليدعو أننا أمام حمامة سلام، وأن هذا (كلام جرايد)!!
إذن إليكم المزيد..
10- يقول أحد أهم التقارير الاستراتيجية الدولية (تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية - لندن) عن بيانات القوة العسكرية لإسرائيل عام 1997 أن بيانها المرعب كالتالي:
1- قوات عاملة 175 ألف جندي
2- قوات احتياطية 430 ألف جندي
3- حجم القوات عند التعبئة 605 ألف جندي
4- القوات البرية 134 ألف جندي
5- دبابات القتال الرئيسي 4300 دبابة
6- العربات المدرعة - ناقلات الجنود 9880 عربة
7- قطع المدفعية وراجمات الصواريخ 4500 قطعة
8- الطائرات المقاتلة والقاذفات 699 طائرة
9- المروحيات المسلحة 126 طائرة
10- الغواصات 2 غواصة
11- صواريخ أرض - جو 100 صاروخ يحمل رؤوسا نووية
أما أسلحة التدمير الشامل فيقدرها البعض بمائة قنبلة نووية وقدرات كيمياوية غير محدودة.
هذا هو الكيان الصهيوني في فسلطين الذي يمثل بحق وعن جدارة أحد أبرز العوائق الراهنة والمستقبلية التي تحول دون عزة المسلمين وتقدمها، وهو كيان لا يقيم أي اعتبار للاعتراضات الدولية أو ما يسمى بالشرعية الدولية، وهو كيان يستند إلى دعم أمريكي مكشوف وعنصري فاضح، ولعل تأمل عدد اليهود الصهاينة في إدارة كلينتون يكشف سر هذا الدعم وأبعاده.
وبعد.. إن وحدة المسلمين تقف دونها عقبات عدة، اقتصادية وسياسية وثقافية ولكن أخطر العقبات في تقديرنا هي هذه التحديات الثلاثة: الخارجية والداخلية والدخيلة، وهي تشكل مجتمعة منظومة متراكمة ومتداخلة علينا التصدي لها بالفكر والعقل والقوة، فالصمت عليها سوف يؤدي بهذه الأمة إلى مصائر مجهولة من الضياع وهو عين مايريده الغرب، فلننبه ولنحذر ولنقد أمتنا إلى طريق الحق، طريق الوحدة. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.