منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الجريمة الدولية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-12-30, 00:36   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 تابع للفصل الثاني

إن ضـرورة ووجـوب توافـر الركـن المعـنوي أمـر لا جـدال فيه لقـيام الجريمة الدولـية، ولكن الإرادة والعـقل والتمـييز صـفات طبيعـية لا تثبـت إلا للأفـراد، ولهذا فإنه وللإجـابة على هـذا التساؤل يجب أولا أن نبحـث فيمـن يتحـمل المسؤولـية في القانـون الدولـي الجـنائي: الفـرد أم الدولـة؟
المطـلب الثانـي: الخـلاف حـول من يتحـمل المسؤولـية في نطـاق القانون الدولي الجنائي
إن تحـمل المسؤولـية الجنائـية عند ارتكاب الجـريمة الدولية ليست محـل جـدل في القانـون الدولـي الجـنائي من حيث أساسـها، بل أن ينصب على محـل هذه المسؤولية، وبناء على هذا الاخـتلاف البـين انقسم الفقه الدولي الجـنائي المعاصـر بالنسبة للمسؤولية عن الجريمة الدولـية إلى ثلاث مذاهـب هي:
المذهـب الأول: مسؤولـية الدولـة
يرى أنصـار هذا المذهـب أن الدولـة وحـدها هي المسئولـة عن الجـريمة الدولـية، ويستند هـذا الرأي إلى القول بأن الدولـة هي وحـدها الشخـص المخـاطب بأحـكام القانـون الدولي، فهي التي توقـع المعاهـدات الدولية وتلتـزم بها، وباعتـبار الدولـة تكويـنا اجتماعـيا له سلطـة سياسـية، وبما أن المنافـع الناجـمة عن هذه السلطـة تؤول إليها، فمن الممكن إذن مساءلتها جنائـيا عما ارتكبته بسبب السلطـة .
تعتبر هذه المسؤولـية ضـرورة عملـية في مجـتمع منظـم قانونـيا، إذ لا يجـدر أن تكون هناك حريـة دون مسؤولـية، وقد اعتـرض كل من ممثل بريطانيا وفرنسا في محكمة نورمبورغ على نظريـات إعفاء الدولـة من المسؤولية الجنائـية وعدم خضوعـها للقانـون.
غير أن الفقـيه "Hartly Shawcross" وصف هذه النظريـات بأنها باطلـة ومنافـية للعدالـة، لأنها تعلـن أن الدولـة ذات السـيادة لا يمـكنها ارتكاب أي جريـمة، كما لا يمكن اقتـراف أي جريـمة دولـية إلا من قبل أشخـاص يتصـرفون باسمـها .
كان لموضـوع المسؤولية الجنائـية عن الجرائم الدولـية التي ترتكب باسم الدولـة نصـيب وافـر من النقـاش على المستـوى الدولـي، سـواء كان ذلك من قبل الفقـه الدولـي، أو الهيئات العلمـية غير الرسمـية، أو على الصعـيد الرسمي، إذ دار معظم هـذا النـقاش حـول تعـيين الشخـص القانونـي الذي تسـند إليه المسؤولية الجنائـية: هل هـو الدولـة؟ وهل يمكن مساءلتها جنائيا أم تتم مساءلـة الفـرد؟ أم هل تسنـد المسؤولية للاثنـين معا؟
نوقشـت هذه المسألـة أيضا أمـام الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة ، وأمـام لجـنة القانـون الدولـي ، وتم بحـث هذه المسألـة جـيدا أمـام اللجنـة السادسـة التابعـة للجمعـية العامـة، وذلك بمناسـبة الاقتـراح الذي تقدمـت به بريطانـيا حـول تعـديل المـواد 10 و07 و05 من مشـروع اتفاقـية إبـادة الأجـناس.
فقد أثـارت بريطانـيا إقحـام مسؤوليـة الدولـة الجنائـية عن جـرائم إبـادة الأجـناس، التي ترتكبها أو التي تسمـح بارتكابها، وذلك بتعـديل المادة 05 من مشـروع الاتفاقـية التي تنص على مسؤولـية الأفـراد فقط، وذلك حـيال الصياغـة التالـية محـلها: "أن المسؤولـية الجنائـية عن أي عمل من أعمال إبـادة الأجـناس، وفـق ما هو منصـوص عليه في المواد 02 و04 سوف لا يقتصـر على الأفـراد والجمعـيات، بل إنها تشـمل أيضا الدول والحكومـات وأعضاء أو سلطـات الدولـة الذين يقترفـون تلك الأفعـال" ، فيما أشار الفقيه "أمـادور" في أول تقـرير يرفعـه إلى لجـنة القانـون الدولـي إلى أن مسؤولـية الدولـة الجـنائية أمـر يستحـق الدرس ومسألـة تستحـق التأمـل.
مما تقـدم، يبـدو أن هناك من يؤكـد فكرة مساءلـة الدولـة جنائـيا عن الجرائم التي ترتكب باسمـها، فهي جـرائم ترتكبها الدولـة بواسطـة أفـراد ليس بصفاتهم الفرديـة وإنما بصفاتـهم الرسمـية أو بصفـتهم أعضـاء دولـة .
ويعـود ذلك لكون هذه الجـرائم ترتكب باسم الدولـة، وبالتالي توصـف بأنها جـرائم ارتكبتها الدولـة، مما يؤدي إلى إثـارة مسؤوليتها الجـنائية لحكامها، والسـؤال المطـروح في هذا الصـدد: مـاذا يعـني وصف مسؤولية الدولـة عن الجرائم المرتكبة باسمها بأنها مسؤوليـة جنائية؟
وبما أن الدولـة مـا هي إلا شخـص معنـوي، وهي هيئة قائـمة على أسـاس الافتـراض والتصـور، فإن الإشـارة إلى مسؤولية الدولـة الجنائية يعني بالضبط المسؤولـية الجنائـية لشعـب الدولـة بأجمـعه عن الجـرائم التي يرتكبها أعضاء الدولـة، وهل هذا يستقـيم مع قواعد القانـون الدولي الجـنائي، ومع المبادئ العامـة للقانـون الجـنائي الوطني.
لقد ثـار نقـاش واسع في أوسـاط الفقـهاء حـول هذه المسألـة، فتعـددت النظريـات، لكن عند الرجـوع إلى وثائـق القانـون الدولي الجـنائي لم يـرد فيها ما يشـير إلى إقـرار مفهـوم مسؤولـية الدولـة الجنائـية، كما لم يـرد في الأنظـمة الأساسـية للمحـاكم العسكريـة الدولـية في نورمبورغ وطوكـيو مـا يشـير إلى ذلك، ولا في معاهـدات الصلح التي أبرمـت عام 1947 ولا في تقنين الجـرائم ضد أمـن وسـلم البشريـة .
لقد أشرنـا سابقا أن هذه الفكرة طرحتها بريطانـيا عندما قدمـت اقتراحـا بتعديل المادة 05 من مشـروع اتفاقـية إبـادة الأجـناس، إذ تم طـرح الموضـوع أمام اللجـنة السادسة في الدورة الثالثة لانعـقاد الجمعـية العامـة، ودار حولـه نقاش مستفيـض، لكن أغلبية الممثلـين في اللجنة عـارض وجـهة النظـر البريطانـية، فتم التسلـيم بعـدم خضـوع غير الأفراد للمساءلـة الجنائـية عن إتـيان جـرائم باسم الدولـة، الأمـر الذي أدى ببريطانـيا إلى سحـب اقتراحها، كما دخـلت المسألة موضوع المناقشـة أمام القانـون الدولي، فأنـكر أغلـب أعضـاء اللجـنة وجـود صـورة لمسؤولية الدولـة، وهي المسؤولية الجـنائية .
يتضح من جميع ما تقـدم، أن فكرة مسؤولية الدولة الجنائية لا وجـود لها في القانـون الدولي، مع أن المسؤولية عن الجرائم المرتكبة باسم الدولـة تثـير نوعـين من مسؤولـية الدولـة ومسؤولية الأفـراد العاملين باسمـها، إلا أن مسؤولـية الدولـة مدنـية عن خـرق جسـيم للقانـون الدولي، يترتب عنها غالـبا عقوبـات مالـية واقتصاديـة.
المذهـب الثانـي: مسؤوليـة الأفـراد الطبيعـيين
يرى أنصـار هذا المبدأ أن المسؤولية الجنـائية المترتـبة عن الجـريمة الدولـية يكون محـلها الأشخـاص الطبيعيـون فقط، أسـوة بالقانـون الجـنائي الداخـلي الذي يمـيل نحو الفرديـة، أي الاهتمام بالفـرد بوصـفه مقترفـا للجـريمة، ولكي يكون هذا الفرد مسـؤولا جنائـيا يجب أن يكون مدركـا وحـر الاختـيار.
وعليه، فإننا نقـرر أن هذه المبادئ الخاصـة بالمسؤولـية مطبـقة بحذافـيرها على الجـريمة الدوليـة، ولم يعتـرف القانـون الجـنائي الدولـي إلا بالمسؤولية الجنائية المترتبة على الأفراد الطبيعيين .
كما أكـد هذا المذهـب أيضا أن الأفـراد الذين يتصرفـون للدولـة أو بناء على أمرهـا، أو برضاها هم محـل المسؤولية الجنائية الدولـية، وبالتالي فإن الاتهامـات المخـتلفة والموجـهة ضد الأفـراد المتصفين بصفتـهم الرسمـية في أعمال الحكومـة، ويكونـون محـلا للمسؤولية الجـنائية الدولـية.
كمثال على ذلك، كانت تصريحـات الحـلفاء طـوال فترة الحـرب العالمية الثانـية بمحاكـمة النازيين، بوصفـهم أفـرادا طبيعـيين لإثـارتهم الحـرب، وارتكابهم جـرائم الحـرب والجـرائم ضد الإنسانـية، كما جـاء في المبدأ الأول من مبادئ نورمبورغ: "إن كل شخـص يرتكب عمـلا يعد جـريمة دولـية يكون مسؤولا، وبالتالي يخـضع للعـقاب".
أيـد مشـروع التقـنين الخـاص بالجـرائم ضد سـلم وأمـن البشريـة هذا المبدأ في مادته الأولى، التي جـاء فيها: "إن الجـرائم ضد أمـن وسلم البشريـة المذكـورة في هذا التقنين تعـد جرائم دولـية، ويجـب معاقـبة الأشخـاص الطبيعـيين المسؤولـين عنها".
وبالرجـوع إلى لائحـة نورمبورغ في مادتها الأولى، تنص على: "أن المحكمة تخـتص بمحاكـمة وعقاب كل الأشخـاص الذين ارتكبوا شخصـيا، أو بصفتهم أعضاء في منظـمات أثناء عملهم لحـساب دول المحـور جـرائم دولـية".
جـاء في حـكم المحكمة: "إنهم رجـال أولئك الذين اقترفـوا الجـرائم الدولـية، وليسـوا كائـنات مجـردة، ولا يمكن كفالـة واحـترام نصـوص القانـون الدولي إلا بعـقاب الأفـراد الطبيعـيين مقترفـي هذه الجـرائم".
كما جـاء في المادة الرابـعة من اتفاقـية منع جريـمة الإبـادة الجماعـية والمعاقبة عليها 1948: "يعاقـب مرتكبو الإبـادة الجماعـية، أو أي من الأفعال الأخـرى المذكورة في المادة الثالثة سواء كانوا حكامـا دستوريين، أو موظفـين عاديين أو أفـرادا".
كما ورد في المادة الثالثة من الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري (1973) ما يلي: "تقـع المسؤولية الجـنائية الدولية، أيـا كان الدافـع، على الأفـراد وأعضاء المنظـمات والمؤسسات وممثلي الدولـة، سـواء كانوا مقيمين في إقليم الدولـة التي ترتكب فيها الأفعـال أو إقليم دولـة أخـرى".
نخـلص أخـيرا إلى أن الحـكام والقـادة هم الذيـن تتوافـر لديهم النوايـا الإجـرامية، ولذلك يثبـت في حـقهم الاستناد المعـنوي والمسؤولـية الجنائـية، التي تتطـلب إدراكـا وتمـيزا واختـيارا، لا تتوفـر في الدولـة باعتـبارها شخصـية معنويـة.
وبإقـرارنا المسؤوليـة الجـنائية للأفـراد الطبيعـيين فقط، نكون قد جنبـنا الأبريـاء من الشعـب عبء تلك المسؤولية، لأنهم كانـوا غائبين عن أولئك الحـكام أو القـادة الذين أصـدروا القـرار الإجـرامي، وهذا مـا يتماشـى مع مبـادئ العدالـة ومبدأ شخصـية المنصـوص عليه في معظـم القوانـين الجـنائية المعاصـرة والقانـون الدولـي الجـنائي .
إن الاعتـراف بالمسؤولـية الفرديـة عن الجـرائم الدولـية، يتضـمن معنـى تفـويت الفـرص على المجـرمين الحقيقـيين، وتغلـيب فكـرة العدالـة على الانتقـام، بحيث لا تبقي المغامـرات الشخصـية والاستهـتار بمصـائر الشعـوب عمـلا يتقـنه بعـض الحـكام الذين يأملـون من ورائه تحـقيق المجـد لأنفسـهم.
وأخـيرا، فقد تعـزز مبـدأ المسؤولـية الفرديـة عن الجـرائم الدوليـة بعـدة مبادئ في نطـاق القانـون الدولـي الجنائـي، نذكـر منها مبـدأ سيـادة أو سمـو القانـون الدولـي على القانـون الداخـلي بحـيث أجـمع الفـرد محـلا للمسؤولـية في القانـون الدولـي الجـنائي مباشـرة، ومبدأ مسؤوليـة رئيـس الدولـة أو الحـاكم لاقترافـه الجـريمة الدولية، ومبـدأ عـدم جـواز الاحتجـاج بالأمـر الصـادر عن رئيس لإعفاء الفـرد من مسؤوليته عن الجريمة الدولية .
و إذا تطرقنا في هذا الموضوع إلى آخر الوثائق الدولية حداثـة في مجـال القانـون الدولي الجـنائي، نجـد وأن ميـثاق رومـا الأسـاسي قد أقـر الرأي الراجـع إلى مسؤولـية الفـرد الجنائـية دون غيـره مهما كانت الصـفة التي يحـملها، فلقد نصـت المادة 25 من النظـام الأسـاس للمحـكمة الجنائـية الدولـية على أنـه:
1- يكون للمحـكمة اختصـاص على الأشخـاص الطبيعـيين عملا بهذا النظام الأساسـي.
2- الشخـص الذي يرتكب جـريمة تدخـل في اختصـاص المحـكمة يكون مسئـولا عنها بصـفة فرديـة، كما يصبح عرضـة للعـقاب وفـقا لهـذا النظـام الأسـاسي.
3- وفـقا لهـذا النظـام الأسـاسي يسـأل الشخـص جنائـيا ويكون عرضـة للعـقاب بأحـد الأفعـال المذكـورة في الفقـرات مـن أ إلى و.
4- لا يؤثـر أي في هذا النظـام الأسـاسي يتعـلق بالمسؤولـية الجـنائية الفرديـة في مسؤولية الدولـة بموجـب القانـون الدولـي.
وما يلاحـظ على هذه المادة أن واضعـيها تأثـروا بالاتجـاه المعاصـر للقانـون الدولي الجـنائي في الأخـذ بالمسؤولـية الفرديـة للأشخـاص الطبيعـيين عند ارتكابها للجـرائم الدولـية، وقد حـذت المادتان 27 و28 حـذو المادة 25، إذ أشارتـا إلى مسؤولـية قـادة ورؤسـاء الدول والموظفـين السامـيين فيها، سـواء كانـوا إداريين أو منتخـبين، عن الأعمال المرتكبة من طرفهم أو بإذنهم أو بإهمالهم أو بتجاهلهم، والموصوفـة كجـرائم دولـية، وأن مسؤوليتهم الجنائية هذه مسؤولية شخصـية، وأن صفاتهم الرسمـية لا تعفيـهم من مسؤولـية، ولا تشكل في حـد ذاتها سـببا لتخـفيف العقوبـة.
المطـلب الثالـث: صـور الركـن المعنـوي في الجـريمة الدولـية
تتخـذ إرادة الفرد في اتجاهـها لتحـقيق الجريـمة إما صـورة الإرادة الواعـية التي تقصد إحـداث النتيجة على النحـو الذي حـدده القانون وتسـمى القصـد الجـنائي، أو تتخـذ صـورة الإرادة المهمـلة التي تقـوم بالفعـل فتقـع النتيجـة عن غير قصد منها وتسمـى الخطأ.
إذا مـا قارنا بين القصد الجنائي والخطـأ غير العمـدي، سنجـد الأول يفـوق الثانـي في الأهمـية، فالأصل في الجـرائم أن تكون عمديـة، والاستثـناء أن تكون غير عمديـة، ولذلك كانت الجـرائم العمديـة أكـثر عـددا، وهي إلى جانب ذلك أشـد جسامـة وأشـد عقابـا .
وإذا سلمنا بأن الركن المعنوي في الجريـمة الدوليـة كما هو في جـرائم القانـون العام أساسـه الإثم ( أو الخطأ بمعناه الواسع )، فإن الخطأ تبعا له صورتـان هما العمـد والإهـمال، أو كما ذكرنا سابقا القصد الجنائي والخطأ ( بمفهومه الضيق )، وقد رأينا أن القانـون الدولي الجـنائي يعاقـب على الجـرائم المرتكبة بإهـمال، حيث أجـمع القضـاء الدولي والوطني على وجـوب معاقـبة الرئيس الأعلى عن الجرائم التي مرؤوسوه في حال امتناعه بإهمال عن منعهم من ارتكابها .
أولا: القصـد الجنائـي
يعـرف بأنه "إحاطـة الجـاني بكل العناصر المكونة للواقعـة الإجـرامية مع تحـقيقها"، مما يترتب عن ذلك منطقـيا انتـفاء القصد الجـنائي عند انتـفاء أحـد العنصـرين .
تتفـق أحكام القانون الدولي الجـنائي في هذا الشأن مع القانـون الجـنائي الداخـلي، إذ تتطلـب الجـرائم الدولـية العمديـة قـيام القصد الجـنائي المكون من عنصري العلم والإرادة.
1- عنصـر العلم في القصـد الجـنائي
العلم حالـة ذهنـية وظاهـرة نفسـية تعني نشـوء علاقـة بين أمـر وبين النشاط الذهني لشخـص من الأشخـاص، فتغـدو هذه الواقـعة عنصـرا من عناصر الخـبرة الذهنـية التي يخـتزنها الشخـص، بحيث يستطـيع الاستعانـة به في حكـمة على الأشـياء، وفي تحـديد كيفـية تصرفـه إزاء الظـروف المحيـطة به .
إن عناصـر الواقـعة الإجرامـية التي يلـزم العلـم بها لقـيام القصـد هي كل العناصر الضروريـة التي يتطلـبها المشـرع لإعطـاء الواقـعة وصفـها القانـوني بحيث يمـكن تميزهـا عن الوقـائع الأخـرى المشروعـة وغير المشروعـة.
وإذا كان العـلم شـرط لتوافـر القصـد الجـنائي، فإن الجـهل أو الغلـط في الوقـائع الأساسـية التي تقـوم عليها الجـريمة يؤدي إلى انتـقاءه، فالجـهل يعنـي انتـفاء العـلم، كما أن الغلـط يعنـي العـلم على نحـو يخـالف الحـقيقة، وفي كلـتا الحـالتين ينتـقي العـلم، بحـقيقة الواقـعة وينتـفي معها القصـد الجـنائي.
ويتطـلب القانـون الدولـي الجـنائي وجـوب عـلم الجـاني بالوقـائع الإجـرامية ليقـوم بذلك القصـد الجـاني، بل وقد تشـددت محـكمة نورمبـرغ فاشترطـت ضـرورة توافـر العلـم الحـقيقي بجـميع العناصـر المكونـة للجـريمة لقـيام القصـد الجـنائي، مؤكـدة على أن الجـهل بالوقـائع أو الغلـط فيها ينفي القصـد الجـنائي.
لقد اعتبـرت تلك المحكمة في أغلبـية أحكامـها أن القصد غير المباشـر (القصـد الاحتـمالي) غير كـاف لقـيام المسؤولـية العمديـة بالنسـبة لنتائج الفـعل الإجـرامي التي لم يتوقعهـا الجـاني، وحكـمت محـكمة نورمبـرغ ببـراءة المتـهم شاخـت من المساهـمة في الأعمال التحضيرية للحـرب، لأنها لم تتوصـل إلى ثابـتة حـول تأكـيد واقعـة « Schacht » علمـه بالنوايـا العدوانـية ضد السـلام، كما حكمت ببراءة "Von Pan" لعـدم ثبـوت القصـد الجـنائي لديـه.
2- عنصـر الإرادة في القصـد الجـنائي:
تعـد الإرادة العنصـر الأسـاسي في القصـد الجـنائي، إذ يعاقـب الإنسان لأنه مسئول أدبـيا عن أفعالـه التي أتـاها بإرادتـه الآثمـة، وهي التي يعـول عليها في إسـناد التصرفـات الجـرمية إليه وعقابـه عنها، ولا تكون الإرادة آثـمة إلا إذا كانت مدركـة، أي لديها مكانـة التمـيز بين الأفـعال المحرمـة والمباحـة.
كما لا تكون كذلك إلا إذا كانت مخـتارة، أي لديـها قـدرة على المفاصـلة بين دوافـع السلـوك، يبينـه الإقـدام على مـا هو مبـاح والإحجـام عما هو محظـور، والقانـون الدولـي الجـنائي هو الآخـر يقـيم المسؤوليـة على أسـاس أدبـي لذلك، فالركـن المعنـوي في الجـريمة الدولـية، كما هو في جـرائم القانـون العام أساسـه الإثـم، أي الخـطأ بمفهومـه الواسـع ، والذي يعـبر عنه بالعمـد الذي تتجـلى فيه إرادة الجـاني إتـيان ماديـات الجريـمة بصـورة جلـية.
ثانـيا: الخـطأ
قد تقـع الجـريمة بدون قصـد، وبالرغم من ذلك تتم مساءلـة الجـاني لأنه لم يتجـنبها إذا كان باستطاعتـه ذلك، فالجـاني هذا أخطـأ، والخطـأ يعـني الإهمـال أو الرعونـة أو عـدم الاحتـياط أو عـدم الانتـباه، ويجـد الخطـأ تطبيقاتـه في القانـون الداخـلي على نحـو يفـوق كثيـرا تطبيقاتـه في القانـون الدولـي، لكون معظـم الجـرائم الدولـية هي جـرائم عمديـة.
ولكن هناك جـرائم دولـية غير عمديـة، فالضـابط الذي يقصـف إحـدى المـدن بهـدف ضـرب العسكريـين لكنه يخـطئ ويصيـب الأبريـاء يعـد مرتكـبا لجـريمة دولـية بالخطـأ، إذا ثبت أنه أهمـل ولم يحـتط للأمـر، وإنه كان بوسـعه تجـنب إصابـة المدنـيين الأبريـاء، ويبقى القصـد الجـاني هو الصـورة الأعم في قـيام الركـن المعنـوي في الجـرائم الدولـية ، وهذا ما نصـت عليه أحـدث النصـوص الدولـية فنجـد المادة 30 من نظـام رومـا الأسـاسي تنص على مـا يلي، تحـت الركـن المعنـوي:
1- ما لم ينص على غير ذلك لا يسأل الشخـص جنائـيا عن ارتكاب جـريمة تدخـل في اختصاص المحـكمة، ولا يكون عرضـة للعـقاب على هذه الجريـمة، إلا إذا تحققت الأركـان الماديـة مع توافـر القصـد والعـلم.
2- لأغـراض هذه المادة يتوافـر القصـد لدى الشخـص عندمـا:
أ – يقصـد هـذا الشـخص، فيما يتعـلق بسلوكـه، ارتكاب هذا السلـوك.
ب - يقصد هذا الشخـص، فيما يتعـلق بالنتيجـة، التسبـب في تلك النتيجـة، أو يدرك أنها ستحـدث في إطـار المسـار العادي للأحـداث.
3- لأغـراض هـذه المادة، يعـني مصطـلح "العلـم" أن يكون الشخـص مدركـا أنه توجـد ظـروف أو ستحـدث نتائج في المسـار العـادي للأحـداث، وتفسـر كلمـتا "يعـلم" أو "عن علـم" تبـعا لذلك.
المطلـب الرابـع: موانـع المسؤولـية الجـنائية فـي مجـال الجـريمة الدولـية
تتمـثل إمـا في انعـدام الوعـي، أو انعـدام الإرادة، أو على الأقـل الانتـقاض منهـما، وفي الحـالتين تنتفـي المسؤولية الجـنائية، ويستحـيل بالتالي توقيـع العقوبـة على الفاعـل دون أن يخـل هذا بإمكانـية إنـزال التدابـير الاحـترازية به متى توافـرت خطورتـه الإجـرامية .
ويقصـد بموانـع المسؤوليـة تلك الظـروف الشخصـية التي توافـرها لا تكـون لإرادة الجـاني قـيمة قانونـية في توافـر الركـن المعنـوي للجـريمة، ولذلك فموانـع المسؤولـية تباشـر أثـرها على الركـن المعنوي للجريمة فتنفـيه، ومثل ذلك الإكـراه المعنوي، وأسباب انعـدام الأهلـية كالجـنون، وصغـر السـن .
إن القانون الدولي الجنائي يتماشـى مع هذا الاتجـاه، ويقـر بموانـع المسؤوليـة التي تتمـثل في عيـب بالأهلـية الجـنائية للجـاني، أو في عيـوب تمـس إرادته ورضـاه، فقد نصت المادة 31 عن أسـباب وموانع المسؤولية الجـنائية في ظل النظـام الأساسي للمحـكمة الجنائـية الدولية المعتمـدة بروما في 17/07/1998.
بالإضافـة إلى أسباب امتناع المسؤولية الجنائية المنصـوص عليها في النظام الأساسي، فإن الشخـص لا يسـأل جنائيا إذا كان وقت ارتكابه السلـوك ضمن هذه الحـالات:
أ – يعانـي مرضـا أو قصـورا عقلـيا، بعـدم قدرتـه على إدراك عدم مشروعـية أو طبيـعة سلوكـه، أو قدرتـه على التحـكم في سلوكـه بما يتماشى مع مقتضـيات القانـون.
ب – في حالـة سكر، مما يعدم قدرتـه على إدراك عدم مشروعـية أو طبيـعة سلوكـه، أو قدرته على التحـكم في سلوكه بما يتماشى مع مقتضيات القانـون، ما لم يكن الشخـص قد سكر باخـتياره في ظل الظـروف كان يعلم فيها أنه يحـتمل أن يصدر عنه نتيجة السكر سلـوك جريمة تدخـل في اختصاص المحكمة أو تجـاهل فيها هذا الاحـتمال.
ت – يتصـرف على نحو معقـول للدفـاع عن نفسه أو عن شخـص أخـر، أو يدافـع في حالة جـرائم الحـرب عن ممتلكات لا غنى عنها لبقاء الشخـص أو شخص أخـر، أو عن ممتلكات لا غنى عنها لإنجـاز مهـمة عسكرية ضد استخـدام وشيك أو غير وشيك للقـوة، وذلك يتناسب مع درجـة الخـطر الذي يهـدد هذا الشخص أو الشخص الآخـر، أو الممتلكات المقصـود حمايتها واشتراك الشخص في عملية دفاعـية أن تقوم بها قوات لا تشكل في حـد ذاتها سببا لامتناع المسؤولية الجـنائية بموجب هذه الفقـرة الفرعـية .
ث – إذا كان سلـوك المدعي يشكل جـريمة تدخل في اختصاص المحكمة قد حـدث تحت تأثـير إكراه ناتج عن تهديد بالمـوت الوشـيك، أو بحـدوث ضرر بدني جسيـم مستـمر ضد الشخص أو الشخص الآخـر، وتصـرف تصرفـا لازمـا ومعقـولا لتجـنب هذا التهـديد، شريطـة ألا يقصد الشخص أن يتسبب في ضـرر أكثر من الضرر المراد تجـنبه، ويكون ذلك التحـديد:
1- صـادرا عن أشخـاص آخريـن.
2- أو تشـكل بفعـل ظـروف أخـرى خارجـة عن إرادة ذلك الشخـص.
أولا: موانـع المسؤولية الناشـئة عن انعـدام الوعـي
هذه الموانع إذا تم استخلاصها من مخـتلف التشريعـات القانونـية فإنها تتمـثل في: صغر السن، الجـنون، الغيبوبـة الناشئة عن السكر الاضطـراري، وفي هذه الأحـوال الثلاثة يتجـرد الشخص من ملكة الوعـي أو الإدراك، ويتجـرد من القدرة على فهم دلالـة أفعالـه وإدراك توابعـها القانونـية .
1- صغـر السـن: قد يكون سببا في انتـفاء الوعي كليا أو عـدم كفايـته، إذ ينبغي على المسؤولية الجـنائية أن تتعامل على أساس تلك الحـقيقة، إلا أن الوعـي والإرادة لا تتوافر للصغـير دفعـة واحـدة وإنما تدريجـيا، وبغض النظر عن اخـتلاف التشريعات حـول السن التي يكون فيها الصبي ممـيزا، والتي يكون فيها بالغا، فإن المادة 26 من نظـام رومـا الأساسي نصت على ما يلي: "لا يكون للمحـكمة اختصاص على أي شخـص يقـل عمـره عن ثمانـية عشـر عامـا وقت ارتكاب الجـريمة المنسوبـة إليه".
2- الجنـون أو الحالـة العقلـية: الجـنون هو فقـدان الشخـص لملكاته العقلـية على نحو يترتب عليه تجـرده من الوعي والقـدرة على التمـييز ، وقد تعرضـت اللجـنة الدولـية المكلـفة بتحضـير وإنشـاء محكمة دولـية في الباب الثانـي مكرر من المبادئ العامة للقانـون الجـنائي، لمسألـة الجـنون وقصـور القدرة العقلـية إلى عدة اقتراحـات أهمـها :
أ - لا يكون الشخـص مسؤولا جنائـيا ( يكون الشخـص مجنونا بموجـب القانون ) إذ عانى وقت تصرفـه بارتكاب الجـريمة من مرض عقلي أو قصور عقلي يسفر عن افتقـاره إلى القدرة الجوهريـة التي تلزمـه لتقدير الطـابع الإجـرامي ( عـدم المشروعـية ) لتصرفـه، أو تلزمه لمطابـقة تصرفه مع مقتضـيات القانـون، وتسبب ذلك المرض العقـلي أو القصـور العقلي، في تصـرف يشكل جريمة، وفي حال عدم افتقار الشخص إلى قدرة جوهرية تتماشى طبيعتها ودرجتها مع ما ذكر في الفقرة الأولى، وإن كانت تلك القدرة قد قلـت إلى حـد بعـيد وقت تصـرف الشخص يتعـين أن يخـفف الحـكم.
ب – الاخـتلالات العقلـية، إذ لا تقع المسؤولية الجـنائية على الشخص الذي كان مصابـا عند وقـوع الفعل باخـتلال عقلي أو عصبي ألغى قدرته على التمـييز أو السيطـرة على أفعالـه.
تقع المسؤولية الجنائية على الشخص إذا لم تؤد الاختلالات العصبـية التي كان مصابـا بها عند وقـوع الفعل إلى التأثـير على قدرته على التمـييز، أو على قدرته على التمييز، أو على أفعـال دون إلغائها، وتأخـذ المحكمة هذه الظـروف بعين الاعتـبار الحكم بالعقوبـة وتحـديد نظـامها.
تبلـورت هذه الاقتراحـات من خلال ما ورد في نص مشروع التحضير لإنشاء محكمة جنائية دولـية بنص المادة 25 فقرة ( أ ) المشار إليه سابـقا تحـت عنـوان: "أسباب نفـي المسؤولـية الجنائـية" ، حيث جـاءت صياغتـها كما يلي:
"بالإضافـة إلى الأسباب الأخـرى لنفي المسؤولية الجنائـية، التي يسمح بها النظام الأسـاسي، لا يكون الشخص مسؤولا جنائيا إذا كان وقت تصرفـه يعـاني من مرض عقلي أو قصـور، حيث يلغى ذلك الشخص على تقدير عدم مشروعـية سلوكه أو طابعـه أو قدرتـه على التحـكم في تصرفـه بما يتماشى مع مقتضـيات القانـون، وقد تأكـد ذلك من خـلال المادة 31 من نظـام رومـا الأسـاسي للمحـكمة الجـنائية الدولـية المعتمـد في رومـا يوم 17/07/1998 .
3 - الغيبوبـة الناشـئة عن السكر والمـواد المخـدرة: يقـرر المشـرع اعتبار الغيبوبـة الناشئة عن تناول مـادة مسكرة أو مخـدرة مانـعا من موانع المسؤولية الجنائـية إذا تم ذلك اضطـرارا أي بدون علم الجـاني، أو بعلم لكنه بدون إرادتـه، فالشخص الذي يرتكب جريمة تحت وطأة هذه الظروف تمتنع مساءلته جنائيا ، وقد تعرضت اللجـنة الدولية للقانـون الدولي بإنشاء محكمة جنائـية دولية إلى السـكر في الباب 03 مكرر، وأشـارت أنه: "يكون الشخص مخـمورا أو في حالـة تخـدر إذا كان يعجـز تحت تأثيـر الكحـول أو المخـدرات وقت القيام بالفعل الذي يشكل في ظـروف مغايـرة جـريمة، عن صياغة عنصر الإضمـار التي تتطلبه الجريمة المذكـورة، ولا ينطـبق هذا الدفـاع عن الشخص يتعاطى الخـمر طوعـا، وقد تبينت النـية سلفا على ارتـكاب الجـريمة".
وقد نصت المادة 31 الفقـرة (ب) من نظام رومـا الأساسي أسباب امتناع المسؤولية الجـنائية بأنه: "في حالـة سكر مما يعـدم قدرته على إدراك عدم مشروعـية أو طبيـعة سلوكـه، أو قدرته على التحكم في سلوكه بما يتماشى مع مقتضيات القانـون، ما لم يكن الشخص قد سكر باخـتياره في ظل الظـروف يعلم فيها أنه يحـتمل أن يصدر عنه نتيجـة السكر سلـوك بشكل جريـمة تدخـل في اختصاص المحـكمة فيها هذا الاحتـمال".
ونلاحـظ أن هذه المادة فرقـت بين نوعين من السـكر: الأول غير الاختـياري، والثاني هو السكر الاختياري، ففي الحالة الأولى أين يكون الشخص فاقـدا للشعـور والإدراك نتيجـة السكر أو التخـذير تم دون إرادتـه، فيجـعل لسكره هذا أثـرا مانـعا للأهلـية بالنسبة للأفعال المرتكبة أثناء الغيبوبـة، وبالتالي لا يمكن توجـيه أي لـوم إلى إرادته في هذا الشأن، وتتحـقق تلك الفروض في حالة القـوة القاهـرة، وفي الحـالات التي يتناول فيها المسكر على غير علم من الجـاني بأن ما تناوله يعتبر مسكرا، كما لو قدمـه له آخرون بطريقة الحـيلة والخـداع، أو كان هو حسن النية فيما يتناولـه جاهـلا حقيقـة ما يتناولـه، معتقـدا أنها مادة غير مسكرة .
ثانـيا: موانـع المسؤولـية الناتجـة عن انعـدام الإرادة
لا يكفي لقـيام المسؤولية الجـنائية توافـر الوعـي أو التمـييز لدى مرتكب الجـريمة، بل يجب أن يكون متمتـعا بحـرية الاخـتيار، فقد يكون الجـاني ممـيزا واعـيا للحـقيقة والدلالات، ولكنه قد يتجـرد في نفس الوقت من إرادته كلـيا، كما في حالـة الإكـراه المادي أو ما شـابه ذلك كالقـوة القاهـرة، وقد ينقـص من إرادته فحسب على نحو يجعـلها إرادة مقيـدة غير حـرة، ومثال ذلك حالـة الإكـراه المعنـوي .
1- الإكـراه:
يعتـبر الإكـراه بنوعـيه إذا بلغ حـدا من الجسامـة بحيث يجـرد الإرادة اختيارهـا، من موانع المسؤولـية الجـنائية في التشريعـات الوطنـية الجـنائية، وقد اعتبر الإكـراه كذلك فيما يتعلـق بالجـرائم الدولية، وذلك في أحـكام كثيرة صـدرت بعد الحـرب العالمـية الثانـية، وهي نصـوص القوانـين الخاصـة الصـادرة بخصـوص محاكـمة مجـرمي الحـرب، حيث اعتبـرت الإكـراه عـذرا نافـيا للمسؤولـية الجـنائية في حالـة توفـر الشـروط التالية:
أ – إذا ارتكبت الجـريمة لتجـنب خطر حال وجد، ولا يمكن تعويض الضرر بعد حصوله.
ب – أن لا تكون هناك وسائل للتخـلص من هذا الخطر .
يرى الفقيه "بيلا" أن الإكـراه المادي يمنع المسؤولية في القانون الدولي الجـنائي سـواء بالنسبة للدول أو للأفـراد، ومن المعلوم أن هذا الفقيه يرى أن الدولـة قد تكون جـانية ومسؤولـة في القانـون الدولي الجـنائي، ويضـرب مثلا للإكـراه المادي للدولـة القويـة التي تغـزو بجيـوشها أرض دولـة صغـيرة، وتعـتبر أراضيها لمهاجـمة دولـة ثالثة، فتتركها تلك الدولـة الفقيرة بذلك، وتتخـذ من أراضيها قاعـدة للهجـوم لعدم قدرتها على المقاومـة .
يترك للقضاء السلطـة التقديرية في مدى تأثـير الإكـراه على سلب حرية الاختيار وفـقا لظروف كل قضية وملابسـاتها، فقد جـاء في قضاء المحكمة العسكرية الأمريكية في نورمبـرغ (ppurK) ما يشـير إلى ذلك، إذ أن تأثير الإكراه على الإرادة يجب أن يحـدد بمعايير شخصية وليست موضوعيـة، وفي قضية ( Einsatz Gruppen ) من نفس السنة وأمام نفس المحكمة، وردت في حيثيات حكمها أنه: "لا يوجد هناك قانون يلـزم الشخـص البريء بالتضحـية بحـياته أو أن يقاسـي آلامـا خطـيرة من أجل تجنـب ارتكاب جـريمة ما".
كما توصلت لجـنة القانون الدولي سنة 1950 بعد اختلاف كبير في آراء أعضائها إلى أن الإكـراه الحاصل على شخـص بسبب الأوامـر العلـيا يجـعل اختـياره مفقـودا، ومنه المسؤولية الجنائية تنتفي عنه، وقد وضعت هذه اللجـنة الصيـغة التالية: "إن حقيقة كـون الشخـص قد عمل طبـقا لأوامـر حكومته أو رئيسه الأعـلى سـوف لا يكون سببا لإعفائه من المسؤولـية طبـقا للقانـون الدولي، شـرط أن تكون حـرية الاختيار متاحـة له في الواقـع" .
نصت المادة 14 من مشـروع مدونة الجـرائم المخـلة بسلم وأمـن الإنسانـية: "لا تعتبر جريمة الأفعال المرتكـبة في معـرض الدفـاع الشرعي أو تحت الإكراه أو في حالة الضرورة" .
وكذلك نصت المادة 31 فقرة ( د) من نظام رومـا الأساسي للمحكمة الجـنائية الدولية عن أسباب امتناع المسؤولية الدولـية: "إذا كان السلـوك المدعي أنه يشكل جريـمة يدخـل في اختصاص المحكمة قد حـدث تحت تأثير إكـراه، ناتج عن تهـديد بالمـوت الوشيك، أو بحـدوث ضرر بدني جسيم مستمـر أو وشيك ضد ذلك الشخص أو شخص آخر، وتصرف الشخص تصرفـا لازمـا ومعقـولا لتجنب هذا التهديد، شريطـة ألا بقصد الشخص أن يتسبب في ضـرر أكـبر من الضرر المراد تجنبـه، ويكون ذلك التهـديد صادرا عن أشخاص آخرين، أو تشكل بفعل ظـروف أخرى خارجـة عن إرادة ذلك الشخص، فهذا الشخص لا يسأل جنائيـا إذا توافـرت فيه هذه الشروط وقت ارتكاب هذا السلـوك".
2- الغلـط:
لا يتوافـر الركن المعنـوي للجريمة إلا بتوافر عنصري إرادة النشـاط والعلم المتمثل في المعرفة أو الإحاطـة بكافة عناصر الواقعـة الإجرامـية، كما هي محـددة في نموذجـها الإجرامي بالنص القانونـي، وإذا انعـدم هذا العمل كان هناك ما يسمى بالجهل، وإذا توافر ولكن على نحو زائف أو مغاير للحـقيقة، كان هناك ما يسمى بالغلـط، وكلاهما معـدم للعمـد، الذي لا يقوم الركن المعنوي في الجـرائم العمدية إلا به .
يتطلـب القانـون الدولـي الجـنائي وجـوب علم الجـاني بالواقـع الإجـرامي، بل تشددت محكمة نورمبرغ فاشترطت ضرورة توافـر العلم الحقيقي بجمـيع العناصر المكونة للجـريمة لقيام القصد الجـنائي، مؤكدة على أن الجـهل بالوقائع أو الغلط فيها ينفي القصد الجنائـي.
وقد اعتبرت في معظم أحكامها أن القصد غير مباشر ( القصد الاحتمالي ) غير كاف لقيام المسؤولية العمدية بالنسبة لنتائج الفعل الإجرامي التي لم يتوقعها الجاني، وبناء على تشددها القائل بوجـوب توافر القصد الجنائي المباشر في الجرائم الدولية، حكمت محكمة نورمبرغ ببراءة "شاخت" من المساهمة في الأعمال التحضيرية للحـرب، لأنها لم تتوصل إلى أدلة ثابتة حول تأكيد واقعة علمه بالنوايا العدوانـية ضد السـلام .
أما إذا انصب الغلط في القانـون، فهناك قاعـدة عامة في التشريعات الجنائية الحديثة تقضي بأن: "الجهل بالقانون لا يعتبر عـذرا" ، فلا يقبل من الجـاني احتجاجه بجـهل القانـون أو أنه وقع في الغلط أثناء تفسـيره.
في مجـال القانـون الدولي الجنـائي الحـديث، وردت عدة اقتراحات أثناء إنشاء محكمة جنائية دولية لعام 1998، خصت الغلط في الواقع أو في القانون وحصل نقاش فقهي بين مؤيد ومعارض، ولكن واقع القانون الدولي وطبيعة القواعد تدعم وجـهة نظـر الذين أنكروا تطبيق تلك القاعدة في نطاقه، إذ أنه في القانون الدولي يجـعل من مسألة تجـوز نشاط الفرد محيطه الوطني لبلوغ المحيط الدولي يشكل أمـرا استثنائيا.
تشير إلى ذلك تقارير لجنة الأمم المتحدة لجـرائم الحـرب، حيث ورد في أحد تقاريرها إشارة إلى أن فقهاء القانون غالبا ما عارضوا تطبيق قاعدة الجهل بالقانون لا يعتبر عذرا في نطاق القانون الدولي بصورتها المطلقة، لكون الفاعل لا يحسب حسبانا للإلمام بقواعد القانون الدولي كما هو الحال عليه في قانونه الوطني، الذي يكون على اتصال دائم به من خلاله تجاربه: "فكل شخص لابد من أن يحيط علما وأن يكون في وضع يمكنه من الإحاطة بما تحرمه القوانين الوطنية، لكن ليس من المعقول أن تفترض علم الجندي البسيط بكل الأفعال المحرمـة طبقا للقانون الدولي" .
و لذلك فتطبيق قاعدة (( الجهل بالقانون لا يعتبر عذرا )) في القانون الدولي بشكل مطلق أمر يتنافى مع طبيعة قواعده المتجددة، لذلك نجد أغلب المحاكمات التي دارت بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص مجرمي الحرب اعتبرت الجهل بالقانون الدولي عذرا نافيا للعنصر المعنوي، وبالتالي للمسؤولية الجنائـية.
وكما تطرقـنا سلفا أثناء تحليلنا للركن المـادي للجـريمة الدولية وكيفية تجليه في نماذج كثيرة من تلك الجـرائم بإحـدى صـوره المتماثلة في السلوكيين السلبي والإيجابي، فإن الركن المعنوي للجريمة الدولية يتجـلى بوضـوح في جـريمة الحرب مثلا، بصفتها جريمة عمدية يتطلب ركنها المعنوي ضـرورة توافـر القصـد الجـنائي وهو القصد العام الذي يتكون من العلم والإرادة، فيجب أن يعلم الجـاني أن الأفعال التي يأتيها تخالف قوانين وعادات الحـرب كما حددها القانون الدولي العام الجنائي في العرف والمعاهدات والمواثيق الدولية، فإذا انتقى هذا العلم انتقى القصد الجنائي، ولا تقع الجـريمة، ولا يكفي أن يثبت الجاني أنه لا يعلم بالمعاهـدة التي تحـظر هذا الفعل، وإنما يجب عليه أن يثبت عدم علمه بالمعروف الدولي الذي يحرمه، كما لا يكفي لانتقاء العلم الامتناع عن التوقيع عن المعاهدة التي تحـظر الفعل، إذ أن الامتناع في حد ذاته يؤكد سوء نية الدولة المبيتة ، فإذا كان المجتمع الدولي لا يستطيع إرغام أي عضو فيه على التوقيع، فإنه مع ذلك يعتبره مسؤولا عن الجريمة الدولـية.
في جريمة الإبادة الجماعية التي تعد من الجرائم العمدية يجب أن يتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي، الذي يتكون من العلم والإرادة، ولكن لا يكفي لتوافر هذا القصد تحقيق القصد العام فقط، وإنما يجب أن يتوافر إلى جانبه قصد خاص وهو قصد الإبادة.
يجب أن يعلم الجاني أن فعله ينطوي على قتل أو ايذاء جسدي أو عقلي جسـيم، وأن يعلم أنه يقع على مجموعة ترتبط بروابط قومـية أو أثنية أو عرقية أو دينية، كما يجب أن تتصرف الارادة إلى ذلك الفعل، وإلى جانب القصد العام السابق يجب أن يتوافر لدى الجاني قصد خاص وهو "قصد الإبـادة"، أي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة معيـنة.
إذ أن ينصرف علمه وإرادته أيضا أثناء ارتكاب الأفعال المادية السابقة إلى إبادة كلية أو جزئية لأعضاء تلك الجماعة، لذلك يمكن تصـور وقـوع جريمة الإبادة حتى ولو لم تتحقق الإبادة بالفعل، طالما أنه صدر عن الجـاني الأفعال المادية السابقة، وكان قصده مركـزا على إبادة تلك الجماعـة.
المبحـث الرابـع: الركـن الدولـي للجـريمة الدولـية
المطلـب الأول: تعريـف الركـن الدولـي
يقصـد بالركـن الدولـي قـيام الجـريمة الدولـية بناء على تخـطيط مدبـر مـن الدولـة، أو مجموعـة من الدول، وتنفـذ الدولـة الجريـمة الدولـية بالاعتـماد على قوتـها وقدرتـها ووسائـلها الخاصـة .
أحيانـا، قد ينفـذ الجريـمة بعـض الأفـراد، ومع ذلك يتوفـر للجـريمة الدولـية ركـنها الدولـي، إذا مـا تصـرف هـؤلاء باسـم الدولـة أو كوكـلاء عنها، أو بالاستعـانة بقدراتـها.
وبذلك، فالجريمـة الدولـية هـي مـن صنـع الدولـة، أو مـن صنـع القـادرين على اتخـاذ القـرار فيها، أو بناء على توجـيهها وإرادتـها، إذ يصعـب على الفـرد مهما عـظم اسمه أن يرتـكب الجريـمة الدولـية بإمكانياتـه ووسائـله الشخصـية.
المطـلب الثانـي: شـروط وعناصـر الركـن الدولـي
بما أن الركـن الدولـي هـو الذي يمـيز الجـريمة الدولـية عن الجريمـة الجنائـية الداخـلية، فإنه يمكن القـول أن لهذا الركـن جانـبان:
الجـانب الأول: شخـصي
يتجـسد في ضـرورة أن تكون الجـريمة الدولـية باسـم الدولـة، أو برضـا منها، ومع أن السلـوك في الجـريمة الدولـية يرتكـبه الشخـص الطبيـعي، أي الإنسان، فإنـه لا يرتكبه بصفـته الشخصـية تلك، وإنما بناء على طلـب من الدولـة، أو باسمـها، أو برضـا منها.
الجـانب الثانـي: موضـوعي
يتمـثل في أن المصلحـة المشمولـة بالحـماية لها صـفة دولـية، فالجـريمة الدولـية تقـع مساسـا بالمصـالح، أو قيـم المجـتمع الدولـي، أو مرافـقه الحيويـة .
يتدخـل القانـون الدولـي الجـنائي هنـا ليسـبغ حمايـته الجنائـية على هـذه المصـالح، لكـون العـدوان عليـها يخـل بالدعـائم الأساسـية التي يقـوم عليها بنـيان المجـتمع الدولـي، كما يهـدد جهـود تنظـيم العلاقـات الدولـية على أسـاس الـود والتـفاهم بين الدول.
وتتضـح الصـورة أكـثر لبيـان الركـن الدولـي في الجـريمة الدولـية، إذ عند استعراض أنـواع هـذه الجـرائم يتحـقق الركـن في جريـمة التمـييز العنصـري مثلا حـين ترتـكب أفـعال التمـييز السابـقة بـناء على خطـة سياسـية رسمـتها الدولـة، وتنفذهـا أو ترضى بتنفيذهـا، سـواء من طرف الحـكام وكبار المسؤولـين، أو من طرف الموظفـين أو حتى الأفـراد العاديـين.
وتقـع جـريمة التمـييز العنصـري سـواء كـان الجـاني تابـعا للدولـة والمجـني عليه تابـعا لدولـة أخـرى، وهـذا هـو الركـن الدولـي بمعـناه الدقـيق، أم كـان الجـاني والمجـني علـيه تابعـين لدولـة واحـدة، وهـذا هـو الاستثـناء من الركـن الدولـي بمعـناه السابـق، وذلك نظـرا لطبيعـته الخاصـة التي تتمـيز بها الجـرائم ضد الإنسانـية بصفة عامة .
وهـكذا تقـع المسؤولـية الدولـية الجنائـية أيـا كـان الدافـع على عاتـق الأفـراد وأعضـاء المنظـمات والمؤسسات وممثـلي الدول، سـواء كانـوا مقيمـين في إقلـيم الدولـة التي ترتكب فيها الأعمـال، أو في إقلـيم دولـة أخـرى، وهـو مـا أشـارت إليه المادة الثالـثة من الاتفاقـية الدولـية لقمـع جريمـة الفصـل العنصـري في فقرتـها الأولـى .
تتم مساءلـة الجمـيع لتحمـيلهم مسؤولـية دولـية كامـلة عن هـذه الجـريمة، بمن فيهم مرتكـبها والمساهم فيها، والمحـرض عليها والمساعـد أو المشجـع أو المـؤازر لمن ارتكـبها، حسب الفقـرة الثانـية من المادة الثانـية في الاتفاقـية المذكـورة.
و في جريـمة العـدوان مثـلا، يتجـلى الركـن الدولـي في أن هـذه الجـريمة ترتكب بناء على خطـة مدبـرة من قبل دولـة أو مجموعـة دول، أو بناء على الإهمـال أو عـدم احتياطـها، مما يـؤدي إلى انتـهاك القيم الأساسـية في المجـتمع الدولي، التي تحـرص العائـلة الدولـية على صيانتـها، ونلاحـظ أن الركـن الدولـي هو عنصـر مـزدوج بين الدولـة المعتديـة والدولـة الضحـية .
وقد تأكـد ذلك في كافـة الجـرائم المنصـوص عليها في المادة الثانـية من مشـروع تقنيـن الجـرائم ضد أمـن وسـلم البشريـة، والتي جـاء فيها: "إن العـدوان المسـلح والتهـديد به والتحضـير لاستخـدام القـوة المسلحـة في العـدوان، وتنظـيم عصابـات مسلحـة بقصـد الإغـارة على إقلـيم دولـة أخـرى، ومباشـرة أو تشجـيع النشاط الذي يرمـي إلى إثـارة الحـرب الأهلـية في دولـة أخـرى، أو مباشـرة نشـاط إرهـابي في دولـة أخـرى، أو إقليم خاضـع لنظـام دولـي، والتدخـل في الشـؤون الداخـلية والخارجـية لدولـة أخـرى بتدابـير قهريـة ذات طابـع اقتصـادي أو سياسـي، بقصـد شـل إدارتها والحصـول على فوائـد من أي نـوع كـان، لا يمـكن ارتكـابها إلا مـن قبـل سلطـات دولـة".
وقـد أكـدت ذلك محـاكم نورمبـرغ في حكـمها بأن تعـبير "الحـرب العدوانـية" لا ينطـبق إلا على الضـباط العظـام والموظفـين الكـبار، كما لا يعتـبر عمـلا عدوانـيا اشتـباك القـوات المسلحـة التابـعة لدولـة مع أفـراد أو مع شركـة أو هيـئة أو جماعـة من الأفـراد، أو إغـارة عصابـات مسلحـة على قـوات الدولـة، أو العـكس إذا لم تكن هذه الإغـارة الأخـيرة بناء على خطـة الدولـة.
وفي جـرائم الحـرب التي تقـع أثناء الحـرب، أو بمناسبـتها، كقـتل الأسـرى، وسـوء معامـلة المدنـيين في الأراضي المحـتلة، وظـروف الاعتـقال القاسـية، وتعـذيب المعتقـلين بطـرق لا إنسانـية، واستعـمال السـلاح المحـرم دولـيا، نجـد أن الأفـراد يتصرفـون باسـم الدولـة المحـاربة أو الدولـة المحـتلة ولحسابها، أو بوصفهم وكـلاء عنها.
وكل مـا يأتونـه من أفعـال تكـون جـرائم حـرب رغم قيـام الدول في كثـير من الأحـيان بالتبـرؤ من بعض الأعمال اللامشروعـة التي يأتيـها هـؤلاء الأفـراد، وتكييـفها على أسـاس أنها أفعال معزولـة تمـت وفـقا لتصرفـات فرديـة، ولكن التكـرار الممنـهج لهـذه الأعمـال يؤكـد بما لا يـدع مجـالا للشـك أنها تتم وفقـا لأوامـر علـيا صـادرة مـن مراكـز اتخـاذ القـرار في تلك الدول.
المطـلب الثالـث: أهمـية توافـر الركـن الدولـي في قيـام الجـريمة الدولـية
إن الركـن الدولـي للجـريمة يعطـيها بعـدا خاصـا، إذ يجـعلها تتمـيز بالخطـورة وضخامـة النتائـج، ولهـذا فإنها لـن تكـون حتى في أبسـط صورهـا إلا جنائـيا، ولا يمـكن أن نتصـور وجـود جريـمة دولـية ثم تكييـفها على أسـاس جنحـة أو مخالـفة.
وعليه، فإن مسـاس الجـريمة الدولـية بالمصـالح الجوهـرية للمجـتمع الدولـي يجـعل وصفـها هـذا وصـفا خطـيرا وممـيزا يمـيزها عن الجـريمة العاديـة، التي يعالجـها القانـون الجـنائي الداخـلي للدول مهما كانت خطـورتها أو تكييـفها القانـوني.
تكـمن أهمـية الركـن الدولـي للجـريمة الدولـية في استئـثار القضـاء الدولي ببسـط سلطاتـه للنظـر في هـذه الجـرائم، لما لها من وقـع في ضمـير الجماعـة الدولـية، وعليه فإن الركـن الدولي للجريمة الدولـية هو ذلك الأسـاس أو المعـيار الوحـيد الذي يتمـيز به هذا النـوع من الجـرائم عن الجـرائم الداخـلية.
بل إن توافـر العنصـر السياسـي والإيديولـوجي في بناء الركـن الدولـي للجـريمة الدولـية يعطـي لهـذه الأخـيرة الخصـائص الأساسـية، التي بموجـبها تتمـيز عن الجـرائم الوطنـية والخاضـعة لسلطـان القانـون الجنائـي الداخـلي.
فجـرائم الإبـادة والإرهـاب والتمـييز العنصـري مثلا لا يمـكن أن نصفـها بالجـرائم الدولـية، حتى ولو كان لديها بعـدا عالمـيا، إلا إذا تدخـل ذلك العنصـر السياسـي والإيديولـوجي، وكان السـبب المباشـر للدول أو الأفـراد الذين يتكلـمون أو يأتمـرون أو يمثلـون هـذه الدول في إتـيان تلك الأفعـال التي تضـر بالمصلحـة الحيويـة للمجـتمع الدولي.
تبقى الجـريمة الدولـية مميـزة عن باقـي الجـرائم الأخـرى بركنها الدولي، الذي يجـعل منها مفهومـا قانونـيا واسـعا، وتخـضع في معالجـتها لنظـام قضـائي دولـي مـازال لحـد هذا التاريخ لم يـرس قواعـده على أسـاس متفـق عليه دولـيا.
خلاصـة الفصـل الثانـي:
يستـند الركـن الشرعـي للجريمـة الدولـية على مرونـة كبيـرة في استخـدام مبـدأ لا جريـمة ولا عقوبـة إلا بنص، نظـرا لخصوصـية الجريـمة الدولـية التي لم يكن لفكـرتها وجـود سابـقا في نصوص مكتوبـة، وإنما تم التوصـل مؤخـرا إلى تعريفـها والمعاقـبة عليها عن طريـق الاستقـرار على مـا تواتـر عليه العـرف الدولـي.
وقـد ترتـب عن اعتـبار العـرف الدولـي مصـدرا وحـيدا للجـرائم الدولـية عـدة نتائج، على غـرار غمـوض فكـرة الجـريمة الدولـية، وكيفـية التعامـل مع قاعـدة عـدم الرجعـية فـي القانـون الدولـي الجنائـي، إضافـة إلى اللجـوء للقـياس والتفسـير الموسـع.
أما الركـن المـادي للجريـمة الدولـية، فقد تضمـن دراسـة صـور السلـوك المـكون لهـذا الركـن، مع دراسـة المساهـمة والشـروع فـي الجريـمة الدولـية، بعد تعـريف الركـن المـادي بأنه ينصـرف إلى ماديـات الجريـمة، أي المظهـر الذي تظهـر فيه إلى العالـم الخـارجي، على شـكل سلـوك إيجـابي أو سلبـي.
فالسلـوك الإيجـابي يتمـثل فـي القـيام بعـمل يحظـره القانـون ويـؤدي إلى قـيام الجريـمة، فالدولـة التي تقـوم بشـن هجـوم على دولـة أخـرى، أو تغزوهـا، أو تضـربها بالقنابـل، أو تفـرض عليها حصـارا بريـا أو بحريـا أو جـويا، تسـلك سلوكـا مخالـفا للقانـون، وتعـد مرتكبة لجريـمة دولـية، كما أن السلـوك الايجـابي في مفهـوم القانـون الدولـي الجنائـي يتعـدى مفهومـه في القانـون الوطـني، فيشـمل التهـديد بالقـيام بأعـمال عدائـية.
أمـا السلـوك السلبـي، فإنـه يتجـلى في تجـريم القانـون الدولـي الجـنائي لسلـوك الامتـناع لذاتـه، الذي يعتـبره تصرفـا جرمـيا، كامتنـاع سلطـة الدولـة عـن منـع العصابـات المسلحـة من استخـدام إقليـمها كقاعـدة للعملـيات، أو كنقطـة للإغـارة على إقلـيم دولـة أخـرى، إضافـة إلى امتـناع الدولـة عـن الحـد من التسـلح، الذي يعتـبر إخـلالا بالتـزام دولـي يفـرض هـذا التحـديد.
تحـتل الإرادة مكانة محوريـة في الركـن المعنـوي للجريـمة الدولـية، تزامنا مع اعتبارهـا أيضا جوهـر القصـد الجـنائي، إذ أجـمع أغـلب فقـهاء القانـون على أن الركـن المعنـوي للجـريمة هو الذي يوفـر الرابطـة المعنويـة بين الجـاني والجريـمة المقترفـة، وتتخـذ تلك الرابطـة في الأصل مظـهر العمـد، وفي بعض الأحـيان مظهـر الخـطأ غير العمـدي.
اعتبـر فقـهاء القانـون الجـنائي الدولـي الركـن الدولي المعـيار الوحـيد الذي يتمـيز به هذا النـوع من الجـرائم عن الجـرائم الداخـلية، إذ يتجـلى في قـيام الجـريمة الدولـية بناء على تخـطيط مدبـر مـن الدولـة، أو مجموعـة من الدول، وتنفـذ الدولـة الجريـمة الدولـية بالاعتـماد على قوتـها وقدرتـها ووسائـلها الخاصـة.










رد مع اقتباس