تتميما للفائدة بخصوص مسألة الصفرة والكدرة فهذا كلام الحافظ ابن رجب في الفتح(1/495):
ودل قول عائشة - رضي الله عنها - هَذا على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وأن مِن لها أيام معتادة تحيض فيها فرأت فيها صفرة أو كدرة ، فإن ذَلِكَ يكون حيضاً معتبراً .
وهذا قول جمهور العلماء ، حتى إن مِنهُم مِن نقله إجماعاً ، مِنهُم : عبد الرحمن بنِ مهدي وإسحاق بنِ راهويه ، ومرةً خص إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دونَ الكدرة .
ولكن ذهب طائفة قليلة ، مِنهُم : الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن المنذر وبعض الشافعية إلى أنه لا يكون ذَلِكَ حيضاً حتى يتقدمه في مدة العادة دم .
واشترط بعض الشافعية أن يكون الدم المتقدم يبلغ أقل الحيض .
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم - أيضاً .
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم يبلغ أقل الحيض .
وقال أبو يوسف : الصفرة حيض ، والكدرة ليسَ حيضاً ، إلا أن يتقدمها دم .
وحكي عَن داود أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً بكل حال .
فأما ما زاد على أيام العادة ، واتصل بها ، وكان صفرة أو كدرة ، فهل يكون حيضاً ، أم لا ؟ فيهِ قولان :
أحدهما : أنَّهُ حيض ، وَهوَ أشهر الروايتين عَن مالك ، والمشهور عَن الشَافِعي
- أيضاً - ، وعليه أكثر أصحابه ، وقول الحكم وأبي حنيفة وإسحاق .
والثاني : أنه ليسَ بحيض ، وَهوَ رواية عَن مالك ، وقول الثوري والإصطخري وغيره مِن الشافعية .
وأما الإمام أحمد ، فإنه يرى أن الزائد على العادة لا يلتفت إليه أول مرة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً على اختلاف عَنهُ ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ .
فإن زاد على العادة بصفرة أو كدرة وتكرر ثلاثاً ، فهل يكون حيضاً ، أم لا ؟ فيهِ عَنهُ روايتان .
وقد روي عَن عائشة ، أنها لا تلتفت إلى الزائد على العادة مِن الصفرة والكدرة .
خرجه حرب والبيهقي مِن رواية سليمان بنِ موسى ، عَن عطاء ، عَن عائشة ، قالت : إذا رأت المرأة الدم فلتمسك عَن الصلاة حتى تراه أبيض كالفضة ؛ فإذا رأت ذَلِكَ فلتغتسل ولتصل ؛ فإذا رأت بعد ذَلِكَ صفرة أو كدرة فلتتوضأ ولتصل ، فإذا رأت دماً أحمر فلتغتسل ولتصل .
وروي عَن أسماء بنت أبي بكر ما يشعر بخلاف ذَلِكَ ، فروى البيهقي وغيره مِن رواية ابن إسحاق ، عَن فاطمة بنت المنذر ، عَن أسماء ، قالت : كنا في حجرها معَ بنات أخيها ، فكانت إحدانا تطهر ، ثُمَّ تصلي ، ثُمَّ تنتكس بالصفرة اليسيرة ، فنسألها ، فتقول : اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذَلِكَ ، حتى ترين البياض خالصاً .
وقد حمله بعض أصحابنا على أن الصفرة أو الكدرة إذا رؤيت بعد الطهر وانقطاع الدم فإنها لا تكون حيضاً ولو تكررت ، على الصحيح عندهم ، بخلاف ما إذا رأت ذَلِكَ متصلاً بالدم وتكرر .
فهذا كله في حق المعتادة .
فأما المبتدأة ، فإذا رأت في زمن يصلح للحيض صفرة أو كدرة ، فقالت طائفة مِن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى ومن تابعه ، وأكثر أصحاب الشَافِعي : إنه يكون حيضاً ؛ لأن زمن الدم للمبتدأة كزمن العادة للمعتادة .
وقالت طائفة مِن أصحابنا : لا يكون حيضاً ، وقالوا : إنه ظاهر كلام أحمد ، وَهوَ قول طائفة مِن الشافعية - أيضاً - ، وحكاه الخطابي عَن عائشة وعطاء وأكثر
الفقهاء ؛ لأنه اجتمع فيهِ فَقد العادة ولون الدم المعتاد ، فقويت جهة فساده ، وعلى هَذا فينبغي أنَّهُ إن تكرر ذَلِكَ ثلاثاً أن يكون حيضاً ، إن قلنا : إن المتكرر بعد العادة حيض ، وقد يفرق بينهما بأن المتكرر بعد العادة قَد سبقه دم بخلاف هَذا .
وقد ذهب طائفة مِن أصحابنا ، مِنهُم : ابن حامد وابن عقيل إلى أن المبتدأة إذا رأت أول مرةٍ دماً أحمر فليس بدم حيض حتى يكون أسود ، وَهوَ قول بعض الشافعية - أيضاً - ؛ للحديث المروي عَن النَّبيّ ( أنَّهُ قالَ - في دم الحيض - : ( ( إنه أسود
يعرف ) ) .
وهذا ينتقض عليهم بالمعتادة ؛ فإنها إذا كانت عادتها أسود ثُمَّ رأت في مدة العادة دماً أحمر فإنه حيض بغير خلاف .
.وقال في(1/522):
وقد سبق ذكر الصفرة والكدرة في ( ( باب : إقبال المحيض وإدباره ) ) ، وأن الصفرة والكدرة لهما ثلاثة أحوال :
حال : تكون في مدة عادة المعتادة ، فتكون حيضاً عند جمهور العلماء ، سواء سبقها دم أم لا .
وحال : تكون بعد انقضاء العادة ، فإن اتصلت بالعادة ولم يفصل بينهما طهر ، وكانت في مدة أيام الحيض - أعني : الأيام التي يحكم بأنها حيض ، وهي : الخمسة عشر ، أو السبعة عشر ، أو العشرة عند قوم - ، فهل تكون حيضاً بمجرد اتصالها بالعادة ، أم لا تكون حيضاً حتى تتكرر ثلاثاً أو مرتين ، أم لا تكون حيضاً وإن تكررت ؟ فيهِ ثلاثة أقوال للعلماء :
الأول : ظاهر مذهب مالك والشافعي . والثاني : رواية عَن أحمد . والثالث : قول أبي حنيفة والثوري ، وأحمد في رواية .
وإن انقطع الدم عند تمام العادة ، ثُمَّ رأت بعده صفرة أو كدرة في مدة الحيض ، فالصحيح عند أصحابنا : أنَّهُ لا يكون حيضاً ، وإن تكرر .
وقد قالَ أكثر السلف : إنها إذا رأت صفرة أو كدرة بعد الغسل أو بعد الطهر فإنها تصلي ، وممن روي ذَلِكَ عَنهُ : عائشة ، وسعيد بنِ المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وإبراهيم النخعي ، ومحمد ابن الحنيفة وغيرهم .
وحديث أم عطية يدل على ذَلِكَ .
وحال : ترى الصفرة والكدرة بعد أكثر الحيض ، فهذا لا إشكال في أنَّهُ ليسَ بحيض .