والتَّرتيبُ،.........
قوله: «والتَّرتيبُ» ، وهو أن يُطهَّر كلُّ عضو في محلِّه، وهذا هو الفرض الخامس من فروض الوُضُوء، والدليل قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}} [المائدة: 6] .
وجه الدِّلالة من الآية: إِدخال الممسوح بين المغسولات، ولا نعلم لهذا فائدة إلا التَّرتيب، وإلا لسيقت المغسولات على نسقٍ واحد، ولأنَّ هذه الجملة وقعت جواباً للشَّرط، وما كان جواباً للشَّرط فإِنَّه يكون مرتَّباً حسب وقوع الجواب.
ولأن الله ذكرها مرتَّبة، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «أبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ به»[(350)].
والدَّليل من السُّنَّة: أن جميع الواصفين لوُضُوئه صلّى الله عليه وسلّم ما ذكروا إِلا أنَّه كان يرتِّبها على حسب ما ذكر الله.
مسألة: هل يسقط التَّرتيبُ بالجهل أو النسيان على القول بأنَّه فرض؟
قال بعض العلماء: يسقط بالجهل والنسيان[(351)] لأنهما عُذْر، وإِذا كان التَّرتيب بين الصَّلوات المقضيات يسقط بالنِّسيان فهذا مثله.
وقال آخرون: لا يسقط بالنِّسيان (351) ؛ لأنه فرض والفرض لا يسقط بالنسيان.
والقياس على قضاء الصَّلوات فيه نظر؛ لأنَّ كلَّ صلاة عبادةٌ مستقلة، ولكن الوُضُوء عبادةٌ واحدة.
ونظير اختلاف الترتيب في الوُضُوء اختلاف التَّرتيب في رُكوع الصَّلاة وسُجودها، فلو سجد قبل الرُّكوع ناسياً فإِن السُّجود لا يصح؛ لوقوعه قبل محلِّه؛ ولهذا فالقول بأنَّ الترتيب يسقطُ بالنِّسيان؛ في النَّفس منه شيء، نعم لو فُرِضَ أن رجلاً جاهلاً في بادية ومنذ نشأته وهو يتوضَّأ؛ فيغسل الوجه واليدين والرِّجلين ثم يمسح الرَّأس، فهنا قد يتوجَّه القول بأنه يُعذر بجهله؛ كما عَذَرَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أُناساً كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال.
والمُوَالاةُ .........
قوله: «والموالاة» ، هذا هو الفرض السَّادس من فروض الوُضُوء؛ وهي أن يكون الشَّيء موالياً للشيء، أي عَقِبَه بدون تأخير، واشتُرطت الموالاة لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}} الآية [المائدة: 6] .
ووجه الدِّلالة: أنَّ جواب الشَّرط يكون متتابعاً لا يتأخَّرُ، ضرورة أن المشروط يلي الشرط.
ودليله من السُّنَّة: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ متوالياً، ولم يكن يفصل بين أعضاء وُضُوئه، ولأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلاً توضَّأ، وترك على قدمه مثل موضع ظُفُر لم يصبْه الماء، فأمره أن يُحسنَ الوُضُوءَ[(352)]. وفي «صحيح مسلم» من حديث عمر رضي الله عنه: «ارجعْ فأحسِنْ وُضُوءَك» (352) .
وفي «مسند الإمام أحمد»: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلاً يُصلِّي، وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرهم لم يصبْها الماءُ، فأمره النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعيد الوُضُوء والصَّلاة[(353)]. والفرق بين اللفظين ـ إذا لم نحمل أحدُهما على الآخر ـ أنَّ الأمر بإِحسان الوُضُوء أي: إتمام ما نقص منه. وهذا يقتضي غَسْلَ ما تَرَك دون ما سَبَق، ويمكن حملُ رواية مسلم على رواية أحمد، فلا بُدَّ من إعادة الوُضُوء، ورواية أحمد سندُها جيدٌ قاله أحمد، وقال ابن كثير: «إسناده صحيح».
ومن النَّظر: أنَّ الوُضُوء عبادةٌ واحدةٌ، فإِذا فرَّق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة.
وقال بعضُ العلماء: إن الموالاة سُنَّةٌ وليست بشرط[(354)]؛ لأن الله أمر بغسل هذه الأعضاء، وهذا حاصل بالتَّوالي، والتفريق.
والأَوْلَى: القول بأنها شرط؛ لأنها عبادة واحدة لا يمكن تجزئتها.
وهي: أن لا يؤخِّرَ غَسْلَ عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه.
قوله: «وهي: أن لا يؤخِّر غَسْل عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه» ، هذا تفسيرالمؤلِّف رحمه الله للموالاة.
وهذا بشرط أن يكون ذلك بزمنٍ معتدل خالٍ من الرِّيح أو شِدَّة الحرِّ والبرد.
وقوله: «الذي قبله»، أي: الذي قبل العضو المغسول مباشرة، فلو فُرِضَ أنَّه تأخَّر في مسح الرَّأس فمسحه قبل أن تَنْشِف اليدان، وبعد أن نَشِفَ الوجه فهذا وُضُوء مجزئ؛ لأنَّ المراد بقوله: «الذي قبله»، أي: قبله على الولاء، وليس كُلَّ الأعضاء السَّابقة.
وقولنا: في زمن معتدل، احترازاً من الزَّمن غير المعتدل، كزمن الشِّتاء والرُّطوبة الذي يتأخَّر فيه النَّشَاف، وزمن الحرِّ والرِّيح الذي يُسرع فيه النَّشاف.
وقال بعض العُلماء ـ وهي رواية عن أحمد ـ: إِن العبرة بطول الفصل عُرفاً، لا بنَشَاف الأعضاء[(355)]. فلا بُدَّ أن يكون الوُضُوء متقارباً، فإِذا قال النَّاس: إن هذا الرَّجُل لم يفرِّق وضوءَه؛ بل وضوؤه متَّصلٌ، فإِنَّه يُعتبرُ موالياً، وقد اعتبر العُلماء العُرف في مسائل كثيرة.
ولكنَّ العُرْفَ قد لا ينضبطُ، فتعليقُ الحكمِ بنشَافِ الأعضاءِ أقربُ إِلى الضَّبط.
وقوله: «الموالاة» يُستثنى من ذلك ما إِذا فاتت الموالاة لأمرٍ يتعلَّق بالطَّهارة.
مثل: أن يكون بأحد أعضائه حائلٌ يمنع وصول الماء «كالبوية» مثلاً، فاشتغل بإزالته فإِنه لا يضرُّ، وكذا لو نفد الماء وجعل يستخرجه من البئر، أو انتقل من صنبور إلى آخر ونَشِفت الأعضاء فإِنَّه لا يضرُّ.
أما إذا فاتت الموالاة لأمر لا يتعلَّق بالطَّهارة؛ كأن يجد على ثوبه دماً فيشتغل بإِزالته حتى نَشِفت أعضاؤه؛ فيجب عليه إِعادةُ الوُضُوء؛ لأن هذا لا يتعلَّق بطهارته.
والنيَّةُ شرطٌ .............
قوله: «والنِّية شرطٌ» ، وهي القصد، ومحلُّها القلبُ ولا يعلم بالنيَّات إلا الله عزّ وجل.
والنيَّةُ شرطٌ في جميع العبادات.
والكلامُ على النيَّة من وجهين:
الأول: من جهة تعيين العمل ليتميَّز عن غيره، فينوي بالصَّلاة أنَّها صلاة وأنَّها الظُّهر مثلاً، وبالحجِّ أنه حجٌّ، وبالصِّيام أنَّه صيام، وهذا يتكلَّم عنه أهل الفقه.
الثَّاني: قصدُ المعمول له، لا قصد تعيين العبادة، وهو الإِخلاص وضدُّه الشِّرك، والذي يتكلَّم على هذا أرباب السُّلوك في باب التَّوحيد وما يتعلَّق به، وهذا أهمُّ من الأوَّل، لأنَّه لُبُّ الإِسلام وخلاصة الدِّين، وهو الذي يجب على الإِنسان أن يهتمَّ به.
وينبغي للإنسان أن يتذكَّر عند فعل العبادة شيئين:
الأول: أمر الله تعالى بهذه العبادة حتى يؤدِّيها مستحضراً أمر الله، فيتوضَّأ للصَّلاة امتثالاً لأمر الله؛ لأنَّه تعالى قال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}} [المائدة: 6] . لا لمجرد كون الوُضُوء شرطاً لصحَّة الصَّلاة.
الثاني: التأسِّي بالنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لتتحقَّق المتابعة.
وقوله: «والنيَّةُ شرطٌ» أي لصحَّة العمل وقَبوله وإِجزائه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنما الأعمال بالنيَّات»[(356)].
ولأنَّ الله عزّ وجل قيَّد كثيراً من الأعمال بقوله: {{ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}}.
كقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}} [الرعد: 22] ، وقوله: {{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}} [النساء: 114] .
وهل يَنطِقُ بالنيَّة؟ على قولين للعلماء[(357)]، والصَّحيحُ أنَّه لا ينطق بها، وأن التعبُّد لله بالنُّطق بها بدعة يُنهى عنها، ويدلُّ لذلك أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنيَّة إِطلاقاً، ولم يُحفظ عنهم ذلك، ولو كان مشروعاً لبيَّنه الله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم الحالي أو المقالي.
فالنُّطق بها بدعةٌ سواءٌ في الصَّلاة، أو الزَّكاة، أو الصَّوم.
أما الحجُّ فلم يرد عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: نويت أن أحُجَّ أو نويت النُّسك الفلاني، وإِنما يلبِّي بالحجِّ فيُظهر النِّيَّة، ويكون العقد بالنيَّةِ سابقاً على التلبية.
لكن إذا احتاج الإِنسانُ إلى اشتراط في نُسُكه، فإِنه لا يشترط أن ينطِقَ بالنية، فيقول: إني أريد كذا، بل له أن يقول: اللهم إِن حَبَسَنِي حابس فَمَحِلِّي حيث حبستني دون النُّطقِ بالنيَّة.
والمشهور من المذهب: أنه يُسَنُّ النُّطق بها سرًّا في الحجِّ وغيره، وهذا ضعيف لما سبق.
وأمّا القول: بأنه يُسَنُّ النُّطُق بها جهراً؛ فهذا أضعف وأضعف، وفيه من التَّشويش على النَّاس ولا سيما في الصَّلاة مع الجماعة ما هو ظاهرٌ، وليس هناك حاجة إلى التلفُّظ بالنيَّة لأنَّ الله يعلم بها.
والنيَّة ليست صعبة، وإن كانت عند بعض أهل الوسواس صعبة؛ لأنَّ كُلَّ عاقل مختار يعمل عملاً فلا بُدَّ أن يكون مسبوقاً بالنيَّة، فلو قُرِّبَ لرَجُلٍ ماءٌ، ثم سَمَّى وغسلَ كفَّيه، ثم تمضمض واستنشق... إِلخ؛ فإِن هذا لا يُعقل أن يكون بدون نيَّة.
ولهذا قال بعض العلماء رحمهم الله: لو أنَّ الله كلَّفنا عملاً بدون نيَّة؛ لكان من تكليف ما لا يُطاق[(358)]. فلو قال الله: صلُّوا ولا تنووا، فإِنَّه غير ممكن، حتى قال شيخ الإسلام: إِذا تعشَّى الإِنسان لياليَ رمضان فإِن عشاءه يدلُّ على نيَّته ولو لم ينوِ الصِّيام من الغد؛ وذلك لأنَّه لن يُكثر من الطَّعام كما يُكثره في سائر أيامه؛ لأنه سوف يتسحَّر آخر الليل.