محمد بن العربي
2011-11-19, 10:30
كيف باعت عائلة الاسد الجولان
كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع عندما وقعت خيانة سقوط القنيطرة واحتلال إسرائيل للجولان التي كان يطلق عليها خط ماجينو بسبب صعوبة اجتياحها من قبل الجيش المعادي، كما كان المسؤول الأول عن الجيش وعن الحرب لأن الحكم كان قد استقر للثلاثي النصيري: صلاح جديد، وحافظ أسد، وإبراهيم ماخوس، بعد معارك دامية مع الناصريين، ثم مع القيادة القومية (ميشيل عفلق، صلاح البيطار، منيف الرزاز)، ثم مع ذراري أهل السنة من البعثيين، ثم مع الدروز (سليم حاطوم، حمد عبيد، فهد الشاعر).
وإذا كان صلاح جديد قد هيمن على القيادة القطرية لحزب البعث، فلقد كان الجيش من نصيب حافظ أسد وهو المتحكم الوحيد فيه لدرجة أنه ما كان يسمح للجنة العسكرية من القيادة القطرية بتفقد وحدات الجيش والإشراف على شؤون التنظيم الحزبي فيه.
وبعد وقوع الكارثة قررت قيادة الحزب في اجتماع لها أن حافظ الأسد هو المسؤول الأول والأخير عن سقوط الجولان وعن بيان سقوط القنيطرة، وطلبوا منه أن يستقيل وكان من بين المتحمسين لمحاكمته عناصر من القيادة التي تضعه الآن في صفوف الآلهة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. غير أن صلاح جديد تراجع عن موقفه في اللحظات الأخيرة زاعماً أنه لا يجوز تحميل الأسد وحده مسؤولية ما حدث، وذلك لأن المسؤولية مشتركة، وما كان جديد يتوقع بأن هذا الضابط الذي كان يصفه بأنه (خجول ومتردد) سيبطش به في يوم من الأيام.
كان لابد من هذه المقدمة ونحن نقدم لقرائنا بعض الحقائق عن هذه الهزيمة النكراء ودور أسد وطائفته فيها، ولنستعرض فيما يلي بعض تصريحاتهم التي سبقت الكارثة.
النظام يقرع طبول الحرب
أدلى اللواء حافظ الأسد وزير الدفاع السوري بتصريح لصحيفة "الثورة" السورية الرسمية قال فيه:
".. إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل تردها إلى صوابها.. إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان.
إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات السورية المسلحة أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان الإسرائيلي، وإنما للمبادرة لعملية التحرير بالذات ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي.
إننا أخذنا بعين الاعتبار تدخل الأسطول الأمريكي السادس.
إن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة. وهناك إجماع في الجيش السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية".
وفي تصريحه لصحيفة الثورة السورية 20/5/1967 أضاف حافظ الأسد قائلاً:
"إن سلاح الطيران السوري تطور تطوراً كبيراً بعد ثورة 23 شباط 1966 من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات، وهي من أحدث الطائرات في العالم وأفضلها تسلحاً، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب".
وقال: "إن العملاء يركزون باستمرار على أن هناك عدداً كبيراً من الطيارين المسرحين، ولكن عدد الطيارين المؤهلين لخوض المعارك الجوية والذين هم خارج الخدمة، لا يتجاوز عدد أصابع اليد".
وتوالت تصريحات المسؤولين البعثيين بعد تصريح كبيرهم ووزير دفاعهم، ففي اجتماع طارئ لاتحاد المحامين العرب، عقد في دمشق، ألقى يوسف زعين رئيس الحكومة السورية كلمة في جلسة الافتتاح قال فيها:
"إن انحناء إسرائيل أمام الرد العربي الحاسم الآن، يجب أن لا يفسر بأنه انتصار نهائي عليها، فهو ليس إلا بداية الطريق لتحرير فلسطين، وتدمير إسرائيل.. وإن الظروف اليوم هي أفضل من أي وقت مضى لخوض معركة المصير العربي. وقال: "إن الشعوب العربية ستحاسب كل من يتخاذل عن الواجب".
وقال: "إن المسيرة إلى فلسطين، هي المسيرة إلى إسقاط الرجعية العربية والاستعمار والصهيونية إلى الأبد".
وفي 23/5/1967 أدلى العقيد أحمد المير قائد الجبهة السورية بالتصريح التالي:
"إن الجبهة أصبحت معبأة بشكل لم يسبق له مثيل من قبل".
وقال:
"إن العرب لم يهزموا في معركة 1948 على أيدي الإسرائيليين، بل من قبل حكامنا الخونة، وهذه المرة لن نسمح لهم أن يفعلوا ذلك".
وكان وزير الخارجية السورية الدكتور إبراهيم ماخوس من أكثر المسؤولين البعثيين ثرثرة، فبعد عودته من القاهرة أدلى بتصريح إلى وكالة الأنباء العربية السورية جاء فيه:
"إن زيارتي للقاهرة كانت لوضع اللمسات الأخيرة على الوضع السياسي العربي والدولي. وقال: إن مخططات الرجعية والاستعمار والصحف الصفراء التي دأبت على التشكيك بلقاء القوى التقدمية قد دحرت. وإن سحب قوات الطوارئ بالشكل الذي تم به يبرهن على أن لاشيء يقف في طريق الثورة، وإن تشكيك الرجعية حول وجود هذه القوات قد رد إلى نحرها" . فضح ادعاءاتهم
وكل ضابط أو صف ضابط يعلم كذب ادعاء حافظ أسد، فسلاح الطيران بالذات سرح معظم ضباطه، ممن كانوا يتمتعون بكفاءات عالية، وأنفقت عليهم الأمة أموالاً طائلة.. وكان تسريحهم يعني إبعاد سلاح الجو عن أية معركة.
وقوله هذا يدل على استهتاره وقلة حيائه، فالفترة الزمنية التي زعم فيها أن سلاح الطيران تطور تطوراً كبيراً هي ما بين 23/2/1966 و 5/6/1967 فهل يكون معقولاً أن تكون سنة وثلاثة أشهر كافية لتطوير سلاح الطيران؟!.
إن هذه الفترة الزمنية غير كافية لتخريج دورة واحدة، ولو تم تخريج هذه الدورة حسب الطريقة البعثية النصيرية، فلن يكون أفرادها قادرين على خوض معركة مصيرية مع سلاح الجو الإسرائيلي فور تخرجهم.. فهناك دورات وخبرات بعد التخريج.. والأنكى من هذا كله أن وزير الدفاع حافظ أسد الذي يزعم أن سلاح الجو السوري تطور تطوراً كبيراً خلال سنة وثلاثة أشهر هو ضابط طيار ويعرف أهمية هذا السلاح واستحالة ما زعمه خلال الزمن الذي حدده.
وللقارئ الكريم أن يقارن بين تصريح أسد الآنف الذكر، وتصريح الجنرال "هود" قائد سلاح الجو الإسرائيلي:
وجه الصحفيون إلى قائد سلاح الجو الإسرائيلي السؤال التالي:
كيف استطاعت إسرائيل تحقيق مثل هذا النصر الحاسم بهذه السرعة الفائقة؟!.
الجواب: "لقد قضينا ست عشرة سنة نستعد ونخطط لهذه الجولة، وحققنا جهدنا في ثمانين دقيقة! لقد عشنا خطتنا، نمنا معها، أفقنا عليها، تمثلناها، هضمناها، وبالتدريج أدخلنا عليها الإصلاحات المتتالية حتى قاربت الكمال" .
وإذن فطيلة ست عشرة سنة وسلاح الجو الإسرائيلي يتدرب لاحتلال الجولان والضفة الغربية وسيناء وتدمير المطارات العربية.. ويزعم حافظ الأسد أنه صنع المعجزات خلال سنة وثلاثة أشهر!!.
ولا أدري متى أعطتهم الشعوب العربية حق تمثيلها، وكيف تم هذا الاستفتاء؟!.
ولنتحدث عن سورية التي ابتلاها الله بهم، أما مصر مثلاً فليس لهم وجود فيها:
- فالإسلاميون على مختلف هيئاتهم وجمعياتهم كانوا بين سجين وطريد.
- والناصريون كل الناصريين كانوا يلملمون جراحهم بعد مذبحة تموز 1963 وما تلاها من نكبات ومصائب لحقت بهم.
- والرجعيون كما يدعون 2 - قال "أسد" أن سلاح الجو تطور تطوراً كبيراً بعد ثورة 23 شباط 1966 من حيث الكمية والنوع والتدريب وزيادة عدد الطيارين. 3 - كان البعثيون النصيريون من حكام سورية يتحدثون - من خلال بياناتهم وتصريحاتهم - باسم الأمة العربية، ويرون أنهم يمثلون إرادة الشعوب العربية.
كحزبي الشعب والوطني، والانفصاليين والمستقلين
انتهى دورهم منذ الثامن من آذار 1963، ومعظمهم تم عزله مدنياً.
- والبعثيون: تم عزل جناح أكرم الحوراني منذ انقلاب الثامن من آذار، ولحق بهم البعثيون الناصريون
جناح عبد الكريم زهور
وفي 23 شباط 1966 تم إبعاد جناح العفالقة
ميشيل عفلق، صلاح البيطار، محمد أمين الحافظ، منيف الرزاز
، ولحق بهم من تبقى من الجناح الدرزي
سليم حاطوم، وحمد عبيد
- والنصيريون لم تكن كلمتهم قد اجتمعت على حافظ أسد، وإنما كانوا أربعة أجنحة: عمران، ماخوس، جديد، أسد.
إذن من بقي من هذا الشعب المستضعف البائس مع النظام المستبد؟!.. إنهم لا يتجاوزن 5 %، أما 95 % من الشعب السوري فكانوا لا يأمنون على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم.
فكيف تنتصر أمة يسوسها حثالة الناس من أمثال أسد وجديد؟!.
وبعد هذا كله يزعم أسد وصحبه أن الجيش السوري قادر على مواجهة إسرائيل، والأسطول السادس الأمريكي، والأنظمة الرجعية في الوطن العربي، وعملاء الاستعمار داخل سورية - أي 95 % من المواطنين -!!.
ولندع المجال للدكتور سامي الجندي يرد على رفاقه.
قال الجندي يصف اجتماعاً لمجلس قيادة الثورة بعد الثامن من آذار:
".. ألقينا على أنفسنا أسئلة كثرة وناقشنا كل القضايا، ومن بينها القضية الفلسطينية التي كانت دائماً محور السياسة العربية الرئيسي والأساسي، وخاصة الدول المتاخمة لإسرائيل، وفي وعينا أنها أخطر القضايا، فهي مكمن خطر كبير، كما هي مصدر خوف جماهيري.
ولأعطي فكرة عن موقف سورية تجاه هذه القضية، يكفي أن أنوه بأن 63% من الميزانية مكرس للتسلح، مما يشكل نسبة ضخمة بالقياس إلى بلد في طريق التنمية. سألنا أنفسنا هذا السؤال الدقيق:
"ماذا نفعل لو هاجمتنا إسرائيل؟" طلبنا أدق المعلومات السرية لنستطيع تقييم قوة العدو وقوتنا. وفوجئنا بالفرق الشاسع بين القوتين. وقدرنا أن الجيش السوري، رغم تسلحه الجيد، وتمرسه وشجاعته، ليس في وضع يسمح له أن يصمد أكثر من ساعات أمام أي هجوم إسرائيلي".
وعن اجتماع قمة الدار البيضاء قال الجندي:
"حضر الزعماء العرب عدة مؤتمرات قمة، بقصد مواجهة قضية فلسطين متحدين، ومن تلك المؤتمرات مؤتمر الدار البيضاء، تحدثوا هناك عن تحويل مجرى نهر الأردن، وعن عزم إسرائيل على إعلان الحرب ضدنا. أبدى كثيرون حماسة عظيمة، مكبرين الكرامة القومية، منتشين بحمية المنطلقات الرومنطيقية، ثم جاء دور العسكريين. فقدم الجنرال علي علي عامر تقريره. فنظر كل من الزعماء إلى أخيه، في خيبة أمل كبرى! كان عليهم أن يواجهوا الحقيقة المرة. إنهم قادة شعب من مائة مليون عربي مسلحين كامل التسليح!.
ثم قدم الجنرال علي علي عامر بيانه الحربي فقال:
"إذا تحملت الدول العربية مسؤولياتها كاملة، فستصبح قواتنا معادلة لقوات إسرائيل خلال ثلاث سنوات. فإذا شئنا التفوق عليها لزمتنا ثلاث سنوات أخرى، لأن تعادل قواتنا لا يعني النصر حتماً. ذلك لأن التدريب الإسرائيلي متفوق على تدريب جيوشنا. وثمة عوامل عدة في صالح إسرائيل في كل معركة هي: وحدة الأرض، سهولة إدارة المعركة، سهولة الحركة. أضف إلى ذلك وحدة القيادة. ولا ننسى أبداً وسائل الاتصال الجيدة. فلتحشد إسرائيل جيوشها لا تحتاج إلى استقدام قواتها المسلحة من مسافة آلاف الكيلومترات".
صدّق الزعماء العرب على تقرير علي علي عامر ووقعوه ونفذ المخطط، حرفياً، خلال ستة أشهر، ثم نجم من جديد الخلاف بين الزعماء وعبر الإذاعات، وتوقف المخطط، حتى هذه الساعة، إذن لم يكن العرب مستعدين للمعركة .
وخلاصة رأي الدكتور سامي الجندي: أن النظام السوري الذي يقرع طبول الحرب، وهو يعلم ضعف إعداد الجيش إنما يهدف من وراء ذلك إلى تسليم العدو اليهودي جزءاً من الأراضي السورية.
يقول في كتابه "كسرة خبز":
"من يعود إلى التاريخ ويقرأ مذكرات (وايزمن) يعرف أن إسرائيل لا يمكن أن تتنازل عن الجولان. لقد نبهت حكومتي منذ 1965 إلى أنها تنوي احتلاله. كنت أعارض دائماً في حرب مع إسرائيل أعرف أننا فيها خاسرون. التقارير التي كنت أحملها من لجان
المتابعة
سنة 1964 يوم كنت ممثلاً لسورية فيها ما كانت تدع مجالاً للشك في الهزيمة إذا قامت حرب. كلها كانت تؤكد أن القوة العربية لم تصل إلى نصف قوة إسرائيل. ولقد دخلنا في حرب 1967 بأقل من نصف قوانا وما كان أحد من المسؤولين يجهل ذلك. فكيف إذن يعود الجولان
بلعبة ثورية ذكية ماهرة
؟!.
آرائي كلها دون استثناء كانت ضد الحرب. لم أخف أبداً أن الحكم يعد لهزيمة لا لاسترداد فلسطين. لم تكن هناك أية بادرة للنصر ولا أعني أنه كان يعد لهزيمته نفسه، وإنما لهزيمة العرب الآخرين كي يبقى
الثوري
الوحيد سيد المناخ الثوري العربي".
تعليق: هذا الذي قاله سامي الجندي لم ينفرد به، بل قاله عدد من الزعماء العرب الذين كانوا يشاركون في مؤتمرات القمة العربية التي سبقت 5 حزيران 1967، فالزعيم السوداني محمد أحمد محجوب في كتابه "الديمقراطية في الميزان" يؤكد أن العرب في مؤتمر الدار البيضاء كانوا متفقين على وجوب تجنب الحرب في ذلك الحين، ويستغرب كيف تمكن الحزبيون البعثيون من استدراج عبد الناصر فأقدم بصورة مرتجلة على سحب قوات الطوارئ الدولية من قطاع غزة وشرم الشيخ، ثم يضيف قائلاً:
"في رأيي أن ناصر كان حتى آخر لحظة، لا يعتقد أن الأمر سيؤدي إلى حرب فعلية، كانت خطته مناورة سياسية، ولكنه ذهب فيها بعيداً ولم تبق هناك طريقة شريفة للتراجع، وأخيراً هبت العاصفة يوم الاثنين 5 حزيران 1967".
وإذن فقائد الجيش ووزير دفاعه ومعه أركان الحكم كانوا يعلمون حقيقة - حسب قول سامي الجندي - أنه لن يصمد أمام إسرائيل إذا وقعت الحرب إلا ساعات قليلة، هذا إذا حاربوا فعلاً. فكيف يكون الحال إذا كان افتعال الحرب مسرحية لمؤامرة رهيبة، وهذا ما يفسر لنا بلاغ سقوط القنيطرة:
سقوط القنيطرة
أو البلاغ رقم 66
السبت 10 حزيران 1967، أعلن وزير الدفاع حافظ أسد الساعة 9.30 البلاغ العسكري رقم 66، وهذا نصه:
"إن القوات الإسرائيلية استولت على القنيطرة بعد قتال عنيف دار منذ الصباح الباكر في منطقة القنيطرة ضمن ظروف غير متكافئة، وكان العدو يغطي سماء المعركة بإمكانات لا تملكها غير دولة كبرى . وقد قذف العدو في المعركة بأعداد كبيرة من الدبابات واستولى على مدينة القنيطرة على الرغم من صمود جنودنا البواسل. إن الجيش لا يزال يخوض معركة قاسية للدفاع عن كل شبر من أرض الوطن كما أن وحدات لم تشترك في القتال بعد قد أخذت مراكزها".
وفي اليوم نفسه الساعة 12.05 ظهراً أصدر وزير الدفاع البلاغ التالي:
"إن قتالاً عنيفاً لا يزال يدور داخل مدينة القنيطرة وعلى مشارفها، وقال البلاغ: إن القوات السورية مازالت حتى الآن تقاتل داخل المدينة وعلى مشارفها جنباً إلى جنب مع قوات الجيش الشعبي بكل ضراوة وصمود بحيث لم يتمكن العدو من السيطرة الكاملة على مدينة القنيطرة".
يقول الضابط خليل مصطفى: "لاحظ التناقض، ففي الساعة 9.30 أعلن البلاغ: استولت القوات الإسرائيلية على مدينة القنيطرة، وفي الساعة 12.05 أي بعد ساعة ونصف، يعلن بلاغ آخر: إن قواتنا ما زالت حتى الآن تقاتل داخل المدينة وعلى مشارفها!".
وغني عن التأكيد أن القنيطرة لم تسقط ولم يحارب الجيش فيها، بل كان جيش العدو بعيداً عنها، فكيف أذاع وزير الدفاع هذا البيان؟ لننقل فيما يلي بعض ما قاله المطلعون:
أولاً رواية سعد جمعة
كان سعد جمعة رئيس وزراء الأردن في حرب حزيران، وقد هداه الله سبحانه وتعالى للحق وامتلأ قلبه بنور الإيمان فاعتزل الحكم وأخذ يكتب عن هذه المرحلة، ويكشف أساليب ومخططات أعداء الإسلام، وبحكم منصبه رأى واطلع على أشياء كثيرة لم يتسن لأمثالنا أن يطلع عليها.
ومن ذلك أنه تحدث - رحمه الله - عن سبب تلكؤ السوريين في خوض معركة الخامس من حزيران، وانهيار تحصينات المرتفعات السورية التي لا تقهر، ولا تقتحم، والتي هي أعظم تحصينات عرفتها المنطقة، قال رحمه الله :
"قال الراوي: ظهر الخامس من حزيران، اتصل سفير دولة كبرى في دمشق بمسؤول كبير، ودعاه إلى منزله لأمر عاجل هام!! وتم الاجتماع في الحال، فنقل السفير للمسؤول السوري نص برقية عاجلة من حكومته، تؤكد أن سلاح الجو الإسرائيلي قد قضى قضاء مبرماً على سلاح الجو المصري، وأن المعركة بين العرب وإسرائيل قد اتضحت نتائجها منذ الساعة التاسعة من ذلك الصباح، وأن كل مقاومة أرضية ستورث خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات لا مبرر لها، وأن إسرائيل لا تنوي مهاجمة النظام السوري، بعد أن يستتب لها تأديب جمال عبد الناصر! وبانتهاء الزعيم المصري، تتفتح الآفاق العربية أمام الثورة البعثية من المحيط إلى الخليج، وأن إسرائيل، من قبل ومن بعد، بلد اشتراكي، يعطف على التجربة الاشتراكية البعثية.. خاصة البعثية العلوية، ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل معها لمصلحة الكادحين في البلدين.. وقد يكون ذلك منطلقاً نحو تسوية نهائية على أسس الأخوة الاشتراكية، ولهذا فمصلحة سورية.. مصلحة الحزب ومكاسب الثورة، أن تكتفي بمناوشات بسيطة، فتكفل لنفسها السلامة!!.
وذهب المسؤول السوري، ليعرض ما سمعه لتوه على رفاق القيادة القومية والقيادة القطرية.. إلى آخر القيادات! وكانت الطائرات الإسرائيلية في تلك اللحظة تدمر المطارات السورية والطائرات الجاثمة - براحة - فوقها، مما أضفى على الموقف جو المأساة!.
وعاد الرسول السوري، غير بعيد، ليبلغ السفير استجابة الحزب والحكومة والقيادات، لمضمون البرقية العاجلة! وهكذا كان!.
غير أن إسرائيل، بعد أن انتهت العمليات الحربية في الجبهتين الجنوبية والشرقية، اتجهت بثقلها إلى الجبهة الشمالية، بعد أن مهدت لهذه الحركة المفاجئة بحرب نفسية، فسقط خط "ماجينو" السوري دون قتال! وسحبت القوات الأمامية لحماية مكاسب الثورة.. وبطولات الحاكمين في دمشق!.
وقال معلق راديو دمشق ذلك المساء: الحمد لله! لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة أمام الزحف الإسرائيلي، الحمد لله الذي أفسد خطة العدو وقضى على أهدافه الجهنمية، إن إسرائيل لن تحقق نصراً يذكر، طالما أن حكام دمشق بخير!!.
وليت شعري ما الذي كان يعيق إسرائيل عن المضي في فسحة إلى دمشق!.. لكنها لا تريد ولن تريد إذ ليس بالإمكان أبدع مما هو كائن!! .
ثانياً رواية دريد المفتي
ويقول سعد جمعة رحمه الله أيضاً، ومن ذكرياتي:
جاءني ذات يوم في مكتب بلندن شخص لا أعرفه، وقدم نفسه: أنا الدكتور (دريد المفتي) من دمشق.. كنت وزير سورية المفوض في مدريد أثناء حرب حزيران. لقد قرأت في كتابك "المؤامرة ومعركة المصير" عن جريمة تسليم مرتفعات الجولان لجيش الدفاع الإسرائيلي دون قتال، التي اقترفها ثلاثي (جديد، زعين ، ماخوس). وأحب أن أزيدك بياناً:
قال: استدعاني وزير خارجية أسبانيا لمقابلته صباح يوم 28/7/1967 وأعلمني، ووجهه يطفح حبوراً، أن مساعيه الطيبة قد أثمرت لدى أصدقائه الأمريكان، بناء على تكليف السيد (ماخوس) وزير خارجية سورية للسفير الأسباني في دمشق.. ثم سلمني مذكرة مؤرخة في 27/7/1967.. ومد إليّ يده بصورة المذكرة، فقرأتها عجلاً ثم أعدتها إليه شاكراً.. وسجلت في مفكرتي ما بقي في الذاكرة من نص المذكرة:
"تهدي وزارة خارجية الحكومة الإسبانية تحياتها إلى السفارة السورية بمدريد، وترجو أن تعلمها أنها قامت بناء على رغبة الحكومة السورية بالاتصال بالجهات الأمريكية المختصة لإعلامها برغبة سورية في المحافظة على الحالة الراهنة الناجمة عن حرب حزيران سنة 1967.. وتود إعلامها أنها نتيجة لتلك الاتصالات، تؤكد الحكومة الأمريكية أن ما تطلبه الحكومة السورية ممكن، إذا حافظت سورية على هدوء المنطقة، وسمحت لسكان الجولان بالهجرة للاستيطان في بقية أجزاء الوطن السوري، وتعهدت بعدم قيام نشاطات تخريبية من ناحيتها تعكر الوضع الراهن" .
ثالثاً رواية ضابط سوري
نقل الضابط السوري خليل مصطفى بريز عن مطلعين سوريين أن اتصالات غير مباشرة جرت بين إسرائيل ونظام دمشق، وأن الذي كشف هذه الاتصالات ملازم أول في الجيش، وإليكم الرواية:
يقول الملازم أول: ".." (أ) عضو الوفد السوري إلى لجنة الهدنة المشتركة.. ميلي: "إنه استدعي إلى مكتب الدكتور يوسف زعين، رئيس الوزارة البعثية، بتاريخ 9 حزيران 1967 الساعة العاشرة ليلاً.. فوجد عدداً من أفراد لجنة الرقابة الدولية في مكتب الزعين، برفقة السفير (..) في دمشق.. فكلف الضابط المذكور بالترجمة بين رئيس الوزارة ومخاطبيه.
قال السفير: إذا لم تسحب القيادة السورية قواتها من الجولان.. فإن القوات الإسرائيلية لن ترتضي هدفاً بتوقف زحفها عنده إلا دمشق..
وهنا سأل الزعين: وما هي الحدود التي تريد إسرائيل الوقوف عندها؟..
أجاب السفير: هل عندكم خريطة؟.
فأبرز الملازم الأول المذكور خريطته، وهنا وضع السفير عدداً من النقاط التي يجب أن يمر بها خط الحدود الجديد.. وتتوقف عنده القوات الإسرائيلية.. إذا قامت السلطات البعثية بسحب قواتها خارجاً عنه..
.. وافق الدكتور زعين
يقول الملازم الأول المترجم
.. ووعده السفير بتحقيق ما طلب.. وغادر الجميع مكتب رئاسة الوزراء على هذا الأمل..
يقول الضابط خليل مصطفى:
"وفي الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي.. صدر بلاغ سقوط القنيطرة.. وفي الوقت نفسه كذلك ملأت جو الجولان الشائعات الخانقة، عن أوامر الانسحاب المزعومة، فكان الهروب الكبير، ودخلت القوات الإسرائيلية أرضنا الكريمة، راكبة إلى نزهة عسكرية دونما خوف من صدام حقيقي يشتتها أو يفنيها".
سقوط الجولان: 306، 307
.
رابعاً رواية سامي الجندي
الدكتور سامي الجندي كان سفيراً لنظام البعث السوري في فرنسا قبل هزيمة حزيران وبعدها، ويتحدث فيما يلي عن تكليف الدكتور إبراهيم ماخوس له بإجراء مفاوضات مع "أبا إيبان" وزير خارجية إسرائيل. قال الدكتور الجندي:
قد يكون إلحاحي على نشر كل ما كتبت شعوراً بالذنب وتبريراً لنفسي، رغبة مني في أن يعرف البشر من أنا ولكنهم يرفضون رؤية كل شيء إلا الأسطورة فهي أرضى للخيال. يأتيني أصدقاء وصحفيون فنتحدث عن "عرب ويهود" و "صديقي إلياس" طويلاً وأكتشف أنهم لم يقرؤوهما وإنما ما روي عنهما من إشاعات و "أسرار" ويؤول بنا الحديث حتماً إلى ريبورتاج نشرته مجلة "الحوادث" التي أحترم أصحابها وما أحاطوني به من صداقة وود، تذكر فيه أني قابلت أبا إيبان بعد 5 حزيران، فلقد أكد لها ذلك بعض من يريد أن أبقى السياسي وهم يعلمون علم اليقين أني رفضت رفضاً قاطعاً أن أقابله.
كل من عرفني في باريس يعلم أني كنت حينما يصطدم الأديب بالسياسي أرفض الثاني دون تردد. أنا لم أقابله لأن الفنان يرفض عهر المغلوب. إنه لا يركع ركوع السياسي. كان وزير الخارجية الدكتور ماخوس يراوغ ويحيط حديثه بهالة قدسية عن التضحية. يطلب مني أن أكون كبش الفداء، يقول: "كنت حتى الآن ودائماً الهدف الذي لا يخشى السهام، يجب أن تحاول من أجل الجولان" وكنت أعلم كما يعلم هو أن إسرائيل لن تتنازل عن حفنة تراب، فلماذا الإيغال بالذل ولماذا يختارني أنا، لماذا الاحتيال علي؟.
ما كان يجهل أحد من الذين أوتوا اطلاعاً على السياسة السورية أني لم أكن السفير المدلل كما ظن كثيرون. كنت منبوذاً منها تأخذ علي سلوكاً لا يتطبع بطباعها ونقداً لم أحرص على كتمانه أوجهه في كل مناسبة. أجيب السائل عن أي موضوع يتعلق بها بلا حذر، أكان محباً للمعرفة أو كاتب تقرير، وما أكثر أصحاب "الأقلام" التي تتصيد مثلي ابتغاء مرضاة المسؤولين وعطاياهم. ما أسخى حكم سورية على النميمة والنمامين، يغدق دون وني أو حساب، وكنت غنيمة طيبة سهلة، مصدر رزق وشأن للذين يعرفون دخيلة الحكام وكرههم لي.
بعض العقائديين أصبح "ذا خطر" إلى أجل، استمتع الشعب بصوره الجذابة على الصفحات الأولى لأنه أطلع - مخلصاً للحزب والقضية، لا يروم من وراء تقاريره إلاها - الكبار على أرائي الهدامة ويمينيتي ورجعيتي والانحرافات المكبوتة التي كشفتها مسيرة "الثورة الظافرة" وسقوطي مع من سقط من الرفاق على طريقها الخطرة ونعوتاً أخرى من تلك التي توقظ "العطاء" الثوري وتثير كرمه.
سال الحبر على ورق التقارير عني أكثر منه عن إسرائيل، ولقد عذلني الصديق لائماً لي أني أغفل أمر نفسي، ولكن غبائي لم يبح لي الكتمان. كنت أريد لهم الخير، ألح عليهم أن يكونوا مؤمنين حقيقيين، أن يقلعوا عن الغوغائية والدجل، روابط عاطفية كثيرة كانت تشدني إليهم، فهم جزء من شبابي، لم يستطع خيالي أن يدرك أنه كان عبثاً إلى هذا الحد. إصلاحهم كان يعني أنه لم يكن دون جدوى، كان أسفي عليه يدفعني إلى النقد لعلي أنجو من تبكيت ضمير من يذر فتوته في أرض يباب.
كنت أنذرهم أن سبل الثورة باتت خطرة على نفسها وعلى الشعب وأنها ما باتت ثورة بل انقلاب شرذمة، أدى بها الغرور والأنانية والتمسك بالحكم إلى طغيان بوليسي لا هدف له ولا رجاء منه غير الخراب والتخريب والولوغ بالدم والشرف.
من يذكر الإشاعات التي كان يطلقها الحكم كلما قدمت دمشق من باريس في أمر خاص أو عام من محاولة انقلاب إلى مؤامرة وعدد المرات التي صدرت فيها الأوامر للحدود بعدم مغادرتي البلاد، يعجب لعرض الدكتور ماخوس. ولا أقدر أن إسرائيل تجهل هذه الأمور وهي التي تعلم كل ما تريد أن تعلم عن حكم سورية، فلم اختارني إذن؟ أليس اختياره مدعاة للعجب؟ زعم لي أنها مبادرة خاصة وأن الأمر يظل مكتوماً بيني وبينه وأنه يريد أن يقوم بلعبة ذكية "تفاجئ العالم جميعاً" وتنقذ جزءاً عزيزاً من أرض الوطن من الاحتلال وأننا لو نجحنا لسجلنا نصراً تاريخياً أهم من غزو "جبل طارق" على حد تعبيره وأننا نثبت للعرب أن الثورة "ليست عنيفة فحسب وإنما هي ذكية أيضاً".
كنت أسمع فلا أصدق وهو يشير بيديه ويقطب ويتهيج: مسرحية حقيقية. قلت له: "ولماذا ننفرد بهذا العمل التاريخي؟ هل تضمن موافقة الرفاق لو وصلنا إلى حل؟".
قال وقد أخذه الحال: "أنت مجنون.. هل تظن أنهم يرفضون؟ خاصة إذا بقي الموضوع سرياً؟".
فطلبت منه تفويضاً شخصياً يبقى سرياً إذا تعذر أن يكون جماعياً، يعرف منه الناس، فيما لو حدث ما لم يكن في الحسبان، حسن النية التي دفعت إلى ركوب هذا المركب. فثار الدكتور قائلاً: "أنتم جيل الحزب الأول لم يعد منكم "كار" هرمتم وخرفتم وجبنتم عن تحمل المسؤولية. لم تعودوا أهلاً للتضحية، لو كلفكم الوطن العربي والوحدة العربية ومستقبل الأمة العربية الاستغناء عن فنجان قهوة لما فعلتم".
واصطدمنا، فلان، وأخذ يذكرني بجنرال إنكليزي اعترف بخيانته في الحرب العالمية الأولى، وأعدم من أجل تنفيذ خطة رأت القيادة ضرورة موته كي يصدق العدو التقارير الكاذبة التي أرسلها وأعيدت محاكمته بعد النصر وبرئ وأعيد اعتباره.
رأيتني بعين خيالي معلقاً في ساحة المرجة وتساءلت بيني وبين نفسي: لم؟ هل يعود الجولان على جثتي؟ هل قضيته على هذه البساطة؟ من يعرف الدكتور ماخوس ولبوس البراءة التي يرتدي والتي خدعت الكثيرين لابد له من أن يذهب به الظن مذاهب شتى، وأنه يبطن غير ما يبدي، وليس هو بالذي يبادر المبادرات الخطيرة، فما هو غير صوت معلمه يغني فيطرب إذا شاء له ذاك، ويأتي نشيده نشازاً إذا أحب له.
من يعود إلى التاريخ ويقرأ مذكرات (وايزمن) يعرف أن إسرائيل لا يمكن أن تتنازل عن الجولان. لقد نبهت حكومتي منذ 1965 إلى أنها تنوي احتلاله. كنت أعارض دائماً في حرب مع إسرائيل أعرف أننا فيها خاسرون. التقارير التي كنت أحملها من لجان "المتابعة" سنة 1964 يوم كنت ممثلاً لسورية فيها ما كانت تدع مجالاً للشك في الهزيمة إذا قامت حرب. كلها كانت تؤكد أن القوة العربية لم تصل إلى نصف قوة إسرائيل. ولقد دخلنا في حرب 1967 بأقل من نصف قواها وما كان أحد من المسؤولين يجهل ذلك. فكيف إذن يعود الجولان "بلعبة ثورية ذكية ماهرة"؟!.
آرائي كلها، دون استثناء كانت ضد الحرب. لم أخف أبداً أن الحكم يعد لهزيمة لا لاسترداد فلسطين. لم تكن هنالك أية بادرة للنصر ولا أعني أنه كان يعد لهزيمة نفسه، وإنما لهزيمة العرب الآخرين كي يبقى "الثوري" الوحيد سيد المناخ الثوري العربي.
قلت له: "وما الثمن الذي ندفع بالجولان؟".
قال: "الاعتراف".
وكنت موقناً مثله وما زلت أن إسرائيل ليست حريصة على الاعتراف بها ولو شاءت لحصلت عليه، لأنه يفقدها مبرر "الدفاع" عن نفسها واحتلال أرض أخرى سنة 1970.
لم إذن اختارني الدكتور ماخوس لهذه المهمة وهو لم يعدم الأشخاص ولا الوسيلة للاتصال بإسرائيل. ثارت أقاويل في باريس نفسها عن أمين منظمة الحزب التابعة لدمشق. وأنا متأكد من أن اتصالات جرت عن طريق أكثر من دولة "ثالثة" وفي أكثر من عاصمة. أليس عجيباً إذن أن يختارني أنا؟ الأمر على غاية البساطة: من أجل أن أسكت. وقد أكون من القليلين الذين يعرفون أشياء كثيرة، الوحيد الذي لم يستطيعوا توريطه في قضية الجولان، الوحيد الشاهد عليها وعلى استغاثات الدكتور ماخوس يوم طلب وقف إطلاق النار: ليدعوا دمشق، نسلم القنيطرة، ليقف الزحف.. أمر الجيش بالانسحاب.
أسئلة كثيرة ترد إلى كل الأذهان: لماذا لم يطلب الحكم السوري وقف إطلاق النار مع المتحدة والأردن ما دام الاستمرار بالقتال مستحيلاً؟.
يجيب الحكم السوري أنه كان ينوي متابعة الكفاح المسلح ولا ننس أن الحدود السورية لم تمس إلا في 9 حزيران.
عندما نتتبع فصول معركة الجولان نجد أن العسكريين الذين قاوموا فعلوا دون أوامر. أما الذين صدرت إليهم فقد انسحبوا بناء على خطة.. ترى ما هي الخطة؟.
تم إخلاء الجولان من السكان منذ 5 حزيران. لماذا؟.
لست بحاجة للقول أن إعلان سقوط القنيطرة قبل أن يحصل أمر يحار فيه كل تعليل نبنيه على حسن النية.. إن تداعي الأفكار البسيطة يربط بين عدم وقف إطلاق النار والحدود سليمة والإلحاح بل الاستغاثة لوقفه بعد أن توغل الجيش الإسرائيلي في الجولان ويخلص إلى الاستنتاج بوجود خطة.
فوجئت لما رأيت على شاشة التلفاز مندوب سورية في الأمم المتحدة يعلن سقوط القنيطرة ووصول قوات إسرائيل إلى مشارف دمشق والمندوب الإسرائيلي يؤكد أن شيئاً من ذلك لم يحصل.
قال لي الدكتور ماخوس فيما بعد أنها كانت خطة ماهرة ل "إرعاب" العالم من أجل إنقاذ دمشق .
أقوال الجندي حجة عليه
ومن الجدير بالذكر أن اللوزي كان عدواً لحزب البعث، وبشكل أخص بعث الطائفة النصيرية ، ولقد حاول بعد احتلال جيش حافظ أسد للبنان أن يغير سياسته فكتب أكثر من مقال يثني به على المندوب السامي - أسد - لكن طاغية بلاد الشام لم يغفر لصاحب الحوادث ما كتبه عن ال
طائفة، ودبر قضية اغتياله بطريقة همجية وحشية، فقبل أن يطلق الجناة النار عليه أحرقوا يده التي كان يكتب بها.
وإذن فمجلة الحوادث هي التي كشفت اتصالات سورية إسرائيلية جرت بعد الخامس من حزيران، واضطر الجندي إلى الدفاع عن نفسه فكتب ما كتب.
وكان خلال هذه الفترة عضواً في مجلس الثورة، كما كان عضواً في قيادة الحزب القطرية ووزيراً فسفيراً، وأبعدته السلطة بسبب صراعات أجنحة الحزب، ولو كان رجل مواقف لتخلى عن السلطة منذ مذبحة تموز سنة 1963، أنظر إلى قوله:
"كنت أريد لهم الخير - يريد الخير لأسد وجديد -، ألح عليهم أن يكونوا مؤمنين حقيقيين، أن يقلعوا عن الغوغائية والدجل. روابط عاطفية كثيرة كانت تشدني إليهم، فهم جزء من شبابي".
".. ثارت أقاويل في باريس عن أمين منظمة الحزب التابعة لدمشق"، يعني أنه أجرى اتصالات مع إسرائيل".
وقوله: "وأنا متأكد من أن اتصالات جرت عن طريق أكثر من دولة ثالثة، وفي أكثر من عاصمة".
ما اسم أمين منظمة الحزب التابعة لدمشق؟!.
وإذا كان الجندي متأكداً جازماً، من هذه الدولة الوسيطة بين النظامين: السوري والإسرائيلي؟ ما اسم العواصم التي اجتمعوا فيها؟ وماذا أسفر عن هذه الاجتماعات؟ وكيف وصله الخبر؟ هل لأنه يريد الخير لهم، ولأنهم جزء من شبابه اكتفى بالتلميح دون التصريح؟! أنظر مرة أخرى إلى قوله:
"وقد أكون من القليلين الذين يعرفون أشياء كثيرة، الوحيد الذي لم يستطيعوا توريطه في قضية الجولان، الوحيد الشاهد عليها وعلى استغاثات الدكتور ماخوس يوم وقف إطلاق النار: ليدعوا دمشق، نسلم القنيطرة، ليقف الزحف.. أمر الجيش بالانسحاب".
ماذا يعني بقوله: ".. الوحيد الشاهد عليها - أي الجولان - وعلى استغاثات الدكتور ماخوس..".
إذا كان يعني ما قيل في أروقة الأمم المتحدة وإذاعة دمشق، فليس هو شاهد وحيد بل يعرفه معظم الناس، وإن كان يعني قضية أخرى فلا ندري، وبالمناسبة فأسرة الجندي ينحدرون من أصول إسماعيلية - يعني من الحشاشين -، وإن كان جدهم قد أسلم منذ عشرات السنين، ولعله لذلك ما زال متأثراً بالأسلوب الباطني
1 - زعم حافظ الأسد في تصريحه 20/5/1967 أن عدد الطيارين المسرحين من الجيش لا يتجاوز أصابع اليد.. ومن المعلوم أن عملية التسريحات كانت تتم حسب بيانات ونشرات تصدرها القيادة كل بضعة أيام أو أشهر، وكان آخر فوج من المسرحين في الشهر الخامس من عام 1967 أي قبل الحرب بشهر واحد، وبلغ مجموع الضباط الذين سرحوا من الجيش أكثر من ألفي ضابط، وهذا العدد كاف لشل قدرات جيش دولة كبرى، وليس دولة صغرى كسورية. 2 - سامي الجندي أحد أركان انقلاب الثامن من آذار وهو شريك للنظام في كل ما فعله ودليلي على ذلك استمراره في السلطة منذ سنة 1963 وإلى ما بعد هزيمة حزيران.. 3 - لم يكشف الجندي حيثيات خبر الحوادث إلا من منطلق الدفاع عن النفس، وهناك أمور أخرى لمح إليها ولم يصرح، ومن ذلك قوله: 1 - لسليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث اتصالات مع جهات كثيرة (محلية وعالمية)، وكانت هذه الاتصالات تمكنه من كشف الأسرار التي يريد كشفها، أو تريد جهة من الجهات التي لها صلة بالحوادث كشفها.
هذه الفقرات من ملفات سقوط الجولان منقولة من كتاب "رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي" لمؤلفه محمد عبد الغني النواوي، وهو كتاب فريد في بابه، مدعوم بالوثائق، صريح في أسلوبه فاحرص أخانا القارئ على اقتنائه.
كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع عندما وقعت خيانة سقوط القنيطرة واحتلال إسرائيل للجولان التي كان يطلق عليها خط ماجينو بسبب صعوبة اجتياحها من قبل الجيش المعادي، كما كان المسؤول الأول عن الجيش وعن الحرب لأن الحكم كان قد استقر للثلاثي النصيري: صلاح جديد، وحافظ أسد، وإبراهيم ماخوس، بعد معارك دامية مع الناصريين، ثم مع القيادة القومية (ميشيل عفلق، صلاح البيطار، منيف الرزاز)، ثم مع ذراري أهل السنة من البعثيين، ثم مع الدروز (سليم حاطوم، حمد عبيد، فهد الشاعر).
وإذا كان صلاح جديد قد هيمن على القيادة القطرية لحزب البعث، فلقد كان الجيش من نصيب حافظ أسد وهو المتحكم الوحيد فيه لدرجة أنه ما كان يسمح للجنة العسكرية من القيادة القطرية بتفقد وحدات الجيش والإشراف على شؤون التنظيم الحزبي فيه.
وبعد وقوع الكارثة قررت قيادة الحزب في اجتماع لها أن حافظ الأسد هو المسؤول الأول والأخير عن سقوط الجولان وعن بيان سقوط القنيطرة، وطلبوا منه أن يستقيل وكان من بين المتحمسين لمحاكمته عناصر من القيادة التي تضعه الآن في صفوف الآلهة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. غير أن صلاح جديد تراجع عن موقفه في اللحظات الأخيرة زاعماً أنه لا يجوز تحميل الأسد وحده مسؤولية ما حدث، وذلك لأن المسؤولية مشتركة، وما كان جديد يتوقع بأن هذا الضابط الذي كان يصفه بأنه (خجول ومتردد) سيبطش به في يوم من الأيام.
كان لابد من هذه المقدمة ونحن نقدم لقرائنا بعض الحقائق عن هذه الهزيمة النكراء ودور أسد وطائفته فيها، ولنستعرض فيما يلي بعض تصريحاتهم التي سبقت الكارثة.
النظام يقرع طبول الحرب
أدلى اللواء حافظ الأسد وزير الدفاع السوري بتصريح لصحيفة "الثورة" السورية الرسمية قال فيه:
".. إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل تردها إلى صوابها.. إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان.
إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات السورية المسلحة أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان الإسرائيلي، وإنما للمبادرة لعملية التحرير بالذات ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي.
إننا أخذنا بعين الاعتبار تدخل الأسطول الأمريكي السادس.
إن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة. وهناك إجماع في الجيش السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية".
وفي تصريحه لصحيفة الثورة السورية 20/5/1967 أضاف حافظ الأسد قائلاً:
"إن سلاح الطيران السوري تطور تطوراً كبيراً بعد ثورة 23 شباط 1966 من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات، وهي من أحدث الطائرات في العالم وأفضلها تسلحاً، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب".
وقال: "إن العملاء يركزون باستمرار على أن هناك عدداً كبيراً من الطيارين المسرحين، ولكن عدد الطيارين المؤهلين لخوض المعارك الجوية والذين هم خارج الخدمة، لا يتجاوز عدد أصابع اليد".
وتوالت تصريحات المسؤولين البعثيين بعد تصريح كبيرهم ووزير دفاعهم، ففي اجتماع طارئ لاتحاد المحامين العرب، عقد في دمشق، ألقى يوسف زعين رئيس الحكومة السورية كلمة في جلسة الافتتاح قال فيها:
"إن انحناء إسرائيل أمام الرد العربي الحاسم الآن، يجب أن لا يفسر بأنه انتصار نهائي عليها، فهو ليس إلا بداية الطريق لتحرير فلسطين، وتدمير إسرائيل.. وإن الظروف اليوم هي أفضل من أي وقت مضى لخوض معركة المصير العربي. وقال: "إن الشعوب العربية ستحاسب كل من يتخاذل عن الواجب".
وقال: "إن المسيرة إلى فلسطين، هي المسيرة إلى إسقاط الرجعية العربية والاستعمار والصهيونية إلى الأبد".
وفي 23/5/1967 أدلى العقيد أحمد المير قائد الجبهة السورية بالتصريح التالي:
"إن الجبهة أصبحت معبأة بشكل لم يسبق له مثيل من قبل".
وقال:
"إن العرب لم يهزموا في معركة 1948 على أيدي الإسرائيليين، بل من قبل حكامنا الخونة، وهذه المرة لن نسمح لهم أن يفعلوا ذلك".
وكان وزير الخارجية السورية الدكتور إبراهيم ماخوس من أكثر المسؤولين البعثيين ثرثرة، فبعد عودته من القاهرة أدلى بتصريح إلى وكالة الأنباء العربية السورية جاء فيه:
"إن زيارتي للقاهرة كانت لوضع اللمسات الأخيرة على الوضع السياسي العربي والدولي. وقال: إن مخططات الرجعية والاستعمار والصحف الصفراء التي دأبت على التشكيك بلقاء القوى التقدمية قد دحرت. وإن سحب قوات الطوارئ بالشكل الذي تم به يبرهن على أن لاشيء يقف في طريق الثورة، وإن تشكيك الرجعية حول وجود هذه القوات قد رد إلى نحرها" . فضح ادعاءاتهم
وكل ضابط أو صف ضابط يعلم كذب ادعاء حافظ أسد، فسلاح الطيران بالذات سرح معظم ضباطه، ممن كانوا يتمتعون بكفاءات عالية، وأنفقت عليهم الأمة أموالاً طائلة.. وكان تسريحهم يعني إبعاد سلاح الجو عن أية معركة.
وقوله هذا يدل على استهتاره وقلة حيائه، فالفترة الزمنية التي زعم فيها أن سلاح الطيران تطور تطوراً كبيراً هي ما بين 23/2/1966 و 5/6/1967 فهل يكون معقولاً أن تكون سنة وثلاثة أشهر كافية لتطوير سلاح الطيران؟!.
إن هذه الفترة الزمنية غير كافية لتخريج دورة واحدة، ولو تم تخريج هذه الدورة حسب الطريقة البعثية النصيرية، فلن يكون أفرادها قادرين على خوض معركة مصيرية مع سلاح الجو الإسرائيلي فور تخرجهم.. فهناك دورات وخبرات بعد التخريج.. والأنكى من هذا كله أن وزير الدفاع حافظ أسد الذي يزعم أن سلاح الجو السوري تطور تطوراً كبيراً خلال سنة وثلاثة أشهر هو ضابط طيار ويعرف أهمية هذا السلاح واستحالة ما زعمه خلال الزمن الذي حدده.
وللقارئ الكريم أن يقارن بين تصريح أسد الآنف الذكر، وتصريح الجنرال "هود" قائد سلاح الجو الإسرائيلي:
وجه الصحفيون إلى قائد سلاح الجو الإسرائيلي السؤال التالي:
كيف استطاعت إسرائيل تحقيق مثل هذا النصر الحاسم بهذه السرعة الفائقة؟!.
الجواب: "لقد قضينا ست عشرة سنة نستعد ونخطط لهذه الجولة، وحققنا جهدنا في ثمانين دقيقة! لقد عشنا خطتنا، نمنا معها، أفقنا عليها، تمثلناها، هضمناها، وبالتدريج أدخلنا عليها الإصلاحات المتتالية حتى قاربت الكمال" .
وإذن فطيلة ست عشرة سنة وسلاح الجو الإسرائيلي يتدرب لاحتلال الجولان والضفة الغربية وسيناء وتدمير المطارات العربية.. ويزعم حافظ الأسد أنه صنع المعجزات خلال سنة وثلاثة أشهر!!.
ولا أدري متى أعطتهم الشعوب العربية حق تمثيلها، وكيف تم هذا الاستفتاء؟!.
ولنتحدث عن سورية التي ابتلاها الله بهم، أما مصر مثلاً فليس لهم وجود فيها:
- فالإسلاميون على مختلف هيئاتهم وجمعياتهم كانوا بين سجين وطريد.
- والناصريون كل الناصريين كانوا يلملمون جراحهم بعد مذبحة تموز 1963 وما تلاها من نكبات ومصائب لحقت بهم.
- والرجعيون كما يدعون 2 - قال "أسد" أن سلاح الجو تطور تطوراً كبيراً بعد ثورة 23 شباط 1966 من حيث الكمية والنوع والتدريب وزيادة عدد الطيارين. 3 - كان البعثيون النصيريون من حكام سورية يتحدثون - من خلال بياناتهم وتصريحاتهم - باسم الأمة العربية، ويرون أنهم يمثلون إرادة الشعوب العربية.
كحزبي الشعب والوطني، والانفصاليين والمستقلين
انتهى دورهم منذ الثامن من آذار 1963، ومعظمهم تم عزله مدنياً.
- والبعثيون: تم عزل جناح أكرم الحوراني منذ انقلاب الثامن من آذار، ولحق بهم البعثيون الناصريون
جناح عبد الكريم زهور
وفي 23 شباط 1966 تم إبعاد جناح العفالقة
ميشيل عفلق، صلاح البيطار، محمد أمين الحافظ، منيف الرزاز
، ولحق بهم من تبقى من الجناح الدرزي
سليم حاطوم، وحمد عبيد
- والنصيريون لم تكن كلمتهم قد اجتمعت على حافظ أسد، وإنما كانوا أربعة أجنحة: عمران، ماخوس، جديد، أسد.
إذن من بقي من هذا الشعب المستضعف البائس مع النظام المستبد؟!.. إنهم لا يتجاوزن 5 %، أما 95 % من الشعب السوري فكانوا لا يأمنون على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم.
فكيف تنتصر أمة يسوسها حثالة الناس من أمثال أسد وجديد؟!.
وبعد هذا كله يزعم أسد وصحبه أن الجيش السوري قادر على مواجهة إسرائيل، والأسطول السادس الأمريكي، والأنظمة الرجعية في الوطن العربي، وعملاء الاستعمار داخل سورية - أي 95 % من المواطنين -!!.
ولندع المجال للدكتور سامي الجندي يرد على رفاقه.
قال الجندي يصف اجتماعاً لمجلس قيادة الثورة بعد الثامن من آذار:
".. ألقينا على أنفسنا أسئلة كثرة وناقشنا كل القضايا، ومن بينها القضية الفلسطينية التي كانت دائماً محور السياسة العربية الرئيسي والأساسي، وخاصة الدول المتاخمة لإسرائيل، وفي وعينا أنها أخطر القضايا، فهي مكمن خطر كبير، كما هي مصدر خوف جماهيري.
ولأعطي فكرة عن موقف سورية تجاه هذه القضية، يكفي أن أنوه بأن 63% من الميزانية مكرس للتسلح، مما يشكل نسبة ضخمة بالقياس إلى بلد في طريق التنمية. سألنا أنفسنا هذا السؤال الدقيق:
"ماذا نفعل لو هاجمتنا إسرائيل؟" طلبنا أدق المعلومات السرية لنستطيع تقييم قوة العدو وقوتنا. وفوجئنا بالفرق الشاسع بين القوتين. وقدرنا أن الجيش السوري، رغم تسلحه الجيد، وتمرسه وشجاعته، ليس في وضع يسمح له أن يصمد أكثر من ساعات أمام أي هجوم إسرائيلي".
وعن اجتماع قمة الدار البيضاء قال الجندي:
"حضر الزعماء العرب عدة مؤتمرات قمة، بقصد مواجهة قضية فلسطين متحدين، ومن تلك المؤتمرات مؤتمر الدار البيضاء، تحدثوا هناك عن تحويل مجرى نهر الأردن، وعن عزم إسرائيل على إعلان الحرب ضدنا. أبدى كثيرون حماسة عظيمة، مكبرين الكرامة القومية، منتشين بحمية المنطلقات الرومنطيقية، ثم جاء دور العسكريين. فقدم الجنرال علي علي عامر تقريره. فنظر كل من الزعماء إلى أخيه، في خيبة أمل كبرى! كان عليهم أن يواجهوا الحقيقة المرة. إنهم قادة شعب من مائة مليون عربي مسلحين كامل التسليح!.
ثم قدم الجنرال علي علي عامر بيانه الحربي فقال:
"إذا تحملت الدول العربية مسؤولياتها كاملة، فستصبح قواتنا معادلة لقوات إسرائيل خلال ثلاث سنوات. فإذا شئنا التفوق عليها لزمتنا ثلاث سنوات أخرى، لأن تعادل قواتنا لا يعني النصر حتماً. ذلك لأن التدريب الإسرائيلي متفوق على تدريب جيوشنا. وثمة عوامل عدة في صالح إسرائيل في كل معركة هي: وحدة الأرض، سهولة إدارة المعركة، سهولة الحركة. أضف إلى ذلك وحدة القيادة. ولا ننسى أبداً وسائل الاتصال الجيدة. فلتحشد إسرائيل جيوشها لا تحتاج إلى استقدام قواتها المسلحة من مسافة آلاف الكيلومترات".
صدّق الزعماء العرب على تقرير علي علي عامر ووقعوه ونفذ المخطط، حرفياً، خلال ستة أشهر، ثم نجم من جديد الخلاف بين الزعماء وعبر الإذاعات، وتوقف المخطط، حتى هذه الساعة، إذن لم يكن العرب مستعدين للمعركة .
وخلاصة رأي الدكتور سامي الجندي: أن النظام السوري الذي يقرع طبول الحرب، وهو يعلم ضعف إعداد الجيش إنما يهدف من وراء ذلك إلى تسليم العدو اليهودي جزءاً من الأراضي السورية.
يقول في كتابه "كسرة خبز":
"من يعود إلى التاريخ ويقرأ مذكرات (وايزمن) يعرف أن إسرائيل لا يمكن أن تتنازل عن الجولان. لقد نبهت حكومتي منذ 1965 إلى أنها تنوي احتلاله. كنت أعارض دائماً في حرب مع إسرائيل أعرف أننا فيها خاسرون. التقارير التي كنت أحملها من لجان
المتابعة
سنة 1964 يوم كنت ممثلاً لسورية فيها ما كانت تدع مجالاً للشك في الهزيمة إذا قامت حرب. كلها كانت تؤكد أن القوة العربية لم تصل إلى نصف قوة إسرائيل. ولقد دخلنا في حرب 1967 بأقل من نصف قوانا وما كان أحد من المسؤولين يجهل ذلك. فكيف إذن يعود الجولان
بلعبة ثورية ذكية ماهرة
؟!.
آرائي كلها دون استثناء كانت ضد الحرب. لم أخف أبداً أن الحكم يعد لهزيمة لا لاسترداد فلسطين. لم تكن هناك أية بادرة للنصر ولا أعني أنه كان يعد لهزيمته نفسه، وإنما لهزيمة العرب الآخرين كي يبقى
الثوري
الوحيد سيد المناخ الثوري العربي".
تعليق: هذا الذي قاله سامي الجندي لم ينفرد به، بل قاله عدد من الزعماء العرب الذين كانوا يشاركون في مؤتمرات القمة العربية التي سبقت 5 حزيران 1967، فالزعيم السوداني محمد أحمد محجوب في كتابه "الديمقراطية في الميزان" يؤكد أن العرب في مؤتمر الدار البيضاء كانوا متفقين على وجوب تجنب الحرب في ذلك الحين، ويستغرب كيف تمكن الحزبيون البعثيون من استدراج عبد الناصر فأقدم بصورة مرتجلة على سحب قوات الطوارئ الدولية من قطاع غزة وشرم الشيخ، ثم يضيف قائلاً:
"في رأيي أن ناصر كان حتى آخر لحظة، لا يعتقد أن الأمر سيؤدي إلى حرب فعلية، كانت خطته مناورة سياسية، ولكنه ذهب فيها بعيداً ولم تبق هناك طريقة شريفة للتراجع، وأخيراً هبت العاصفة يوم الاثنين 5 حزيران 1967".
وإذن فقائد الجيش ووزير دفاعه ومعه أركان الحكم كانوا يعلمون حقيقة - حسب قول سامي الجندي - أنه لن يصمد أمام إسرائيل إذا وقعت الحرب إلا ساعات قليلة، هذا إذا حاربوا فعلاً. فكيف يكون الحال إذا كان افتعال الحرب مسرحية لمؤامرة رهيبة، وهذا ما يفسر لنا بلاغ سقوط القنيطرة:
سقوط القنيطرة
أو البلاغ رقم 66
السبت 10 حزيران 1967، أعلن وزير الدفاع حافظ أسد الساعة 9.30 البلاغ العسكري رقم 66، وهذا نصه:
"إن القوات الإسرائيلية استولت على القنيطرة بعد قتال عنيف دار منذ الصباح الباكر في منطقة القنيطرة ضمن ظروف غير متكافئة، وكان العدو يغطي سماء المعركة بإمكانات لا تملكها غير دولة كبرى . وقد قذف العدو في المعركة بأعداد كبيرة من الدبابات واستولى على مدينة القنيطرة على الرغم من صمود جنودنا البواسل. إن الجيش لا يزال يخوض معركة قاسية للدفاع عن كل شبر من أرض الوطن كما أن وحدات لم تشترك في القتال بعد قد أخذت مراكزها".
وفي اليوم نفسه الساعة 12.05 ظهراً أصدر وزير الدفاع البلاغ التالي:
"إن قتالاً عنيفاً لا يزال يدور داخل مدينة القنيطرة وعلى مشارفها، وقال البلاغ: إن القوات السورية مازالت حتى الآن تقاتل داخل المدينة وعلى مشارفها جنباً إلى جنب مع قوات الجيش الشعبي بكل ضراوة وصمود بحيث لم يتمكن العدو من السيطرة الكاملة على مدينة القنيطرة".
يقول الضابط خليل مصطفى: "لاحظ التناقض، ففي الساعة 9.30 أعلن البلاغ: استولت القوات الإسرائيلية على مدينة القنيطرة، وفي الساعة 12.05 أي بعد ساعة ونصف، يعلن بلاغ آخر: إن قواتنا ما زالت حتى الآن تقاتل داخل المدينة وعلى مشارفها!".
وغني عن التأكيد أن القنيطرة لم تسقط ولم يحارب الجيش فيها، بل كان جيش العدو بعيداً عنها، فكيف أذاع وزير الدفاع هذا البيان؟ لننقل فيما يلي بعض ما قاله المطلعون:
أولاً رواية سعد جمعة
كان سعد جمعة رئيس وزراء الأردن في حرب حزيران، وقد هداه الله سبحانه وتعالى للحق وامتلأ قلبه بنور الإيمان فاعتزل الحكم وأخذ يكتب عن هذه المرحلة، ويكشف أساليب ومخططات أعداء الإسلام، وبحكم منصبه رأى واطلع على أشياء كثيرة لم يتسن لأمثالنا أن يطلع عليها.
ومن ذلك أنه تحدث - رحمه الله - عن سبب تلكؤ السوريين في خوض معركة الخامس من حزيران، وانهيار تحصينات المرتفعات السورية التي لا تقهر، ولا تقتحم، والتي هي أعظم تحصينات عرفتها المنطقة، قال رحمه الله :
"قال الراوي: ظهر الخامس من حزيران، اتصل سفير دولة كبرى في دمشق بمسؤول كبير، ودعاه إلى منزله لأمر عاجل هام!! وتم الاجتماع في الحال، فنقل السفير للمسؤول السوري نص برقية عاجلة من حكومته، تؤكد أن سلاح الجو الإسرائيلي قد قضى قضاء مبرماً على سلاح الجو المصري، وأن المعركة بين العرب وإسرائيل قد اتضحت نتائجها منذ الساعة التاسعة من ذلك الصباح، وأن كل مقاومة أرضية ستورث خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات لا مبرر لها، وأن إسرائيل لا تنوي مهاجمة النظام السوري، بعد أن يستتب لها تأديب جمال عبد الناصر! وبانتهاء الزعيم المصري، تتفتح الآفاق العربية أمام الثورة البعثية من المحيط إلى الخليج، وأن إسرائيل، من قبل ومن بعد، بلد اشتراكي، يعطف على التجربة الاشتراكية البعثية.. خاصة البعثية العلوية، ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل معها لمصلحة الكادحين في البلدين.. وقد يكون ذلك منطلقاً نحو تسوية نهائية على أسس الأخوة الاشتراكية، ولهذا فمصلحة سورية.. مصلحة الحزب ومكاسب الثورة، أن تكتفي بمناوشات بسيطة، فتكفل لنفسها السلامة!!.
وذهب المسؤول السوري، ليعرض ما سمعه لتوه على رفاق القيادة القومية والقيادة القطرية.. إلى آخر القيادات! وكانت الطائرات الإسرائيلية في تلك اللحظة تدمر المطارات السورية والطائرات الجاثمة - براحة - فوقها، مما أضفى على الموقف جو المأساة!.
وعاد الرسول السوري، غير بعيد، ليبلغ السفير استجابة الحزب والحكومة والقيادات، لمضمون البرقية العاجلة! وهكذا كان!.
غير أن إسرائيل، بعد أن انتهت العمليات الحربية في الجبهتين الجنوبية والشرقية، اتجهت بثقلها إلى الجبهة الشمالية، بعد أن مهدت لهذه الحركة المفاجئة بحرب نفسية، فسقط خط "ماجينو" السوري دون قتال! وسحبت القوات الأمامية لحماية مكاسب الثورة.. وبطولات الحاكمين في دمشق!.
وقال معلق راديو دمشق ذلك المساء: الحمد لله! لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة أمام الزحف الإسرائيلي، الحمد لله الذي أفسد خطة العدو وقضى على أهدافه الجهنمية، إن إسرائيل لن تحقق نصراً يذكر، طالما أن حكام دمشق بخير!!.
وليت شعري ما الذي كان يعيق إسرائيل عن المضي في فسحة إلى دمشق!.. لكنها لا تريد ولن تريد إذ ليس بالإمكان أبدع مما هو كائن!! .
ثانياً رواية دريد المفتي
ويقول سعد جمعة رحمه الله أيضاً، ومن ذكرياتي:
جاءني ذات يوم في مكتب بلندن شخص لا أعرفه، وقدم نفسه: أنا الدكتور (دريد المفتي) من دمشق.. كنت وزير سورية المفوض في مدريد أثناء حرب حزيران. لقد قرأت في كتابك "المؤامرة ومعركة المصير" عن جريمة تسليم مرتفعات الجولان لجيش الدفاع الإسرائيلي دون قتال، التي اقترفها ثلاثي (جديد، زعين ، ماخوس). وأحب أن أزيدك بياناً:
قال: استدعاني وزير خارجية أسبانيا لمقابلته صباح يوم 28/7/1967 وأعلمني، ووجهه يطفح حبوراً، أن مساعيه الطيبة قد أثمرت لدى أصدقائه الأمريكان، بناء على تكليف السيد (ماخوس) وزير خارجية سورية للسفير الأسباني في دمشق.. ثم سلمني مذكرة مؤرخة في 27/7/1967.. ومد إليّ يده بصورة المذكرة، فقرأتها عجلاً ثم أعدتها إليه شاكراً.. وسجلت في مفكرتي ما بقي في الذاكرة من نص المذكرة:
"تهدي وزارة خارجية الحكومة الإسبانية تحياتها إلى السفارة السورية بمدريد، وترجو أن تعلمها أنها قامت بناء على رغبة الحكومة السورية بالاتصال بالجهات الأمريكية المختصة لإعلامها برغبة سورية في المحافظة على الحالة الراهنة الناجمة عن حرب حزيران سنة 1967.. وتود إعلامها أنها نتيجة لتلك الاتصالات، تؤكد الحكومة الأمريكية أن ما تطلبه الحكومة السورية ممكن، إذا حافظت سورية على هدوء المنطقة، وسمحت لسكان الجولان بالهجرة للاستيطان في بقية أجزاء الوطن السوري، وتعهدت بعدم قيام نشاطات تخريبية من ناحيتها تعكر الوضع الراهن" .
ثالثاً رواية ضابط سوري
نقل الضابط السوري خليل مصطفى بريز عن مطلعين سوريين أن اتصالات غير مباشرة جرت بين إسرائيل ونظام دمشق، وأن الذي كشف هذه الاتصالات ملازم أول في الجيش، وإليكم الرواية:
يقول الملازم أول: ".." (أ) عضو الوفد السوري إلى لجنة الهدنة المشتركة.. ميلي: "إنه استدعي إلى مكتب الدكتور يوسف زعين، رئيس الوزارة البعثية، بتاريخ 9 حزيران 1967 الساعة العاشرة ليلاً.. فوجد عدداً من أفراد لجنة الرقابة الدولية في مكتب الزعين، برفقة السفير (..) في دمشق.. فكلف الضابط المذكور بالترجمة بين رئيس الوزارة ومخاطبيه.
قال السفير: إذا لم تسحب القيادة السورية قواتها من الجولان.. فإن القوات الإسرائيلية لن ترتضي هدفاً بتوقف زحفها عنده إلا دمشق..
وهنا سأل الزعين: وما هي الحدود التي تريد إسرائيل الوقوف عندها؟..
أجاب السفير: هل عندكم خريطة؟.
فأبرز الملازم الأول المذكور خريطته، وهنا وضع السفير عدداً من النقاط التي يجب أن يمر بها خط الحدود الجديد.. وتتوقف عنده القوات الإسرائيلية.. إذا قامت السلطات البعثية بسحب قواتها خارجاً عنه..
.. وافق الدكتور زعين
يقول الملازم الأول المترجم
.. ووعده السفير بتحقيق ما طلب.. وغادر الجميع مكتب رئاسة الوزراء على هذا الأمل..
يقول الضابط خليل مصطفى:
"وفي الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي.. صدر بلاغ سقوط القنيطرة.. وفي الوقت نفسه كذلك ملأت جو الجولان الشائعات الخانقة، عن أوامر الانسحاب المزعومة، فكان الهروب الكبير، ودخلت القوات الإسرائيلية أرضنا الكريمة، راكبة إلى نزهة عسكرية دونما خوف من صدام حقيقي يشتتها أو يفنيها".
سقوط الجولان: 306، 307
.
رابعاً رواية سامي الجندي
الدكتور سامي الجندي كان سفيراً لنظام البعث السوري في فرنسا قبل هزيمة حزيران وبعدها، ويتحدث فيما يلي عن تكليف الدكتور إبراهيم ماخوس له بإجراء مفاوضات مع "أبا إيبان" وزير خارجية إسرائيل. قال الدكتور الجندي:
قد يكون إلحاحي على نشر كل ما كتبت شعوراً بالذنب وتبريراً لنفسي، رغبة مني في أن يعرف البشر من أنا ولكنهم يرفضون رؤية كل شيء إلا الأسطورة فهي أرضى للخيال. يأتيني أصدقاء وصحفيون فنتحدث عن "عرب ويهود" و "صديقي إلياس" طويلاً وأكتشف أنهم لم يقرؤوهما وإنما ما روي عنهما من إشاعات و "أسرار" ويؤول بنا الحديث حتماً إلى ريبورتاج نشرته مجلة "الحوادث" التي أحترم أصحابها وما أحاطوني به من صداقة وود، تذكر فيه أني قابلت أبا إيبان بعد 5 حزيران، فلقد أكد لها ذلك بعض من يريد أن أبقى السياسي وهم يعلمون علم اليقين أني رفضت رفضاً قاطعاً أن أقابله.
كل من عرفني في باريس يعلم أني كنت حينما يصطدم الأديب بالسياسي أرفض الثاني دون تردد. أنا لم أقابله لأن الفنان يرفض عهر المغلوب. إنه لا يركع ركوع السياسي. كان وزير الخارجية الدكتور ماخوس يراوغ ويحيط حديثه بهالة قدسية عن التضحية. يطلب مني أن أكون كبش الفداء، يقول: "كنت حتى الآن ودائماً الهدف الذي لا يخشى السهام، يجب أن تحاول من أجل الجولان" وكنت أعلم كما يعلم هو أن إسرائيل لن تتنازل عن حفنة تراب، فلماذا الإيغال بالذل ولماذا يختارني أنا، لماذا الاحتيال علي؟.
ما كان يجهل أحد من الذين أوتوا اطلاعاً على السياسة السورية أني لم أكن السفير المدلل كما ظن كثيرون. كنت منبوذاً منها تأخذ علي سلوكاً لا يتطبع بطباعها ونقداً لم أحرص على كتمانه أوجهه في كل مناسبة. أجيب السائل عن أي موضوع يتعلق بها بلا حذر، أكان محباً للمعرفة أو كاتب تقرير، وما أكثر أصحاب "الأقلام" التي تتصيد مثلي ابتغاء مرضاة المسؤولين وعطاياهم. ما أسخى حكم سورية على النميمة والنمامين، يغدق دون وني أو حساب، وكنت غنيمة طيبة سهلة، مصدر رزق وشأن للذين يعرفون دخيلة الحكام وكرههم لي.
بعض العقائديين أصبح "ذا خطر" إلى أجل، استمتع الشعب بصوره الجذابة على الصفحات الأولى لأنه أطلع - مخلصاً للحزب والقضية، لا يروم من وراء تقاريره إلاها - الكبار على أرائي الهدامة ويمينيتي ورجعيتي والانحرافات المكبوتة التي كشفتها مسيرة "الثورة الظافرة" وسقوطي مع من سقط من الرفاق على طريقها الخطرة ونعوتاً أخرى من تلك التي توقظ "العطاء" الثوري وتثير كرمه.
سال الحبر على ورق التقارير عني أكثر منه عن إسرائيل، ولقد عذلني الصديق لائماً لي أني أغفل أمر نفسي، ولكن غبائي لم يبح لي الكتمان. كنت أريد لهم الخير، ألح عليهم أن يكونوا مؤمنين حقيقيين، أن يقلعوا عن الغوغائية والدجل، روابط عاطفية كثيرة كانت تشدني إليهم، فهم جزء من شبابي، لم يستطع خيالي أن يدرك أنه كان عبثاً إلى هذا الحد. إصلاحهم كان يعني أنه لم يكن دون جدوى، كان أسفي عليه يدفعني إلى النقد لعلي أنجو من تبكيت ضمير من يذر فتوته في أرض يباب.
كنت أنذرهم أن سبل الثورة باتت خطرة على نفسها وعلى الشعب وأنها ما باتت ثورة بل انقلاب شرذمة، أدى بها الغرور والأنانية والتمسك بالحكم إلى طغيان بوليسي لا هدف له ولا رجاء منه غير الخراب والتخريب والولوغ بالدم والشرف.
من يذكر الإشاعات التي كان يطلقها الحكم كلما قدمت دمشق من باريس في أمر خاص أو عام من محاولة انقلاب إلى مؤامرة وعدد المرات التي صدرت فيها الأوامر للحدود بعدم مغادرتي البلاد، يعجب لعرض الدكتور ماخوس. ولا أقدر أن إسرائيل تجهل هذه الأمور وهي التي تعلم كل ما تريد أن تعلم عن حكم سورية، فلم اختارني إذن؟ أليس اختياره مدعاة للعجب؟ زعم لي أنها مبادرة خاصة وأن الأمر يظل مكتوماً بيني وبينه وأنه يريد أن يقوم بلعبة ذكية "تفاجئ العالم جميعاً" وتنقذ جزءاً عزيزاً من أرض الوطن من الاحتلال وأننا لو نجحنا لسجلنا نصراً تاريخياً أهم من غزو "جبل طارق" على حد تعبيره وأننا نثبت للعرب أن الثورة "ليست عنيفة فحسب وإنما هي ذكية أيضاً".
كنت أسمع فلا أصدق وهو يشير بيديه ويقطب ويتهيج: مسرحية حقيقية. قلت له: "ولماذا ننفرد بهذا العمل التاريخي؟ هل تضمن موافقة الرفاق لو وصلنا إلى حل؟".
قال وقد أخذه الحال: "أنت مجنون.. هل تظن أنهم يرفضون؟ خاصة إذا بقي الموضوع سرياً؟".
فطلبت منه تفويضاً شخصياً يبقى سرياً إذا تعذر أن يكون جماعياً، يعرف منه الناس، فيما لو حدث ما لم يكن في الحسبان، حسن النية التي دفعت إلى ركوب هذا المركب. فثار الدكتور قائلاً: "أنتم جيل الحزب الأول لم يعد منكم "كار" هرمتم وخرفتم وجبنتم عن تحمل المسؤولية. لم تعودوا أهلاً للتضحية، لو كلفكم الوطن العربي والوحدة العربية ومستقبل الأمة العربية الاستغناء عن فنجان قهوة لما فعلتم".
واصطدمنا، فلان، وأخذ يذكرني بجنرال إنكليزي اعترف بخيانته في الحرب العالمية الأولى، وأعدم من أجل تنفيذ خطة رأت القيادة ضرورة موته كي يصدق العدو التقارير الكاذبة التي أرسلها وأعيدت محاكمته بعد النصر وبرئ وأعيد اعتباره.
رأيتني بعين خيالي معلقاً في ساحة المرجة وتساءلت بيني وبين نفسي: لم؟ هل يعود الجولان على جثتي؟ هل قضيته على هذه البساطة؟ من يعرف الدكتور ماخوس ولبوس البراءة التي يرتدي والتي خدعت الكثيرين لابد له من أن يذهب به الظن مذاهب شتى، وأنه يبطن غير ما يبدي، وليس هو بالذي يبادر المبادرات الخطيرة، فما هو غير صوت معلمه يغني فيطرب إذا شاء له ذاك، ويأتي نشيده نشازاً إذا أحب له.
من يعود إلى التاريخ ويقرأ مذكرات (وايزمن) يعرف أن إسرائيل لا يمكن أن تتنازل عن الجولان. لقد نبهت حكومتي منذ 1965 إلى أنها تنوي احتلاله. كنت أعارض دائماً في حرب مع إسرائيل أعرف أننا فيها خاسرون. التقارير التي كنت أحملها من لجان "المتابعة" سنة 1964 يوم كنت ممثلاً لسورية فيها ما كانت تدع مجالاً للشك في الهزيمة إذا قامت حرب. كلها كانت تؤكد أن القوة العربية لم تصل إلى نصف قوة إسرائيل. ولقد دخلنا في حرب 1967 بأقل من نصف قواها وما كان أحد من المسؤولين يجهل ذلك. فكيف إذن يعود الجولان "بلعبة ثورية ذكية ماهرة"؟!.
آرائي كلها، دون استثناء كانت ضد الحرب. لم أخف أبداً أن الحكم يعد لهزيمة لا لاسترداد فلسطين. لم تكن هنالك أية بادرة للنصر ولا أعني أنه كان يعد لهزيمة نفسه، وإنما لهزيمة العرب الآخرين كي يبقى "الثوري" الوحيد سيد المناخ الثوري العربي.
قلت له: "وما الثمن الذي ندفع بالجولان؟".
قال: "الاعتراف".
وكنت موقناً مثله وما زلت أن إسرائيل ليست حريصة على الاعتراف بها ولو شاءت لحصلت عليه، لأنه يفقدها مبرر "الدفاع" عن نفسها واحتلال أرض أخرى سنة 1970.
لم إذن اختارني الدكتور ماخوس لهذه المهمة وهو لم يعدم الأشخاص ولا الوسيلة للاتصال بإسرائيل. ثارت أقاويل في باريس نفسها عن أمين منظمة الحزب التابعة لدمشق. وأنا متأكد من أن اتصالات جرت عن طريق أكثر من دولة "ثالثة" وفي أكثر من عاصمة. أليس عجيباً إذن أن يختارني أنا؟ الأمر على غاية البساطة: من أجل أن أسكت. وقد أكون من القليلين الذين يعرفون أشياء كثيرة، الوحيد الذي لم يستطيعوا توريطه في قضية الجولان، الوحيد الشاهد عليها وعلى استغاثات الدكتور ماخوس يوم طلب وقف إطلاق النار: ليدعوا دمشق، نسلم القنيطرة، ليقف الزحف.. أمر الجيش بالانسحاب.
أسئلة كثيرة ترد إلى كل الأذهان: لماذا لم يطلب الحكم السوري وقف إطلاق النار مع المتحدة والأردن ما دام الاستمرار بالقتال مستحيلاً؟.
يجيب الحكم السوري أنه كان ينوي متابعة الكفاح المسلح ولا ننس أن الحدود السورية لم تمس إلا في 9 حزيران.
عندما نتتبع فصول معركة الجولان نجد أن العسكريين الذين قاوموا فعلوا دون أوامر. أما الذين صدرت إليهم فقد انسحبوا بناء على خطة.. ترى ما هي الخطة؟.
تم إخلاء الجولان من السكان منذ 5 حزيران. لماذا؟.
لست بحاجة للقول أن إعلان سقوط القنيطرة قبل أن يحصل أمر يحار فيه كل تعليل نبنيه على حسن النية.. إن تداعي الأفكار البسيطة يربط بين عدم وقف إطلاق النار والحدود سليمة والإلحاح بل الاستغاثة لوقفه بعد أن توغل الجيش الإسرائيلي في الجولان ويخلص إلى الاستنتاج بوجود خطة.
فوجئت لما رأيت على شاشة التلفاز مندوب سورية في الأمم المتحدة يعلن سقوط القنيطرة ووصول قوات إسرائيل إلى مشارف دمشق والمندوب الإسرائيلي يؤكد أن شيئاً من ذلك لم يحصل.
قال لي الدكتور ماخوس فيما بعد أنها كانت خطة ماهرة ل "إرعاب" العالم من أجل إنقاذ دمشق .
أقوال الجندي حجة عليه
ومن الجدير بالذكر أن اللوزي كان عدواً لحزب البعث، وبشكل أخص بعث الطائفة النصيرية ، ولقد حاول بعد احتلال جيش حافظ أسد للبنان أن يغير سياسته فكتب أكثر من مقال يثني به على المندوب السامي - أسد - لكن طاغية بلاد الشام لم يغفر لصاحب الحوادث ما كتبه عن ال
طائفة، ودبر قضية اغتياله بطريقة همجية وحشية، فقبل أن يطلق الجناة النار عليه أحرقوا يده التي كان يكتب بها.
وإذن فمجلة الحوادث هي التي كشفت اتصالات سورية إسرائيلية جرت بعد الخامس من حزيران، واضطر الجندي إلى الدفاع عن نفسه فكتب ما كتب.
وكان خلال هذه الفترة عضواً في مجلس الثورة، كما كان عضواً في قيادة الحزب القطرية ووزيراً فسفيراً، وأبعدته السلطة بسبب صراعات أجنحة الحزب، ولو كان رجل مواقف لتخلى عن السلطة منذ مذبحة تموز سنة 1963، أنظر إلى قوله:
"كنت أريد لهم الخير - يريد الخير لأسد وجديد -، ألح عليهم أن يكونوا مؤمنين حقيقيين، أن يقلعوا عن الغوغائية والدجل. روابط عاطفية كثيرة كانت تشدني إليهم، فهم جزء من شبابي".
".. ثارت أقاويل في باريس عن أمين منظمة الحزب التابعة لدمشق"، يعني أنه أجرى اتصالات مع إسرائيل".
وقوله: "وأنا متأكد من أن اتصالات جرت عن طريق أكثر من دولة ثالثة، وفي أكثر من عاصمة".
ما اسم أمين منظمة الحزب التابعة لدمشق؟!.
وإذا كان الجندي متأكداً جازماً، من هذه الدولة الوسيطة بين النظامين: السوري والإسرائيلي؟ ما اسم العواصم التي اجتمعوا فيها؟ وماذا أسفر عن هذه الاجتماعات؟ وكيف وصله الخبر؟ هل لأنه يريد الخير لهم، ولأنهم جزء من شبابه اكتفى بالتلميح دون التصريح؟! أنظر مرة أخرى إلى قوله:
"وقد أكون من القليلين الذين يعرفون أشياء كثيرة، الوحيد الذي لم يستطيعوا توريطه في قضية الجولان، الوحيد الشاهد عليها وعلى استغاثات الدكتور ماخوس يوم وقف إطلاق النار: ليدعوا دمشق، نسلم القنيطرة، ليقف الزحف.. أمر الجيش بالانسحاب".
ماذا يعني بقوله: ".. الوحيد الشاهد عليها - أي الجولان - وعلى استغاثات الدكتور ماخوس..".
إذا كان يعني ما قيل في أروقة الأمم المتحدة وإذاعة دمشق، فليس هو شاهد وحيد بل يعرفه معظم الناس، وإن كان يعني قضية أخرى فلا ندري، وبالمناسبة فأسرة الجندي ينحدرون من أصول إسماعيلية - يعني من الحشاشين -، وإن كان جدهم قد أسلم منذ عشرات السنين، ولعله لذلك ما زال متأثراً بالأسلوب الباطني
1 - زعم حافظ الأسد في تصريحه 20/5/1967 أن عدد الطيارين المسرحين من الجيش لا يتجاوز أصابع اليد.. ومن المعلوم أن عملية التسريحات كانت تتم حسب بيانات ونشرات تصدرها القيادة كل بضعة أيام أو أشهر، وكان آخر فوج من المسرحين في الشهر الخامس من عام 1967 أي قبل الحرب بشهر واحد، وبلغ مجموع الضباط الذين سرحوا من الجيش أكثر من ألفي ضابط، وهذا العدد كاف لشل قدرات جيش دولة كبرى، وليس دولة صغرى كسورية. 2 - سامي الجندي أحد أركان انقلاب الثامن من آذار وهو شريك للنظام في كل ما فعله ودليلي على ذلك استمراره في السلطة منذ سنة 1963 وإلى ما بعد هزيمة حزيران.. 3 - لم يكشف الجندي حيثيات خبر الحوادث إلا من منطلق الدفاع عن النفس، وهناك أمور أخرى لمح إليها ولم يصرح، ومن ذلك قوله: 1 - لسليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث اتصالات مع جهات كثيرة (محلية وعالمية)، وكانت هذه الاتصالات تمكنه من كشف الأسرار التي يريد كشفها، أو تريد جهة من الجهات التي لها صلة بالحوادث كشفها.
هذه الفقرات من ملفات سقوط الجولان منقولة من كتاب "رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي" لمؤلفه محمد عبد الغني النواوي، وهو كتاب فريد في بابه، مدعوم بالوثائق، صريح في أسلوبه فاحرص أخانا القارئ على اقتنائه.