بلال الرومنسي
2011-08-02, 04:22
”الفجر” تقتفي أثرهم في طرابلس
جزائريون يتقاسمون مع الليبيين الخبز والقصف
♥ حريدة الفجر الجزائرية ♥
2011.08.01
http://www.al-fadjr.com/ar/img/summary_small/alger020820110.jpg
ليس من الصعب أن تعثـر على جزائريين في طرابلس، في الأيام العادية، حيث لا تكاد تسأل مواطنا ليبيا عن مكان تواجد بعض الجزائريين؛ حتى يدلك على شارع الرشيد أو ميدان الجزائر أو سوق السويحل بقلب العاصمة
وهي الشوارع التي يعتبرها الجزائريون المقبلون على العمل في ليبيا مكانا للالتقاء ومحطة أولى للبحث عن عمل في مختلف المهن اليدوية، خصوصا في البناء أو الحلاقة أو الطبخ وكذلك العمل في المقاهي الكثيرة المنتشرة في مختلف شوارع المدينة..
هذه المعطيات وصلتنا من بعض الليبيين الذين سألناهم عن مكان تواجد الجزائريين في طرابلس، لكنهم أعقبوا إجابتهم باستفسار مكرّر خلاصته ”لا ندري ما إذا بقي جزائريون في طرابلس خلال هذه الأزمة أم رحلوا إلى بلدهم؟” وهو السؤال الذي اتّكأنا عليه في رحلة بحثنا عن جزائريين تحت سماء القصف في العاصمة الليبية..
الأيدي الجزائرية و”البرمة” الليبية
محطتنا الأولى في رحلة البحث عن أولاد البلاد، كانت بميدان الجزائر، وربما اخترنا هذا المكان انجذابا للاسم؛ كما ذكر لنا بعض الليبيين الذين التقيناهم، أن مقهى ميدان الجزائر كان يعجّ في الأيام العادية بالجزائريين، الذين كانوا يلتقون فيه بعد كل يوم عمل، يسهرون على دخان الشيشة وحكايا كرة القدم.
كان الوقت منتصف نهار الأربعاء الماضي، عندما وصلنا إلى الميدان على أمل الاستماع للهجة الجزائرية، والاقتراب من جزائريين لا يزالون في طرابلس رغم القصف، لكن أملنا خاب ولم نلتق بأي واحد منهم هنالك. سألنا مرتادي المقهى الليبيين عن سر غياب الجزائريين، فبدا واضحا من الإجابات المحصّل عليها أن الأمر عادي، وأن الوقت الذي وصلنا فيه إلى الميدان وقت عمل وأن أغلب الجزائريين المرتادين للمقهى يأتونه مساءً..
لم يمهلنا فضولنا للانتظار حتى المساء، وسألنا عن مكان عمل أغلب الجزائريين في طرابلس، فوجّهنا أولاد الحلال إلى شارع عمر المختار وسوق السويحل مع نهاية شارع الرشيد. الملفت للانتباه في شوارع طرابلس هو اكتظاظها بسيارات من مختلف الماركات خصوصا الماركات الكوريّة، رغم أخبار القصف ورغم أزمة الوقود التي يعيشها الليبيون منذ أسابيع، كما ذكرنا في تقاريرنا السابقة. وفي هذا السياق؛ يقول السائق الذي رافقنا في رحلة البحث عن جزائريين، إن أغلب البيوت الليبية تملك سيارتين على أقل تقدير، وأن هناك شبابا ليبيون قد ينتظرون في طابور الوقود لأيام بلياليها من أجل الظفر بكمية من البنزين يحرقونها في يوم واحد من التجوال في شوارع المدينة بلا وجهة معيّنة. على الأقل؛ نحن في زحمة المرور هذه، نعرف وجهتنا، حيث نقترب من شارع المختار الذي قيل لنا إنّ جزائريين يشتغلون في إحدى مطاعمه الشهيرة والمعروفة باسم ”البرمة الذهبية”.. سؤال واحد يدور في أذهاننا قبل الوصول :”ما الذي يدفع جزائريا لأن يترك البرمة الجزائرية ويسافر لأكثر من 1500 كلم على أقل تقدير للعمل في برمة ليبية؟؟”.. قد يبدو السؤال غير مبرر؛ لكنّ الظروف التي تعيشها ليبيا هذه الأيام؛ دفعتنا للتفكير في موقف شباب جزائريين مما يحدث في هذا البلد الذي وجدوا فيه خبزتهم، ذات غربة.
”ما كاين والو.. عدّينا اكثـر من هكذا..”
”هل يعمل لديك جزائريون؟” سؤال مباشر وجّهناه إلى صاحب ”البرمة الذهبية” فور دخولنا إلى مطعمه وإلقاء السلام عليه. لم نلبث طويلا حتى خرج علينا شاب من مطبخ المطعم وهو يمسح يديه من أثر البرمة، قبل أن يسمِعنا لهجة جزائرية، كشفت لنا أننا أمام جزائري في نهاية ثلاثينات عمره، وعرفنا فيما بعد أن اسمه نبيل، من بلدية القبة بقلب العاصمة الجزائرية، وأنه يشتغل رئيس طهاة المطعم منذ أكثر من خمس سنوات. يتساءل نبيل وهو مستأنس بلهجتنا الجزائرية، عن سبب سؤالنا عنه، وفور تعرفه على هويتنا ينشرح صدره للحديث عن ”الأخوة الجزائرية الليبية”، وعن ”الفتنة التي أصابت هذا البلد الآمن”، وعن ظروفه المهنيّة الممتازة وعن بقائه في طرابلس رغم القصف إيمانا منه بأن ”أزمة الليبيين ستمرّ مثلما مرّت من قبل أزمة الجزائريين”. كان نبيل يحاول جاهدا تسويق صورة جيدة عن ظروف عمل الجزائريين في ليبيا، وخصوصا في طرابلس.. وكاد يسترسل في حديثه لولا نظرات صاحب المطعم المعاتبة لنا على العطلة التي سبّبناها للمطعم بحديثنا مع الطاهي في وقت ذروة عمله.
تركنا نبيل يعود لبرمته على أمل أن نلتقي مساء بميدان الجزائر، بعد أن أخذنا منه هاتف صديقه الجزائري، عبد الله، الذي يشتغل حلاقا بإحدى شوارع طرابلس الرئيسية، ويشاركه غرفته بإحدى نُزل المدينة.
لم يكلفنا الالتقاء يعبد الله، كثيرا من الوقت، حيث وبعد 20 دقيقة من اتصالنا به عثرنا عليه بشارع الرشيد؛ غير بعيد عن شارع عمر المختار.. أخبرنا عبد الله بعد بروتوكولات السلام الجزائري الحار الممعن في السؤال عن الأحوال والصحة، أخبرنا أن المحل الذي يشتغل به، غير بعيد عن شارع الرشيد، عارضا علينا جلسة في إحدى المقاهي التي تغزو الشوارع المتفرعة عن شارع الرشيد..
يقول عبد الله وهو يحتسي قهوة عربية بالهيل ”القهوة الجزائرية مشهود لها في طرابلس، وكثير من الليبيين يقصدون المقاهي التي يشتغل فيها جزائريون، نظرا للسمعة الطيبة لقهوتهم”. نقاطع عبد الله بالقول : ”وماذا عن سمعة المقص الجزائري؟ قيل لنا إن الكثير من حلاقي طرابلس جزائريون”، يضحك عبد الله وهو يجيب :”المقصّ واحد سواء في الجزائر أو في ليبيا.. الشَعر هو الذي يختلف”.. لكن هل اختلفت مواقف الجزائريين العاملين هنا في طرابلس مما يحدث في ليبيا خلال الأشهر الأخيرة، سؤال قطعنا به ضحكة عبد الله، الذي وضع فنجان قهوته جانبا، ثم أشعل سيجارة أخرى واسترسل في الحديث:” الشعب الليبي شعب طيب ومسالم، وما يحدث في ليبيا لا يرضي لا ربّي لا النبي. والجزائريون الذين وجدوا خبزتهم في هذا البلد يقدّرون جديا أهله، ومستعدون للتضحية معهم. أما بخصوص الجزائريين الذين غادروا ليبيا بعد اندلاع الأزمة، فهم معذورون، ومن حقهم أن يخافوا على حياتهم”، نسأل عبد الله ”وأنت ألا تخاف على حياتك؟” فيجيبنا ببسمة ثقة ”ما كاين والو.. عدّينا اكثر من هكذا..”
البلاد التي فيها خبزك فيها أهلك
نترك عبد الله، ابن البرواقية؛ بعد أن أصرّ على دفع ثمن المشروبات، ونتوجّه إلى سوق السويحل أين أخبرنا الحلاق الجزائري، بوجود سيارات تونسية من المفترض أنها تقلّ إلى الجزائر العاصمة ووهران، وعن احتمال وجود جزائريين قربها. وصلنا إلى سوق السويحل المكتظّ بالباعة والمتبضعين.. كل شيء يباع هنا؛ ملابس، خضر، فواكه، لوز إفريقي وهواتف نقالة وهنا أيضا تصرّف العملة ويُنقل المسافرون.. نسمع مناديا ينادي ”أيا تونس.. أيا تونس”، نقترب من سيارته البيضاء ذات السبعة مقاعد، لنتأكد أنه تونسي يشتغل في نقل المسافرين من وإلى تونس العاصمة، نسأله فضولا عن سعر التوصيلة، فيعلمنا أنه يأخذ 100 دينار ليبي عن الفرد الواحد (علمنا بعد ذلك أن سعر التوصيلة في الأيام العادية كان 60 دينارا ليبيا، أي ما يعادل 4200 دينار جزائري). سألنا السائق التونسي عن سيارات الأجرة المتوجّهة إلى الجزائر، فأخبرنا أنه لم يلمح واحدة منها منذ أسابيع، وأن الأزمة الليبية دفعت بالكثير من السيارات التونسية والجزائرية وحتى الليبية إلى تقليص تحركاتها من وإلى الدول المذكورة..
رغم حديث السائق التونسي، إلا أن الحركة في سوق السويحل بدت لنا جد عادية، وسط زحمة البضائع وصراخ الباعة، واعتراض صرّافة العملة الذين يعرضون على المارة تغيير أو شراء العملة، وكان عبد الله قد أخبرنا عن تواجد صرّافة جزائريين بالسوق، وهو ما سألنا عنه أحد الصرّافة الليبيين الذي وجّهنا بسرعة إلى محل ”ابن بطوطة” لتحويل العملة، وهو محل لشريكين أحدهما جزائري والآخر مغربي .. لم نلتق سوى بالشريك المغربي واسمه ادريس، لكننا لمحنا شابا يجلس على أمتعته، كشف لنا أنه جزائري واسمه الحاج قدور واضح، من ولاية وهران، يستعد للسفر إلى الجزائر بعد ساعات قليلة.
قال لنا الحاج قدور؛ بعد دقائق من التحية والسؤال عن أحوال البلاد، إن والدته مريضة وهو مسافر لرؤيتها، وبأنه لولا مرض الوالدة المفاجئ ما كان ليسافر ويترك عمله الذي يتقاضى عليه 150 دينار ليبي في الأسبوع (حوالي 10000 دينار جزائري). الحاج قدور يشتغل عامل بناء حرّ، بعد أن كان يشتغل في شركة تركية غادرت البلاد بعد تأزم الوضع في الجماهيرية. ويتحدث الشاب الجزائري إلينا بكثير من الحسرة عن ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا، رغم أن الحياة بها، يقول الحاج قدور، ”كانت هانئة على كل الليبيين وحتى الأجانب الذين وفرت لهم مناصب شغل محترمة”.. ويضيف ابن وهران وهو يشدّ على حقائب سفره ”لن أفرّط في عملي بليبيا، سأطمئن على صحّة الوالدة وأعود قريبا بحول الله، وستكون ليبيا أفضل حالا بإذن الله”..
من جهته، لم يفوّت ادريس المغربي فرصة تواجدنا في محلّه ليبدأ في تشريح الوضع الليبي، مشيرا إلى أن الكثير من المغاربة والجزائريين اختاروا البقاء في طرابلس، رغم الأزمة، لأنهم أسّسوا لتجارتهم وحرفهم هنا في ليبيا ولا يستطيعون التفريط بسهولة في مكتسباتهم، بالإضافة إلى العلاقة الإنسانية التي تربطهم بالمكان، خصوصا وأن الكثير منهم كوّنوا عائلاتهم هنا وأنجبوا أطفالهم هنا، وصاروا يعتبرون أنفسهم ليبيين بالتقادم، يضيف ادريس، الذي يشتغل في الصرافة في سوق السويحل، منذ أكثر من 12 سنة.
وفي هذا الصدد، يقول إدريس، إن كثيرا من الجزائريين يأتون إلى محله أسبوعيا لتحويل ما بين 50000 إلى 70000 دينار جزائري إلى أهلهم في الجزائر.
تركنا إدريس المغربي في انتظار شريكه الجزائري ورافقنا الحاج قدور إلى السيارة التي ستقلّه إلى غاية وهران مقابل 150 دينار ليبي (وهي أجرة أسبوع بالنسبة للحاج). ودّعنا ابن وهران على أمل الالتقاء في ظروف أحسن وعدنا إلى فندقنا بقلب العاصمة طرابلس.
في الطريق إلى الفندق، تحوّم فوق رؤوسنا طائرة ناتو، بشكل روتيني مملّ، نلمح أكوام قمامة على حواف بعض الطرق الرئيسية، والتي تراكمت بفعل هروب جزء كبير من العمالة الإفريقية، المشتغلة في مؤسسات التنظيف بليبيا، فتعود إلى أذهاننا جملة قالها لنا أحد الأصدقاء الليبيين بأسف شديد ”من أخطاء القذافي أنّه ربّى الليبيين على الخمول والاتكال على العامل الأجنبي”.
مبعوث ”الفجر” إلى طرابلس / رشدي رضوان
جزائريون يتقاسمون مع الليبيين الخبز والقصف
♥ حريدة الفجر الجزائرية ♥
2011.08.01
http://www.al-fadjr.com/ar/img/summary_small/alger020820110.jpg
ليس من الصعب أن تعثـر على جزائريين في طرابلس، في الأيام العادية، حيث لا تكاد تسأل مواطنا ليبيا عن مكان تواجد بعض الجزائريين؛ حتى يدلك على شارع الرشيد أو ميدان الجزائر أو سوق السويحل بقلب العاصمة
وهي الشوارع التي يعتبرها الجزائريون المقبلون على العمل في ليبيا مكانا للالتقاء ومحطة أولى للبحث عن عمل في مختلف المهن اليدوية، خصوصا في البناء أو الحلاقة أو الطبخ وكذلك العمل في المقاهي الكثيرة المنتشرة في مختلف شوارع المدينة..
هذه المعطيات وصلتنا من بعض الليبيين الذين سألناهم عن مكان تواجد الجزائريين في طرابلس، لكنهم أعقبوا إجابتهم باستفسار مكرّر خلاصته ”لا ندري ما إذا بقي جزائريون في طرابلس خلال هذه الأزمة أم رحلوا إلى بلدهم؟” وهو السؤال الذي اتّكأنا عليه في رحلة بحثنا عن جزائريين تحت سماء القصف في العاصمة الليبية..
الأيدي الجزائرية و”البرمة” الليبية
محطتنا الأولى في رحلة البحث عن أولاد البلاد، كانت بميدان الجزائر، وربما اخترنا هذا المكان انجذابا للاسم؛ كما ذكر لنا بعض الليبيين الذين التقيناهم، أن مقهى ميدان الجزائر كان يعجّ في الأيام العادية بالجزائريين، الذين كانوا يلتقون فيه بعد كل يوم عمل، يسهرون على دخان الشيشة وحكايا كرة القدم.
كان الوقت منتصف نهار الأربعاء الماضي، عندما وصلنا إلى الميدان على أمل الاستماع للهجة الجزائرية، والاقتراب من جزائريين لا يزالون في طرابلس رغم القصف، لكن أملنا خاب ولم نلتق بأي واحد منهم هنالك. سألنا مرتادي المقهى الليبيين عن سر غياب الجزائريين، فبدا واضحا من الإجابات المحصّل عليها أن الأمر عادي، وأن الوقت الذي وصلنا فيه إلى الميدان وقت عمل وأن أغلب الجزائريين المرتادين للمقهى يأتونه مساءً..
لم يمهلنا فضولنا للانتظار حتى المساء، وسألنا عن مكان عمل أغلب الجزائريين في طرابلس، فوجّهنا أولاد الحلال إلى شارع عمر المختار وسوق السويحل مع نهاية شارع الرشيد. الملفت للانتباه في شوارع طرابلس هو اكتظاظها بسيارات من مختلف الماركات خصوصا الماركات الكوريّة، رغم أخبار القصف ورغم أزمة الوقود التي يعيشها الليبيون منذ أسابيع، كما ذكرنا في تقاريرنا السابقة. وفي هذا السياق؛ يقول السائق الذي رافقنا في رحلة البحث عن جزائريين، إن أغلب البيوت الليبية تملك سيارتين على أقل تقدير، وأن هناك شبابا ليبيون قد ينتظرون في طابور الوقود لأيام بلياليها من أجل الظفر بكمية من البنزين يحرقونها في يوم واحد من التجوال في شوارع المدينة بلا وجهة معيّنة. على الأقل؛ نحن في زحمة المرور هذه، نعرف وجهتنا، حيث نقترب من شارع المختار الذي قيل لنا إنّ جزائريين يشتغلون في إحدى مطاعمه الشهيرة والمعروفة باسم ”البرمة الذهبية”.. سؤال واحد يدور في أذهاننا قبل الوصول :”ما الذي يدفع جزائريا لأن يترك البرمة الجزائرية ويسافر لأكثر من 1500 كلم على أقل تقدير للعمل في برمة ليبية؟؟”.. قد يبدو السؤال غير مبرر؛ لكنّ الظروف التي تعيشها ليبيا هذه الأيام؛ دفعتنا للتفكير في موقف شباب جزائريين مما يحدث في هذا البلد الذي وجدوا فيه خبزتهم، ذات غربة.
”ما كاين والو.. عدّينا اكثـر من هكذا..”
”هل يعمل لديك جزائريون؟” سؤال مباشر وجّهناه إلى صاحب ”البرمة الذهبية” فور دخولنا إلى مطعمه وإلقاء السلام عليه. لم نلبث طويلا حتى خرج علينا شاب من مطبخ المطعم وهو يمسح يديه من أثر البرمة، قبل أن يسمِعنا لهجة جزائرية، كشفت لنا أننا أمام جزائري في نهاية ثلاثينات عمره، وعرفنا فيما بعد أن اسمه نبيل، من بلدية القبة بقلب العاصمة الجزائرية، وأنه يشتغل رئيس طهاة المطعم منذ أكثر من خمس سنوات. يتساءل نبيل وهو مستأنس بلهجتنا الجزائرية، عن سبب سؤالنا عنه، وفور تعرفه على هويتنا ينشرح صدره للحديث عن ”الأخوة الجزائرية الليبية”، وعن ”الفتنة التي أصابت هذا البلد الآمن”، وعن ظروفه المهنيّة الممتازة وعن بقائه في طرابلس رغم القصف إيمانا منه بأن ”أزمة الليبيين ستمرّ مثلما مرّت من قبل أزمة الجزائريين”. كان نبيل يحاول جاهدا تسويق صورة جيدة عن ظروف عمل الجزائريين في ليبيا، وخصوصا في طرابلس.. وكاد يسترسل في حديثه لولا نظرات صاحب المطعم المعاتبة لنا على العطلة التي سبّبناها للمطعم بحديثنا مع الطاهي في وقت ذروة عمله.
تركنا نبيل يعود لبرمته على أمل أن نلتقي مساء بميدان الجزائر، بعد أن أخذنا منه هاتف صديقه الجزائري، عبد الله، الذي يشتغل حلاقا بإحدى شوارع طرابلس الرئيسية، ويشاركه غرفته بإحدى نُزل المدينة.
لم يكلفنا الالتقاء يعبد الله، كثيرا من الوقت، حيث وبعد 20 دقيقة من اتصالنا به عثرنا عليه بشارع الرشيد؛ غير بعيد عن شارع عمر المختار.. أخبرنا عبد الله بعد بروتوكولات السلام الجزائري الحار الممعن في السؤال عن الأحوال والصحة، أخبرنا أن المحل الذي يشتغل به، غير بعيد عن شارع الرشيد، عارضا علينا جلسة في إحدى المقاهي التي تغزو الشوارع المتفرعة عن شارع الرشيد..
يقول عبد الله وهو يحتسي قهوة عربية بالهيل ”القهوة الجزائرية مشهود لها في طرابلس، وكثير من الليبيين يقصدون المقاهي التي يشتغل فيها جزائريون، نظرا للسمعة الطيبة لقهوتهم”. نقاطع عبد الله بالقول : ”وماذا عن سمعة المقص الجزائري؟ قيل لنا إن الكثير من حلاقي طرابلس جزائريون”، يضحك عبد الله وهو يجيب :”المقصّ واحد سواء في الجزائر أو في ليبيا.. الشَعر هو الذي يختلف”.. لكن هل اختلفت مواقف الجزائريين العاملين هنا في طرابلس مما يحدث في ليبيا خلال الأشهر الأخيرة، سؤال قطعنا به ضحكة عبد الله، الذي وضع فنجان قهوته جانبا، ثم أشعل سيجارة أخرى واسترسل في الحديث:” الشعب الليبي شعب طيب ومسالم، وما يحدث في ليبيا لا يرضي لا ربّي لا النبي. والجزائريون الذين وجدوا خبزتهم في هذا البلد يقدّرون جديا أهله، ومستعدون للتضحية معهم. أما بخصوص الجزائريين الذين غادروا ليبيا بعد اندلاع الأزمة، فهم معذورون، ومن حقهم أن يخافوا على حياتهم”، نسأل عبد الله ”وأنت ألا تخاف على حياتك؟” فيجيبنا ببسمة ثقة ”ما كاين والو.. عدّينا اكثر من هكذا..”
البلاد التي فيها خبزك فيها أهلك
نترك عبد الله، ابن البرواقية؛ بعد أن أصرّ على دفع ثمن المشروبات، ونتوجّه إلى سوق السويحل أين أخبرنا الحلاق الجزائري، بوجود سيارات تونسية من المفترض أنها تقلّ إلى الجزائر العاصمة ووهران، وعن احتمال وجود جزائريين قربها. وصلنا إلى سوق السويحل المكتظّ بالباعة والمتبضعين.. كل شيء يباع هنا؛ ملابس، خضر، فواكه، لوز إفريقي وهواتف نقالة وهنا أيضا تصرّف العملة ويُنقل المسافرون.. نسمع مناديا ينادي ”أيا تونس.. أيا تونس”، نقترب من سيارته البيضاء ذات السبعة مقاعد، لنتأكد أنه تونسي يشتغل في نقل المسافرين من وإلى تونس العاصمة، نسأله فضولا عن سعر التوصيلة، فيعلمنا أنه يأخذ 100 دينار ليبي عن الفرد الواحد (علمنا بعد ذلك أن سعر التوصيلة في الأيام العادية كان 60 دينارا ليبيا، أي ما يعادل 4200 دينار جزائري). سألنا السائق التونسي عن سيارات الأجرة المتوجّهة إلى الجزائر، فأخبرنا أنه لم يلمح واحدة منها منذ أسابيع، وأن الأزمة الليبية دفعت بالكثير من السيارات التونسية والجزائرية وحتى الليبية إلى تقليص تحركاتها من وإلى الدول المذكورة..
رغم حديث السائق التونسي، إلا أن الحركة في سوق السويحل بدت لنا جد عادية، وسط زحمة البضائع وصراخ الباعة، واعتراض صرّافة العملة الذين يعرضون على المارة تغيير أو شراء العملة، وكان عبد الله قد أخبرنا عن تواجد صرّافة جزائريين بالسوق، وهو ما سألنا عنه أحد الصرّافة الليبيين الذي وجّهنا بسرعة إلى محل ”ابن بطوطة” لتحويل العملة، وهو محل لشريكين أحدهما جزائري والآخر مغربي .. لم نلتق سوى بالشريك المغربي واسمه ادريس، لكننا لمحنا شابا يجلس على أمتعته، كشف لنا أنه جزائري واسمه الحاج قدور واضح، من ولاية وهران، يستعد للسفر إلى الجزائر بعد ساعات قليلة.
قال لنا الحاج قدور؛ بعد دقائق من التحية والسؤال عن أحوال البلاد، إن والدته مريضة وهو مسافر لرؤيتها، وبأنه لولا مرض الوالدة المفاجئ ما كان ليسافر ويترك عمله الذي يتقاضى عليه 150 دينار ليبي في الأسبوع (حوالي 10000 دينار جزائري). الحاج قدور يشتغل عامل بناء حرّ، بعد أن كان يشتغل في شركة تركية غادرت البلاد بعد تأزم الوضع في الجماهيرية. ويتحدث الشاب الجزائري إلينا بكثير من الحسرة عن ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا، رغم أن الحياة بها، يقول الحاج قدور، ”كانت هانئة على كل الليبيين وحتى الأجانب الذين وفرت لهم مناصب شغل محترمة”.. ويضيف ابن وهران وهو يشدّ على حقائب سفره ”لن أفرّط في عملي بليبيا، سأطمئن على صحّة الوالدة وأعود قريبا بحول الله، وستكون ليبيا أفضل حالا بإذن الله”..
من جهته، لم يفوّت ادريس المغربي فرصة تواجدنا في محلّه ليبدأ في تشريح الوضع الليبي، مشيرا إلى أن الكثير من المغاربة والجزائريين اختاروا البقاء في طرابلس، رغم الأزمة، لأنهم أسّسوا لتجارتهم وحرفهم هنا في ليبيا ولا يستطيعون التفريط بسهولة في مكتسباتهم، بالإضافة إلى العلاقة الإنسانية التي تربطهم بالمكان، خصوصا وأن الكثير منهم كوّنوا عائلاتهم هنا وأنجبوا أطفالهم هنا، وصاروا يعتبرون أنفسهم ليبيين بالتقادم، يضيف ادريس، الذي يشتغل في الصرافة في سوق السويحل، منذ أكثر من 12 سنة.
وفي هذا الصدد، يقول إدريس، إن كثيرا من الجزائريين يأتون إلى محله أسبوعيا لتحويل ما بين 50000 إلى 70000 دينار جزائري إلى أهلهم في الجزائر.
تركنا إدريس المغربي في انتظار شريكه الجزائري ورافقنا الحاج قدور إلى السيارة التي ستقلّه إلى غاية وهران مقابل 150 دينار ليبي (وهي أجرة أسبوع بالنسبة للحاج). ودّعنا ابن وهران على أمل الالتقاء في ظروف أحسن وعدنا إلى فندقنا بقلب العاصمة طرابلس.
في الطريق إلى الفندق، تحوّم فوق رؤوسنا طائرة ناتو، بشكل روتيني مملّ، نلمح أكوام قمامة على حواف بعض الطرق الرئيسية، والتي تراكمت بفعل هروب جزء كبير من العمالة الإفريقية، المشتغلة في مؤسسات التنظيف بليبيا، فتعود إلى أذهاننا جملة قالها لنا أحد الأصدقاء الليبيين بأسف شديد ”من أخطاء القذافي أنّه ربّى الليبيين على الخمول والاتكال على العامل الأجنبي”.
مبعوث ”الفجر” إلى طرابلس / رشدي رضوان