عماري
2011-08-01, 09:52
عرفت السنوات الأخيرة تناميا مطردا لمظاهر ما اصطلح على تسميته بالإسلاموفوبيا، وتتابعت فصول ما بدا حملة موجهة ضد الإسلام تولت كبرها بلدان معينة لكن كان لأغلب بلدان أوروبا نصيب منها، إما بمحاولات النيل من قيم الإسلام ومقدساته، وإما بالحرب على مظاهر الالتزام الإسلامي، وإما بشيطنة المسلمين والتضييق عليهم، وإما بكل هذه المظالم مجتمعة.
لقد مثل مدى انتشار الإسلاموفوبيا والقبول الذي لقيته في دوائر أوروبية نافذة ومؤثرة، مؤشرا مقلقا على مدى تراجع القيم، أما ما لم يكن في الحسبان -ربما- فهو الخطر الذي باتت الظاهرة تمثله على الاستقرار والسلم داخل المجتمعات الأوروبية.
وليست المعلومات التي توفرت حول قناعات ودوافع مرتكب الاعتداءات الفظيعة التي هزت النرويج نهاية الأسبوع الماضي إلا جزءا من مؤشرات عديدة تدق أجراس الخطر حول دور العداء للإسلام في خلق الظروف الملائمة لميلاد نمط جديد من العنف، قد يكون أكثر إيلاما لأوروبا من كل مظاهر العنف التي عانت أو خشيت منها حتى الآن.
تختلف المذاهب بشأن تفسير ظاهرة العداء للإسلام في أوروبا، بين من يرى فيها تجليا لصراع ديني وثقافي ممتد عبر العصور، ومن يعتبرها أحد مظاهر الاستهداف السياسي والإعلامي الذي يتعرض له العالم الإسلامي خدمة لمصالح إسرائيل وقوى الاستعمار الغربي، في حين يميل البعض إلى إلقاء اللوم على طوائف من العرب والمسلمين متهمة باستفزاز الغرب واستعدائه بمواقف وتصرفات توصم بالطيش.
والظاهر أن لكل واحد من هذه التفسيرات نصيبا من الوجاهة، بما فيها صلة الظاهرة بالأوضاع السائدة في المجال العربي الإسلامي ومخرجات هذه الأوضاع على الصعيد الدولي وسلوك الجاليات الإسلامية في الغرب.
لكن الإسلاموفوبيا التي لها جذور ممتدة في تاريخ وثقافة المجتمعات الأوروبية، مرتبطة أساسا بالظروف السياسية والاجتماعية السائدة في الغرب، وبخيارات ورهانات النخب الأوروبية التي لم تحسن تقدير المخاطر المترتبة على ما تمارسه من تلاعب بمشاعر مواطنيها لتحقيق مكاسب سياسية ظرفية.
أوروبا ومأزق الهوية والدور
لعل أحد المداخل الأساسية لفهم المجتمعات الأوروبية هو إدراك التناقض الذي تعيشه على مستويات متعددة بين وعيها لذاتها من جهة، وتطلعها إلى دور متقدم على المسرح العالمي من جهة أخرى.
فالمجتمعات الأوروبية لا تستطيع تصور هويتها إلا في مقابل "آخر" مختلف عنها ومتناقض معها، وهي في نفس الوقت شديدة النزوع نحو التوسع وبسط نفوذها الرمزي والمادي خارج مجالها الطبيعي، سواء فعلت ذلك باسم رسالة الخلاص المسيحي، أو تحت لافتة ما تسميه مشروع الحداثة المستنيرة الذي حاولت بواسطته عولمة قيمها الخاصة وإخضاع بقية الأمم والشعوب لنموذجها الثقافي.
هذا التوتر الدائم بين محددات الهوية الثقافية ومقتضيات الدور التاريخي يفسر إلى حد بعيد التناقض الذي يطبع سلوك الغرب في ما يخص قيم التسامح والقبول بالتعددية، ويفسر تحديدا موقف المجتمعات الأوروبية من المسلمين الذين أخفقت كل المساعي الرامية إلى استيعابهم ضمن النموذج الغربي المعولم أو استلاب هويتهم وقبولهم باختزال قيمهم الثقافية في مظاهر فولكلورية هامشية على نحو ما فُعِلَ بشعوب أخرى.
ولفهم رد الفعل الأوروبي إزاء الموقف الممانع للهوية الإسلامية، قد يكون من المفيد الرجوع قليلا إلى التاريخ.
مع منتصف القرن السابع عشر بدا كما لو كانت أوروبا قد قررت بشكل حاسم القطيعة مع عصور من التعصب والصراع، حيث دخلت مرحلة من التسامح والسلام استمرت قرابة ثلاثة قرون، وحملت أحد أعظم فلاسفة أوروبا "إيمانويل كانت" على أن يشط به التفاؤل ليبشر بسلام دائم، منتشيا بحالة الاستقرار والتسامح التي ميزت حياة أوروبا في عصره.
لكن الصحيح أن أوروبا وجدت دائما صعوبة في التعامل بسلاسة مع مظاهر الاختلاف، ويكفي أن نتذكر حقيقتين هامتين لندرك حدود هذه الصحوة الظرفية ونفهم طرفا من أسباب التراجع اللاحق: الأولى أن السلام والتسامح كانا في اتجاه الداخل فحسب، وإلا فإن هذه الفترة نفسها عرفت أوج التوسع الاستعماري بكل فظاعاته الأخلاقية والمادية. أما الثانية فهي كون السلام والتسامح داخل الفضاء الأوروبي إنما أمكن الوصول إليهما بفضل تمايز طائفي وثقافي في إطار الكيانات القومية الناشئة، أتاح قدرا من الانسجام والتوافق ضمن حدود كل كيان.
وحتى في هذا السياق ظلت مناطق التماس في الغالب بؤرا للتوتر لا تكاد تخبو حتى تعود فتشتعل من جديد، وأبرز أمثلة ذلك علاقة البروتستانت بالكاثوليك في إيرلندا وعلاقة هؤلاء بالأرثوذكس في يوغسلافيا السابقة.
من هنا لم يكن مستغربا أن تعود أوروبا إلى الاحتراب الداخلي بعدما انفرط عقد الانسجام بفعل ظهور عوامل تناقض جديدة كالصراع الطبقي ومشاعر الاستعلاء القومي.
ولنفس الاعتبارات لم يكن مفاجئا أن تتراجع قيم التسامح والانفتاح والثقافة الإنسانية أمام مشاعر الخوف على الهوية، عندما وجدت المجتمعات الأوروبية نفسها في مواجهة التحديات التي فرضها التنوع الطارئ عليها مع استقرار أعداد معتبرة من المهاجرين استوطنت البلدان الغربية بشكل أساسي ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين.
الاستسلام للخوف والعجز
على امتداد العقود التي أعقبت مباشرة تَعَافِيَ القارة العجوز من آثار الحربين، تحولت أوروبا -بفضل ازدهارها اقتصاديا واستقرار أوضاعها السياسية وانفتاح مجتمعاتها ظاهريا- إلى مركز جذب استقطب أعدادا هائلة من المتعطشين لتحصيل معرفي متميز والطامحين إلى وضع اقتصادي أفضل، والفارين بكرامتهم -وبحياتهم أحيانا- من أنظمة الطغيان المستبدة بالأمور في كثير من بلدان العالم شرقا وغربا.
غير أن هذه الصورة المشرقة لأوروبا كأرض لجوء واستقبال، تعرضت لانتكاسة واضحة خلال العقود الأخيرة بفعل عوامل الطرد الاجتماعية والثقافية التي تراكمت تباعا وتفاقمت آثارها بشكل متسارع خلال العقدين الأخيرين، حين بدا جليا أن المجتمعات الأوروبية التي تباهت دوما بشعارات الديمقراطية والتسامح والانفتاح لم تكن في الواقع مهيأة بما فيه الكفاية للتفاعل الإيجابي مع مقتضيات العولمة، وخصوصا ما يتعلق بمستويات التنوع والاختلاف التي لا عهد لتلك المجتمعات بها.
هكذا تحولت أوروبا القوية الواثقة من نفسها المتطلعة إلى القيادة والمولعة بلعب دور الواعظ الأخلاقي والسياسي إزاء الأمم الأخرى، إلى كيانات مرعوبة منطوية على نفسها قلقة على هويتها، تضيق ذرعا بكل تعبير عن الاختلاف، ولا تكاد تطيق تحمل أي مظهر من مظاهر التعددية والتنوع.
هذا التغير في المزاج الأوروبي ضاعف من آثاره ضغط الأزمة الاقتصادية التي ضربت عددا من بلدان القارة خلال السنوات الأخيرة.
فقد كانت لهذه الأزمة انعكاسات ملحوظة على أوضاع شرائح اجتماعية واسعة وعلى أداء المؤسسات الحكومية وصورة الطبقة السياسية وعموم النخب الأوروبية التي تبين عجزها -سواء من مواقع الحكم أو المعارضة أو غيرهما من دوائر الفعل والتأثير- عن صياغة حلول أو تصور بدائل ملائمة لمواجهة التحديات التي فرضتها الأوضاع الاستثنائية الناجمة عن تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
لتعويض هذا العجز عن الاستجابة لمطالب وتطلعات المواطنين، اتجه طيف واسع من النخب الأوروبية إلى صناعة خطاب من شأنه أن يصرف اهتمام المواطنين عن المشكلات القائمة فعلا والمستعصية على الحل، باعثا في نفوس هؤلاء هواجس لها جذور في ثقافة أوروبا وتاريخها.
ولأن استغلال مشاعر الكراهية بدا ذا مردود سياسي سريع، تم توجيه الأنظار نحو الإسلام باعتباره عدوا أزليا لأوروبا وخطرا داهما يتعين صهر طاقات الجميع للتصدي له.
ثمن التوظيف السياسي للكراهية
وجدت قطاعات من النخب الأوروبية مفلسة سياسيا وفاشلة في إدارتها للأزمات التي تواجهها متنفسا في الهروب المنهجي نحو عالم العواطف، فاتجهت إلى التركيز على خطاب سياسي أجوف يقوم على تمجيد الهوية والتخويف من الآخر.
وارتكز الرهان على تقديم الوجود الإسلامي المتنامي نسبيا في القارة الأوروبية بفعل ظاهرة الهجرة، باعتباره خطرا ماثلا سيقوض مستقبل أوروبا ونظامها الاجتماعي وهويتها الثقافية والدينية.
لقد تم استغلال ظاهرة الإرهاب العابر للأوطان بشكل فج وغير مسؤول لتشويه صورة الجاليات الإسلامية والتضييق عليها، وجرى اللعب على عواطف المواطنين الأوروبيين بالإلحاح المغرض على جملة من المزاعم وأنصاف الحقائق، من قبيل ربط ارتفاع معدلات الجريمة في المجتمعات الأوروبية بالحضور المتزايد للأجانب، وتبرير تراجع مستوى الخدمات الاجتماعية وتدهور سوق العمل بالضغط الإضافي الذي يمثله الأجانب وتزايد منافسة هؤلاء للطبقات الدنيا من المواطنين.
وإمعانا في التهويل من شأن المخاطر التي تتربص بهوية المجتمعات الأوروبية، بدأت بعض الحكومات تنحو منحى شموليا لم يكن مألوفا من قبل، عبر التوسع في سن قوانين واعتماد إجراءات تجرّم بعض مظاهر الوجود الإسلامي وتحاصرها بدعوى مخالفتها للقيم الأوروبية.
وربما سعت الحكومات المذكورة من وراء اختلاق مشاكل تنتمي إلى المجال الرمزي والتدخل بوسائل السلطة لتقديم حلول مفترضة لها للتعويض عن فشلها في إيجاد حلول عملية للمشاكل الملموسة.
لكن النتيجة الوحيدة المؤكدة لهذا المسعى لم تكن سوى تضخيم الإحساس بالخطر الإسلامي، وخلق مزيد من الطلب على حلول خاطئة لمشاكل وهمية.
في مقابل هذا التضييق على مظاهر الوجود الإسلامي وغيره من تعبيرات الاختلاف، توسعت تدريجيا دائرة المسموح به في الخطاب السياسي وتقلصت المساحة الفاصلة بين برامج الأحزاب التقليدية وأطروحات تيارات اليمين المتطرف، التي استغلت بفعالية المناخ الاجتماعي السائد لتضع برامجها في موقع متقدم على المستوى المؤسسي، سواء بحضورها الانتخابي المباشر أو من خلال مضامين خطابها المتطرف التي تسربت إلى برامج الأحزاب التقليدية بعدما أصبحت هذه الأخيرة حريصة على التنافس مع القوى المتطرفة في معركة مفتوحة لكسب قلوب ناخبين تزداد نسبة التطرف بينهم يوما بعد يوم.
وخلال سنوات قليلة تَكَرَّسَ في عدد من البلدان الأوروبية ما يمكن أن يسمى "الكراهية المؤسسية"، أي وجود سياسات رسمية تتوخى تلبية مشاعر الكراهية وتسعى إلى إرضائها بل وتغذيتها وإعادة إنتاجها في بعض الحالات.
ونجد مثالا لهذه السياسات الخاطئة القائمة على الكراهية في الإستراتيجيات الأمنية التي تستند -خاصة منذ مطلع القرن الحالي- إلى فكرة شيطنة الإسلام ومبدأ التعامل بريبة مع كل ما هو إسلامي، وهو مسلك كان له أثر كبير في انصراف الأجهزة الأمنية ومؤسسات صناعة الرأي العام الأوروبية عن الاهتمام بمصادر الخطر الذاتية، وفي مقدمتها نزعات التطرف اليميني المتصاعدة في أكثر من بلد أوروبي.
لم يكن ضروريا أن تسيل كل الدماء التي سالت في النرويج ليتبين منتجو خطاب العداء للإسلام أن من يزرع الريح يحصد العاصفة، وأن مشاعر الكراهية لا يمكن ترويضها واستغلالها حسب الحاجة، فهذه حقائق من البداهة بمكان لمن كان له عقل.
لكن من المشروع تمني أن تكون الفاجعة كافية ليدرك مستهلكو ذلك الخطاب أن ضرره لا يطال المسلمين فحسب، لأن الكراهية إذا جمحت يستحيل التكهن بالمسارات التي يمكن أن تسلكها.
ولعل أوروبا تثوب إلى رشدها فتأخذ على أيدي مروجي الكراهية الذين لم يعد أمرهم يقتصر على الإساءة للآخر، بل أصبحوا يتسببون في الأذى لأوروبا نفسها.
؟؟؟ ؟؟؟ ؟؟؟
لقد مثل مدى انتشار الإسلاموفوبيا والقبول الذي لقيته في دوائر أوروبية نافذة ومؤثرة، مؤشرا مقلقا على مدى تراجع القيم، أما ما لم يكن في الحسبان -ربما- فهو الخطر الذي باتت الظاهرة تمثله على الاستقرار والسلم داخل المجتمعات الأوروبية.
وليست المعلومات التي توفرت حول قناعات ودوافع مرتكب الاعتداءات الفظيعة التي هزت النرويج نهاية الأسبوع الماضي إلا جزءا من مؤشرات عديدة تدق أجراس الخطر حول دور العداء للإسلام في خلق الظروف الملائمة لميلاد نمط جديد من العنف، قد يكون أكثر إيلاما لأوروبا من كل مظاهر العنف التي عانت أو خشيت منها حتى الآن.
تختلف المذاهب بشأن تفسير ظاهرة العداء للإسلام في أوروبا، بين من يرى فيها تجليا لصراع ديني وثقافي ممتد عبر العصور، ومن يعتبرها أحد مظاهر الاستهداف السياسي والإعلامي الذي يتعرض له العالم الإسلامي خدمة لمصالح إسرائيل وقوى الاستعمار الغربي، في حين يميل البعض إلى إلقاء اللوم على طوائف من العرب والمسلمين متهمة باستفزاز الغرب واستعدائه بمواقف وتصرفات توصم بالطيش.
والظاهر أن لكل واحد من هذه التفسيرات نصيبا من الوجاهة، بما فيها صلة الظاهرة بالأوضاع السائدة في المجال العربي الإسلامي ومخرجات هذه الأوضاع على الصعيد الدولي وسلوك الجاليات الإسلامية في الغرب.
لكن الإسلاموفوبيا التي لها جذور ممتدة في تاريخ وثقافة المجتمعات الأوروبية، مرتبطة أساسا بالظروف السياسية والاجتماعية السائدة في الغرب، وبخيارات ورهانات النخب الأوروبية التي لم تحسن تقدير المخاطر المترتبة على ما تمارسه من تلاعب بمشاعر مواطنيها لتحقيق مكاسب سياسية ظرفية.
أوروبا ومأزق الهوية والدور
لعل أحد المداخل الأساسية لفهم المجتمعات الأوروبية هو إدراك التناقض الذي تعيشه على مستويات متعددة بين وعيها لذاتها من جهة، وتطلعها إلى دور متقدم على المسرح العالمي من جهة أخرى.
فالمجتمعات الأوروبية لا تستطيع تصور هويتها إلا في مقابل "آخر" مختلف عنها ومتناقض معها، وهي في نفس الوقت شديدة النزوع نحو التوسع وبسط نفوذها الرمزي والمادي خارج مجالها الطبيعي، سواء فعلت ذلك باسم رسالة الخلاص المسيحي، أو تحت لافتة ما تسميه مشروع الحداثة المستنيرة الذي حاولت بواسطته عولمة قيمها الخاصة وإخضاع بقية الأمم والشعوب لنموذجها الثقافي.
هذا التوتر الدائم بين محددات الهوية الثقافية ومقتضيات الدور التاريخي يفسر إلى حد بعيد التناقض الذي يطبع سلوك الغرب في ما يخص قيم التسامح والقبول بالتعددية، ويفسر تحديدا موقف المجتمعات الأوروبية من المسلمين الذين أخفقت كل المساعي الرامية إلى استيعابهم ضمن النموذج الغربي المعولم أو استلاب هويتهم وقبولهم باختزال قيمهم الثقافية في مظاهر فولكلورية هامشية على نحو ما فُعِلَ بشعوب أخرى.
ولفهم رد الفعل الأوروبي إزاء الموقف الممانع للهوية الإسلامية، قد يكون من المفيد الرجوع قليلا إلى التاريخ.
مع منتصف القرن السابع عشر بدا كما لو كانت أوروبا قد قررت بشكل حاسم القطيعة مع عصور من التعصب والصراع، حيث دخلت مرحلة من التسامح والسلام استمرت قرابة ثلاثة قرون، وحملت أحد أعظم فلاسفة أوروبا "إيمانويل كانت" على أن يشط به التفاؤل ليبشر بسلام دائم، منتشيا بحالة الاستقرار والتسامح التي ميزت حياة أوروبا في عصره.
لكن الصحيح أن أوروبا وجدت دائما صعوبة في التعامل بسلاسة مع مظاهر الاختلاف، ويكفي أن نتذكر حقيقتين هامتين لندرك حدود هذه الصحوة الظرفية ونفهم طرفا من أسباب التراجع اللاحق: الأولى أن السلام والتسامح كانا في اتجاه الداخل فحسب، وإلا فإن هذه الفترة نفسها عرفت أوج التوسع الاستعماري بكل فظاعاته الأخلاقية والمادية. أما الثانية فهي كون السلام والتسامح داخل الفضاء الأوروبي إنما أمكن الوصول إليهما بفضل تمايز طائفي وثقافي في إطار الكيانات القومية الناشئة، أتاح قدرا من الانسجام والتوافق ضمن حدود كل كيان.
وحتى في هذا السياق ظلت مناطق التماس في الغالب بؤرا للتوتر لا تكاد تخبو حتى تعود فتشتعل من جديد، وأبرز أمثلة ذلك علاقة البروتستانت بالكاثوليك في إيرلندا وعلاقة هؤلاء بالأرثوذكس في يوغسلافيا السابقة.
من هنا لم يكن مستغربا أن تعود أوروبا إلى الاحتراب الداخلي بعدما انفرط عقد الانسجام بفعل ظهور عوامل تناقض جديدة كالصراع الطبقي ومشاعر الاستعلاء القومي.
ولنفس الاعتبارات لم يكن مفاجئا أن تتراجع قيم التسامح والانفتاح والثقافة الإنسانية أمام مشاعر الخوف على الهوية، عندما وجدت المجتمعات الأوروبية نفسها في مواجهة التحديات التي فرضها التنوع الطارئ عليها مع استقرار أعداد معتبرة من المهاجرين استوطنت البلدان الغربية بشكل أساسي ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين.
الاستسلام للخوف والعجز
على امتداد العقود التي أعقبت مباشرة تَعَافِيَ القارة العجوز من آثار الحربين، تحولت أوروبا -بفضل ازدهارها اقتصاديا واستقرار أوضاعها السياسية وانفتاح مجتمعاتها ظاهريا- إلى مركز جذب استقطب أعدادا هائلة من المتعطشين لتحصيل معرفي متميز والطامحين إلى وضع اقتصادي أفضل، والفارين بكرامتهم -وبحياتهم أحيانا- من أنظمة الطغيان المستبدة بالأمور في كثير من بلدان العالم شرقا وغربا.
غير أن هذه الصورة المشرقة لأوروبا كأرض لجوء واستقبال، تعرضت لانتكاسة واضحة خلال العقود الأخيرة بفعل عوامل الطرد الاجتماعية والثقافية التي تراكمت تباعا وتفاقمت آثارها بشكل متسارع خلال العقدين الأخيرين، حين بدا جليا أن المجتمعات الأوروبية التي تباهت دوما بشعارات الديمقراطية والتسامح والانفتاح لم تكن في الواقع مهيأة بما فيه الكفاية للتفاعل الإيجابي مع مقتضيات العولمة، وخصوصا ما يتعلق بمستويات التنوع والاختلاف التي لا عهد لتلك المجتمعات بها.
هكذا تحولت أوروبا القوية الواثقة من نفسها المتطلعة إلى القيادة والمولعة بلعب دور الواعظ الأخلاقي والسياسي إزاء الأمم الأخرى، إلى كيانات مرعوبة منطوية على نفسها قلقة على هويتها، تضيق ذرعا بكل تعبير عن الاختلاف، ولا تكاد تطيق تحمل أي مظهر من مظاهر التعددية والتنوع.
هذا التغير في المزاج الأوروبي ضاعف من آثاره ضغط الأزمة الاقتصادية التي ضربت عددا من بلدان القارة خلال السنوات الأخيرة.
فقد كانت لهذه الأزمة انعكاسات ملحوظة على أوضاع شرائح اجتماعية واسعة وعلى أداء المؤسسات الحكومية وصورة الطبقة السياسية وعموم النخب الأوروبية التي تبين عجزها -سواء من مواقع الحكم أو المعارضة أو غيرهما من دوائر الفعل والتأثير- عن صياغة حلول أو تصور بدائل ملائمة لمواجهة التحديات التي فرضتها الأوضاع الاستثنائية الناجمة عن تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
لتعويض هذا العجز عن الاستجابة لمطالب وتطلعات المواطنين، اتجه طيف واسع من النخب الأوروبية إلى صناعة خطاب من شأنه أن يصرف اهتمام المواطنين عن المشكلات القائمة فعلا والمستعصية على الحل، باعثا في نفوس هؤلاء هواجس لها جذور في ثقافة أوروبا وتاريخها.
ولأن استغلال مشاعر الكراهية بدا ذا مردود سياسي سريع، تم توجيه الأنظار نحو الإسلام باعتباره عدوا أزليا لأوروبا وخطرا داهما يتعين صهر طاقات الجميع للتصدي له.
ثمن التوظيف السياسي للكراهية
وجدت قطاعات من النخب الأوروبية مفلسة سياسيا وفاشلة في إدارتها للأزمات التي تواجهها متنفسا في الهروب المنهجي نحو عالم العواطف، فاتجهت إلى التركيز على خطاب سياسي أجوف يقوم على تمجيد الهوية والتخويف من الآخر.
وارتكز الرهان على تقديم الوجود الإسلامي المتنامي نسبيا في القارة الأوروبية بفعل ظاهرة الهجرة، باعتباره خطرا ماثلا سيقوض مستقبل أوروبا ونظامها الاجتماعي وهويتها الثقافية والدينية.
لقد تم استغلال ظاهرة الإرهاب العابر للأوطان بشكل فج وغير مسؤول لتشويه صورة الجاليات الإسلامية والتضييق عليها، وجرى اللعب على عواطف المواطنين الأوروبيين بالإلحاح المغرض على جملة من المزاعم وأنصاف الحقائق، من قبيل ربط ارتفاع معدلات الجريمة في المجتمعات الأوروبية بالحضور المتزايد للأجانب، وتبرير تراجع مستوى الخدمات الاجتماعية وتدهور سوق العمل بالضغط الإضافي الذي يمثله الأجانب وتزايد منافسة هؤلاء للطبقات الدنيا من المواطنين.
وإمعانا في التهويل من شأن المخاطر التي تتربص بهوية المجتمعات الأوروبية، بدأت بعض الحكومات تنحو منحى شموليا لم يكن مألوفا من قبل، عبر التوسع في سن قوانين واعتماد إجراءات تجرّم بعض مظاهر الوجود الإسلامي وتحاصرها بدعوى مخالفتها للقيم الأوروبية.
وربما سعت الحكومات المذكورة من وراء اختلاق مشاكل تنتمي إلى المجال الرمزي والتدخل بوسائل السلطة لتقديم حلول مفترضة لها للتعويض عن فشلها في إيجاد حلول عملية للمشاكل الملموسة.
لكن النتيجة الوحيدة المؤكدة لهذا المسعى لم تكن سوى تضخيم الإحساس بالخطر الإسلامي، وخلق مزيد من الطلب على حلول خاطئة لمشاكل وهمية.
في مقابل هذا التضييق على مظاهر الوجود الإسلامي وغيره من تعبيرات الاختلاف، توسعت تدريجيا دائرة المسموح به في الخطاب السياسي وتقلصت المساحة الفاصلة بين برامج الأحزاب التقليدية وأطروحات تيارات اليمين المتطرف، التي استغلت بفعالية المناخ الاجتماعي السائد لتضع برامجها في موقع متقدم على المستوى المؤسسي، سواء بحضورها الانتخابي المباشر أو من خلال مضامين خطابها المتطرف التي تسربت إلى برامج الأحزاب التقليدية بعدما أصبحت هذه الأخيرة حريصة على التنافس مع القوى المتطرفة في معركة مفتوحة لكسب قلوب ناخبين تزداد نسبة التطرف بينهم يوما بعد يوم.
وخلال سنوات قليلة تَكَرَّسَ في عدد من البلدان الأوروبية ما يمكن أن يسمى "الكراهية المؤسسية"، أي وجود سياسات رسمية تتوخى تلبية مشاعر الكراهية وتسعى إلى إرضائها بل وتغذيتها وإعادة إنتاجها في بعض الحالات.
ونجد مثالا لهذه السياسات الخاطئة القائمة على الكراهية في الإستراتيجيات الأمنية التي تستند -خاصة منذ مطلع القرن الحالي- إلى فكرة شيطنة الإسلام ومبدأ التعامل بريبة مع كل ما هو إسلامي، وهو مسلك كان له أثر كبير في انصراف الأجهزة الأمنية ومؤسسات صناعة الرأي العام الأوروبية عن الاهتمام بمصادر الخطر الذاتية، وفي مقدمتها نزعات التطرف اليميني المتصاعدة في أكثر من بلد أوروبي.
لم يكن ضروريا أن تسيل كل الدماء التي سالت في النرويج ليتبين منتجو خطاب العداء للإسلام أن من يزرع الريح يحصد العاصفة، وأن مشاعر الكراهية لا يمكن ترويضها واستغلالها حسب الحاجة، فهذه حقائق من البداهة بمكان لمن كان له عقل.
لكن من المشروع تمني أن تكون الفاجعة كافية ليدرك مستهلكو ذلك الخطاب أن ضرره لا يطال المسلمين فحسب، لأن الكراهية إذا جمحت يستحيل التكهن بالمسارات التي يمكن أن تسلكها.
ولعل أوروبا تثوب إلى رشدها فتأخذ على أيدي مروجي الكراهية الذين لم يعد أمرهم يقتصر على الإساءة للآخر، بل أصبحوا يتسببون في الأذى لأوروبا نفسها.
؟؟؟ ؟؟؟ ؟؟؟